النابعة الذبياني
1 - هو زيادة بن معاوية من غيظ بن مرة من ذبيان من قيس من مضر؛ وكنيته أبو أمامة، ولقب بالنابغة لنبوغه في الشعر وهو كبير دفعة واحدة بعد أن أحكمته التجارب ومشى به السن وهو أ حد الأشراف الذين غض الشعر منهم، ويعد من شعراء الطبقة الأولى مع امرئ القيس، وكانت تضرب له قبل بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها فيفاضل بينهم.
وكان النابغة من أشراف قومه، ومع تكسبه بالشعر فإنه كان يعتز بنفسه، لا كما صنع الأعشى. وكان يقصد الملوك ويمدحهم في غير صنعة فيجزلون له العطاء. اتصل بالنعمان بن المنذر أبي قابوس ملك الحيرة الذي تولى الملك من عام 580 - 602 م، ومدحه بقصائد رائعة كثيرة، فقربه النعمان إليه، وصار أثيراً عنده ومن ندمائه، وغمره بعطائه الجزل، حتى صار النابغة يأكل في صحاف الذهب والفضة، ثم غضب عليه.. وتختلف الروايات في سبب ذلك.
قيل إن النابغة رأى زوجة النعمان "المتجردة" يوماً في حين غفلة فسقط نصيفها عن وجهها فاستترت بيدها وذراعها، فقال فيها قصيدته:
أمن آل أمية رائح أو مغتدي
عجلان ذا زاد وغير مزود
فامتلأ النعمان غضباً وأوعد النابغة فهرب.. وقيل إن غضب النعمان عليه لأن أحد خصوم النابغة وهو عبد القيس التميمي ومرة بن سعد السعدي نظما هجاء في النعمان على لسان النابغة وأنشد النعمان أبياتاً منها:
قبح الله ثـم ثـنـى بـلـعـن
وارث الصائغ الجبان الجهولا
من يضر الأدنى ويعجز عن ض
ر الأقاصي ومن يخون الخليلا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغـزو
ثم لا يرزأ الـعـدوفـتـيلا
وكانت أم النعمان بنت صائغ من فدك - بلدة قريبة من المدينة - فنبر النابغة من ذلك الشعر، ولكنه خاف على نفسه فهرب إلى الشام.
وقيل ان سبب وعد النعمان للنابغة أنه كان هو والمنخل اليشكري جالسين في مجلس النعمان ومعهم زوجته المتجردة، فقال النعمان للنابغة: صفها في شعرك. فقال قصيدته:
أمن آل مية رائح أو مغتدي
عجلان ذا زاد وغير مزود
فلحقت المنخل غيرة، فقال للنعمان: ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من عرف. فحقد النعمان على النابغة وعلم بذلك فخافه وهرب. وقيل إن النابغة وصف امرأة بقصيدته "يا دار مية بالعلياء فالسند" فوشى للنعمان أنه يعني زوجته المتجردة.. وأياً ما كان فقد كان لوشايات خصوم النابغة أثرها في تغير قلب النعمان وسخطه عليه، فهرب وأتى قومه، ثم شخص إلى ملوك غسان بالشام، وكانوا أعداء لملوك الحيرة، فاتصل النابغة بعمرو بن الحارث الأصغر ملك غسان ومدحه ومدح أخاه النعمان وظل لديه حتى مات، وملك أخوه النعمان، فأقام عنده أثيراً لديه. ولكنه كان يحن إلى بلاط النعمان بن المنذر ملك الحيرة، ويرسل إلى الملك قصائد من اعتذارياته الرائعة يتبرأ فيها مما رمى به ويعتذر مما كان. وتوالت اعتذاراته على النعمان فعفا عنه فعاد إليه وعاشره في الحيرة.. ويقال أن النابغة استجار ببعض المقربين لدى النعمان فكلموه في شأنه، حتى أمنه وأمر له بمائة بعير. ويقال أن النابغة علم بمرضه فلم يملك صبره وسار إليه فألفاه في مرضه فمدحه. ثم عوفي النعمان فأمنه وأقام عنده، وظل النابغة عظيماً شريفاً مكرماً عند الملوك والأمراء، وتوفي عام 604 م.
- 2 - وفي الأغاني ترجمة طويلة له، وكذلك في الشعر والشعراء لابن قتيبة كما عرض له ابن سلام في طبقات الشعراء، وكذلك شعراء النصرانية، وكذلك صاحب كتاب تاريخ الأدب في العصر الجاهلي، وأخرج الأستاذ عمر الدسوقي كتاباً عنه، كما نشر عدد عنه في سلسلة "الروائع".. وعرض له صاحب الجمهرة، والمرزباني في الموشح، وكثير من العلماء، كما كتب عنه الزيات وجورجي زيدان وأصحاب الوسيط والمفصل، وسواهم.
وشعر النابغة لطيف رقيق إذا تملكته عاطفة قوية من إشفاق أو حماسة أو رهبة كما ترى في أهاجيه ومدائحه واعتذارياته، وقيل عنه أشعر الناس إذا رهب وهو في اعتذارياته حزين عميق الحزن قلق مضطرب يداخله التشاؤم واليأس الشديد ذلك كله لأن خيال الشاعر دقيق واسع، يسمو إلى درجة عالية في إكمال الصورة وإيضاح المشابهات، يتوسع بالتشبيه، ويفسح له خياله المجال في التصوير، كما في وصفه للفرات أو لغيره.
وتمتاز معانيه بالدقة والانسجام والتآلف والصدق والقرب من العقل والبعد عن التعقيد والغموض، مع مراعاة المخاطبين، ومع البصر بمواقع الكلام.
وقد أجاد النابغة في المدح والاعتذار والعزل والفخر إجازة بالغة كما أجاد في الوصف والرثاء والحكمة إجادة دون ذلك.
وأسباب إجادته في المدح معروفة منها حب المال، وخصب الخيال، وقوة الذكاء، وميله إلى التجويد والتنقيح، والتهذيب إلى غير ذلك من الأسباب.
وإجادته في الاعتذار كذلك كان الباعث عليها الرهبة والخوف مع الرغبة والأمل. أما الوصف فقد أجاد في بعض دون البعض الآخر، فأجاد في وصف الثور والوحش والفرات وما إلى ذلك.
وقال الأصمعي: لم يكن النابغة وزهير وأوس يحسنون صفة الخيل، ولكن طفيل الغنوي أحسن في صفة الخيل غاية الإحسان.
- 3 - ويمتاز شعر النابغة ببلوغه غاية الحسن والجودة ونقاوته من العيوب وجودة مطالع قصائده وأواخرها. وكان البدو من أهل الحجاز يحفظون شعره ويفاخرون به لحسن ديباجته وجمال رونقه وجزالة لفظه وقلة تكلفه وليس له نظير في وصف الإحساسات النفسية كالخوف وما شابه ذلك.
أجاد في المدح كما بلغ الغاية في الاعتذار واعتذارياته إلى النعمان من عيون الشعر العربي وهي فن جديد من فنون الشعر الجاهلي. وتبلغ غاية الجودة والإحسان ومنها قوله:
نبئت أن أبا قابوس أوعـدنـي
ولا قرار على زأر من الأسد
مهلاً فداء لك الأقوام كلـهـم
وما أثمر من مال ومنولـد
وقوله:
أتاني أبيت اللعـن أنـك لـمـتـنـي
وتلك التي تستك منها المـسـامـع
مقالة أن قد قـلـت سـوف أنـالـه
وذلك من تلـقـاء مـثـلـك رائع
فإنك كاللـيل الـذي هـو مـدركـي
وإن خلت أن المنتأى عنـك واسـع
وأنت ربيع ينعـش الـنـاس سـيبـه
وسيف أعيرته الـمـنـية قـاطـع
أبـى الـلـه إلا عـدلـه ووفــاءه
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
وقوله:
أتاني أبيت اللعن أنك لمـتـنـي
وتلك التي أهتم منها وأنصـب
فبت كأن العائدات فرشـنـنـي
هراساً به يعلى فراشي ويقشب
حلفت فلم أترك لنفسـك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
ألم تر أن الله أعطاك سـورة
ترى كل ملك دونها يتذبـذب
فإنك شمس والملوك كواكـب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وقد عده بعض العلماء من شعراء المعلقات ومطلع معلقته:
يا دار مية بالعلياء فـالـسـنـد
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وتقع في واحد وخمسين بيتاً. وهي من قصائده الاعتذاريات، بدأها ببكاء الاطلاق كالمألوف من أشعار الجاهلية، ثم انتقل من ذلك إلى وصف ناقته:
فقد عما ترى إذ لا ارتجاع له
وانم القتود على عيرانة أجد
وشبهها بوحش وجرة، ثم أفاض كعادته في وصف وحش وجرة، والكلاب الصائدة، ودخل من ذلك إلى النعمان:
فتلك تبلغـنـي الـنـعـمـان إن لـه
فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد
ولا أرى فاعلاً في النـاس يشـبـهـه
وما أحاشي مـن الأقـوام مـنأحـد
ثم طلب إليه أن يكون حكيماً في أمره، لا يقبل سعاية الساعين، ونفى عن نفسه ما اتهم به
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهـه
إذا فلا رفعت سوطي إلى يدي
هذا لأبرأ من قول قذفـت بـه
كانت نوافذه حراً علىالكبـد
ثم مدحه بالكرم، وأنه يشبه نهر الفرات، واسترسل في وصف الفرات كعادته أيضاً.. وختمها بقوله:
ها إن تاعذرة إلا تكن نفعت
فإن صاحبها قد تاه في البلد
ويظهر من شعره التدين والتزام مكارم الأخلاق، فهو يقول:
قالت أراك أخاً رحـل وراحـلة
تغشى متالف لن ينظرنك الهرما
حياك ربي فأنـا لا يحـل لـنـا
لهو النساء وإن الدين قد عزمـا
مشمرين على خوص مـزمـمة
نرجو الإله ونرجو البر والطعما
وقوله:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي حومة المستأسدالحامي
وقوله:
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكر والإقدامـا
وصيرته ملكاً هـمـامـاً
من علا وجاوز الأقواما
وقدم عمر بن الخطاب النابغة على جميع الشعراء في غير موضع، وفضله على جميع شعراء غطفان في موضع آخر، ويروى عن حسان قصة تدل على مكان النابغة عند النعمان وفضله لديه على جميع الشعراء، وحسان منهم. وحضر النابغة سوق عكاظ مرة فأنشده الأعشى ثم حسان ثم شعراء آخرون ثم الخنساء فقال لها: لولا أن أبا بصير أنشدني لقلت إنك أشعر الجن والإنس، فقال له حسان: أنا أشعر منك ومن أبيك. فقال له النابغة: يابن أخي إنك لا تحسن أن تقول:
فإنك كالليل الذي هـو مـدركـي
وإن خلت أن المنتأى عنك أواسع
ومن روائع شعره قصيدته:
كليني لهم يا أميمة نـاصـب
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
ومن معانيه المبتدعة قوله:
نبئت أن أبا قانوس أوعـدنـي
ولا قرار على زأر من الأسد
وقوله:
فلو كفى اليمين بغتك خونـا
لا فردت اليمين عن الشمال
وأخذه عن المثقب العبدي فقال:
ولو أني تخالفني شمالـي
بنصر لم تصاحبها يميني
وقوله:
فحملتني ذنـب امـرئ تـركـتـه
كذي العري يكوي غيره وهو رائع
وقد أخذت الكميت فقال:
ولا أكوى الصحاح براتعات
بهن العر قبلي ما كوينـا
وقوله وهو أحسن ما قيل في العفة:
رقاق النعال طيب حجزاتهـم
يحيون بالريحان يوم السباسب
وما يتمثل به من شعره:
ومن عصاك فعاقبه مـعـاقـبة
تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
وقوله:
واستبق ودك للصديق ولا تكن
فتبا يعض بغارب ملحاحـا
أخذه ابن ميادة فقال:
ما إن ألح على الإخوان أسألهم
كما يلح بعض الغارب القتب
ومما يمثل به من شعره قوله:
لونها عرضت الأشمط راهب
عبد الإله ضرورة متعبـد
لرنا لبهجتها وحسن حديثهـا
ولخاله رشدا وإن لم يرشـد
أخذه ربيعة بن مقروم فقال:
لو أنها عرضت لأشمط راهب
في رأس مشرفة الذرى يتبتل
لرنا لبهجتها وحسن حديثـهـا
ولهم من ناموسـه يتـنـزل
ومن أمثالها ثم أصدق من قطاة - قال النابغة
تدعو القطاويها تدعى إذا نسبت
يا حسنها حين تدعوها فتنسب
أخذه ابو نواس فقال أصدق من قوة قطاة قطا. ومن حكمه:
ولست بمستبق أخـاً لا تـلـمـه
على شعث، أي الرجال المهذب؟
ومما سبق إليه قوله:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها
نظر السقيم إلى وجوه العود
وقد أخذه أبو نواس فقال:
ضعيفة كر الطرف تحسب أنها
قريبة عهد بالأفاقة منسقـم
ومما يستحسن من قوله:
حسب الخليلين نأي لأرض بينهما
هذا عليها وهذا تحتهابـالـي
وقوله:
الـمـرء يأمـل أن يعـي
ش وطول عيش قد يضره
تفنـى بـشـاشـتـه ويب
قى بعد حلو العيش مـره
وتـخــونـــه الأيام ح
تى لا يرى شـيئاً يسـره
كم شامت بـي إن هـلـك
ت وقـائل: لـلــه دره
ومما سبق إليه ولم يحسن تشبيهه قوله:
من وحش وجرة موشـى أكـارعـه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
فشبه الثور في بياضه والتماعه بالسيف المجرد من الغمد، ولم تسمع كلمة "الفرد" إلا في هذا الشعر؛ وللطرماح في المعنى نفسه:
يبدو وتضمره البـلاد كـأنـه
سيف على شرف يسل ويغمد
وهذا أكمل في التشبيه لدلالته على الاختفاء، والظهور المأخوذ من حركة هذا الثور الوحشي.
وفضل ناقد أمام الأصمعي قول النابغة:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها
نظر السقيم إلى وجوه العود
وقوله:
فإنك كالليل الذي هـو مـدكـي
وإن خلت أن المنتأى عنك أوسع
وقوله:
من وحش وجرة موشـى أكـارعـه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
فقال الأصمعي: أما تشبيهه مرض الطرف فحسن، إلا أنه هجنه بذكره العلة وتشبيهه المرأة بالعليل، وأحسن منه قول عدي بن الرقاع العاملي:
وكأنها بين النساء أعـارهـا
عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصدة النعاس فرنقت
في عينه سنة وليس بنـائم
وأما تشبيه الإدراك بالليل فقد تساوى الليل والنهار فيما يدركانه، وإنما كان سبيله أن يأتي بما ليس له سيم؛ حتى يأتي بمعنى ينفرد به ولو قال قائل: إن قول "النمري" في هذا أحسن لو وجد مساغاً إلى ذلك، حيث يقول:
فلو كنت بالعنقاء أو بسنامها
لخلتك إلا أن تصد تراني
وأما قوله: "طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد" فالطرماح أحق بهذا المعنى؛ لأنه أخذه فجوره، وزاد عليه، وإن كان النابغة اخترعه، وقول الطرماح هو:
يبدو وتضمره البـلاد كـأنـه
سيف على شرف يسل ويغمد
فقد جمع في هذا البيت استعارة لطيفة بقوله "وتضمره البلاد" وتشبيهه اثنين بقوله "يبدو وتضمر، ويسل ويغمد"؛ وجمع حسن التقسيم، وصحة المقابلة.
وقال جعفر أمام الأصمعي في مجلس الرشيد: لست أفص على شاعر واحد أنه أحسن الناس في بيت تشبيها، ولكن قول امرئ القيس:
كائن غلامي إذ علا حال متـنـه
على ظهر باز في السماء محلق
وقول عدي بن الرقاع:
يتعاوران من الغبار مـلاءة
غبراء محكمة هما نسجاها
تطوى إذا وردا مكاناً خاسـئاً
وإذا السنابك أسهلت نشراها
وقول النابغة:
بأنك شمس والملوك كواكـب
إذا طلت لم يبد منهن كوكب
قال الأصمعي: قلت هذا حسن كله بارع، وغيره أحسن منه؛ وإنما يجب أن يقع التعيين على ما اخترعه قائله، ولم يتعرض له أحد، أو تعرض له شاعر فوقه دونه. فأما قول امرئ القيس: "على ظهر باز في السماء محلق". فمن قول أبي داود.
إذا شـاء راكـبـه ضـمـه
كما ضم بازي السماء الجناحا
وأما قول عدي: "يتعاوران من الغبار ملاءة" فمن قول الخنساء:
جارى أباه فأقبلا وهمـا
يتعاوران ملاءة الحضر
وأول من نطق به جاهلي من بني عقيل، قال:
ألا يا دار الحي بالـبـرهـان
عفت حجج بعدي لهن ثماني
فلم يبق منها غير نؤدى مهـدم
وغيره أثاف كالركى دفـان
وآثار هاب أورق اللون سافرت
به الريح والأمطار كل مكان
قفار مريرات يحاز بها القطار
ويضحى بها الجنان يعتركان
يثيران من نسج الغبار عليهمـا
قميص أسـمـالا ويرتـديان
وشارك عدياً أبو النجم، وأورده في أحسن لفظ، قال يصف عيراً وأتاناً، وما أثاراه من الغبار بعدوهما:
ألقى بجنب القاع من حبالها
سرباله وانشام في سربالها
وأما قول النابغة: "بأنك شمس والملوك كواكب" فقد تقدمه فيه شاعر قديم من شعراء كندة يمدح عمرو بن هند، وهو أحق به من النابغة إذ كان أبا عذرته، فقال:
وكادت تميد الأرض بالناس إذ رأوا
لعمرو بن هند غضبة وهو عاتب
هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت
عل كل ضوء والملوك كواكـب
قال الأصمعي: فكأني والله ألقمت جعفراً حجراً فاهتز الرشيد فوق سريره وكاد يطير عجباً وطرباً. وقال: والله لله درك يا أصمعي اسمع الآن ما كان عليه اختياري ليقل أمير المؤمنين فقال عينت على ثلاثة أشعار أقسم بالله أني أملك السبق بأحدها ثم قال الرشيد أتعرف يا أصمعي تشبيهاً أفخر أو أعظم في أحقر مشبه وأصغره في أحسن معرض من قول عنترة الذي لم يسبقه إليه سابق ولا نازعه منازع ولا طمع في مجاراته طامع حين شبه ذباب الروض العازب في قوله:
وخلا الذباب بها فليس مبـارح
غردا كفعل الشارب المترنـم
هزجا يحك ذراعه بـذراعـه
فعل المكب على الزناد الأجذم
ثم قال: يا أصمعي هذا من التشبيهات العقم التي لا تنتج، فقلت كذلك هو يا أمير المؤمنين وبمجدك آليت ما سمعت قط أحداً يصف شعره بأحسن من هذه الصفة ولا استطاع بلوغ هذه الغاية فقال مهلاً لا تعجل.. أتعرف أحسن من قول الحطيئة يصف لغام ناقته أو تعلم أحداً قبله أو بعده شبه تشبيهه، حيث يقول:
ترى بين لحييها إذا ما ترغمت
لغاماً كنسج العنكبوت الممدد
فقلت والله ما علمت أحداً تقدمه إلى هذا التشبيه، أو أشار إليه بعده ولا قبله قال أتعرف بيتاً أبدع وأوقع من تشبيه الشماخ لنعامة سقط ريشها وبقي أثره في قوله:
كأنما منثنى أقماع ما مرطت
من العفاء بليتيهاالثـآلـيل
فقلت ولا والله يا أمير المؤمنين، فالتفت إلى يحيى، فقال أوجب؟ فقال وجب، ويؤخذ على النابغة بعض مبالغات في معانيه كقوله:
إذا ارتعثت خاف الجبان رعاثها
ومن يتعلق حيث علقيفرق
وكقوله: تقد السلوقى المضاعف نسجه=وتوقد بالصفاح نار الحباحب فقد ذهب إلى أن سيفه يقطع الدرع المضاعف والفارس والفرس ثم يذهب في الحجارة فيقدح فيها الشرر. ويؤخذ عليه قوله:
وكنت امرأ لا أمدح الدهر سوقه
فلست على خير أتاكبجاحـد
فتراه يمتن على ممدوحه بمدحه إياه، وجعله خيراً أتاه ولا يحسد عليه، وإنما يحسن الثناء إذا كان خالصاً من كل وجه.
وأخذوا عليه الخنونة في بعض معانيه، كقوله:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقـتـنـا بـالـيد
يتبع