لابد للتكييف الفقهي من خطوات منهجية ليتم لنا البناء المعرفي بهذه العملية الفكرية الاجتهادية، لتتضح الصورة أكثر لدى المتصدي لها، وهي كما يلي:
1 – التعرف على الواقعة المستجدة: وهي المسألة المستحدثة التي تعرض على المجتهد ليحكم فيها[10] وتحليلها إلى عناصرها الأولية وهي تشمل كل من:
أ – المسائل التي استحدثها الناس ولم تكن معروفة في عصور التشريع أو الإجتهاد مثل النقود الورقية، وسند الملكية.
ب- المسائل التي تغيرت علة الحكم فيها نتيجة التطور وتغير الظروف والأحوال مثل التقابض الحقيقي في صرف العملات التي تجريها البنوك عند شراء العميل عمله أجنبية من خلال حسابه ليقوم بتحويلها إلى الخارج، فعملية القيد بالحساب التي يجريها موظف البنك أصبحت في مقابل التقابض الحقيقي والتي تعارف على تسميتها بالتقابض الحكمي.
ج – العقود المركبة، والتي تتكون من أكثر من صورة من صور العقود القديمة، مثل بيع المرابحة للآمر بالشراء، فإنها تتكون من بيع عادي، ووعد من العميل بالشراء، وبيع مرابحة.
2 – التعرف على الأصل الذي تكيف عليه الواقعة: وهو محل الحكم الذي يريد المجتهد التسوية فيه بينه وبين الواقعة المعروضة[11] وقد يكون الأصل نص من القرآن أو السنة او إجماع أو على قاعدة كلية أو على نص لفقيه، ويجب هنا على المجتهد أن يتحقق من ثبوت الأصل الذي تكيف عليه الواقعة وأن يفهمه فهماً جيداً مقرونة بظروفها وشروطها.
3 - المطابقة بين الواقعة المستجدة والأصل: وهي جوهر عملية التكييف الفقهي وهو ان يجمع بين الواقعة المستجدة والأصل في الحكم لإتحادهما في العلة[12]، وهذا يتطلب مجانسة بينهما في العناصر الأساسية من أركان وشروط وعلاقات بين أطراف الواقعة[13] ، لذلك يجب لإلحاق الواقعة المستجدة بالأصل أن تكون هناك مجانسة ومطابقة بينهما في العناصر الأساسية من أركان وشروط وعلاقات بين أطراف الواقعة المستجدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- شبير , محمد عثمان , التكييف الفقهي للوقائع المستجدة وتطبيقاته الفقهية , دار القلم , دمشق , 2004 , ص 30.
2- شبير , محمد عثمان , مرجع سبق ذكره , ص 30.
3- سورة النساء , آيه 83.
4- القرطبي , الجامع لأحكام القرآن , دار إحياء التراث العربي , بيروت , 1965 , 3/292.
5 - صحيح البخاري , كتاب الزكاة , باب لايجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع: 2 / 122.
6- ابن حجر العسقلاني , فتح البارىء في شرح صحيح البخاري , المطبعة السلفية , القاهرة , 3 / 314.
7- السيوطي , الأشباه والنظائر , مطبعة مصطفى الحلبي , القاهرة , 1959 , ص 7.
8- السيوطي , مرجع سابق , ص 7.
9 - شبير , محمد عثمان , مرجع سابق , ص 20.
10- شبير , محمد عثمان , مرجع سبق ذكره , ص 64.
11- شبير , محمد عثمان , مرجع سبق ذكره , ص 73.
12- شبير , محمد عثمان , مرجع سابق , ص 93.
13- شبير , محمد عثمان , مرجع سابق , ص 93.
معنى التكييف الفقهي.
يعتبر مصطلح التكييف الفقهي من المصطلحات الحادثة التي لم يذكرها العلماء السابقون بهذا اللفظ، وإنما ذكروه بألفاظ مقاربة منها(1):
1- ( تصوير المسألة ) أو ( تصوّر المسألة )(2) ومن ذلك قولهم في القاعدة: (( الحكم على الشيء فرع عن تصوّره ))(3)
2- ( التخريج ) سواء أكان تخريج الفروع على الأصول، أم تخريج الفروع على الفروع، وهو نقل حكم مسألة إلى ما يشابهها والتسوية بينهما كما ذكر المرداوي(4)
3- ( تحقيق المناط ) وهو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور سواء أكانت العلة معروفة بالنص أم بالاستنباط.
وقد تنوعت العبارات في تعريف ( التكييف الفقهي ) فقيل:
1- هو (( تحرير المسألة وبيان انتمائها إلى أصل معين معتبر )).(5)
2- عرّفه الدكتور مسفر القحطاني بأنه : (( التصوّر الكامل للواقعة وتحرير الأصل الذي تنتمي إليه )).(6)
3- عُرّف أيضاً بأنه : (( تصنيف المسألة تحت ما يناسبها من النظر الفقهي )).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة 356 وما بعدها.
(2) انظر على سبيل المثال: المنخول للغزالي ص 608، أدب المفتي لابن الصلاح ص 100.
(3) انظر: شرح الكوكب المنير 1/50.
(4) انظر: الإنصاف للمرداوي 1/6 .
(5) معجم لغة الفقهاء ص 143 .
(6) منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة ص 354 .
أو يُقال : (( رد المسألة إلى أصل من الأصول الشرعية )). 1
4- عرّفه الدكتور محمد عثمان شبير بأنه : (( تحديد لحقيقة الواقعة المستجدة لإلحاقها بأصل فقهي، خصه الفقه الإسلامي بأوصـاف فقهية، بقصـد إعـطاء تلك الأوصاف للواقعة المستجدة عند التحقق من المجانسة والمشابهة بين الأصـل والـواقعة المستجدة في الحقيقة ))2
فهذه التعاريف في الحقيقة متقاربة في معناها، ولعلّ أقربها إلى المقصود في نظري هو التعريف الثالث لأنه ربط المسألة ربطاً فقهياً شرعياً فأخرج بذلك باقي العلوم، وأما التعريف الرابع فهو طويل جداً، ويغني عنه ما سبقه، وأما التعريف الأول والثاني فإنهما قد عرّفا التكييف بشكلٍ عام.
المطلب الثاني: ضوابط التكييف الفقهي.
وبما أن التكييف الفقهي الذي ينبني عليه الاجتهاد خاضع لما تقدّم من التصوير والتخريج وتحقيق المناط، وهذه الأمور تتفاوت من مجتهد إلى آخر، بحسب تفاوت درجات الاستنباط كما قال السيوطي رحمه الله.3
لذا كان ذلك التفاوت داعياً إلى اختلاف وجهات نظر المجتهدين حسب ما يظهر من عميلة التكييف الفقهي، ونظراً لأهمية التكييف الفقهي، وضرورة الدقة فيه سعياً لوصول المجتهدين إلى أدق النتائج وأصوبها كانت الحاجة ماسّة إلى وضع ضوابط ينبغي مراعاتها عند القيام بالتكييف الفقهي فمن ذلك4:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موقع الأصالة الإسلامية العالمية لتقريب العلوم الشرعية ( على شبكة الإنترنت ) المشـرف على الموقع / علي حسن الحلبي .
(2) التكييف الفقهي للوقائع المستجدة وتطبيقاته الفقهية ص 30، نقلاً من مقال التكييف الفقهي للعقود المالية المستجدة وتطبيقاتها على نماذج التمويل الإسلامية المعاصرة لأحمد محمد نصار.
(3) الرد على من أخلد إلى الأرض ص181 .
(4) انظر: منهج استنباط أحكام النوازل ص 364 .
أولاً: أن يكون التكييف الفقهي مبنياً على نظر صحيح معتبر لأصول التشريع، فتُكيّف النازلةُ بأقرب الأصول الشبيهة لها لتأخذ بعد ذلك حكم ذلك الأصل.
فلا تكيّف على أساس الهوى والتشهي، فيصبح الحرام حلالاً، والحلال حراماً، أو تكيّف على أوهام وتخيلات أو أمور عارضة أو ظنون فاسدة.
ثانياً: بذل الوسع في تصور الواقعة التصور الصحيح الكامل؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوّره .
ثالثاً: تحصيل المجتهد الملكة الفقهية في استحضار المسائل وإلحاقها بالأصول.
السياسة الشرعية أو العمل السياسي مجال حكم ومقاصد لا مجال تعبد
يقول ابن القيم رحمه الله في (الطُّرق الحُكمية) مُعلِّقًا على ما قاله الإمام الحنبلي أبو الوفا ابن عقيل (ت513هـ) -الذي قال عنه ابن تيمية: كان من أذكياء العالم. وكل الذين درسوا ابن عقيل يعلمون أنه رجل بالغ الذكاء، موسوعي المعرفة، حُرُّ التفكير- قال: (قال ابن عقيل في (الفنون): جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم. ولا يخلو من القول به إمام.
فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.
فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.
فإن أردت بقولك: (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع؛ فصحيح
وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع: فغلط، وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن. ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف فإنه كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق علي رضي الله عنه، الزنادقة في الأخاديد، فقال:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرا أججت ناري ودعوت قُنْبرا
ونفي عمر رضي الله عنه لنصر بن حجاج اهـ
قال ابن القيم مُعلِّقًا .
وهذا موضع مَزَلَّة أقدام، ومَضَلَّة أفهام. وهو مقام ضنك، ومعترك صعب فرط فيه طائفة: فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق،
وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها. وسدوا على نفوسهم طُرُقًا صحيحة من طُرُق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها، مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا: أنها حق مطابق للواقع، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولَعَمْرُ الله! إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول، وإن نَفَتْ ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم.
لقد دأب علماؤنا على التفرقة بين ماهو تعبدي وما هو عادي
يقول الإمام ابن تيمية(1): "إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون في دنياهم.
فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى· وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لابد أن يكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟!·· وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟! ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله**(سورة الشورى،21)، والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا**(سورة يونس، 59)، وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاؤون ما لم تحرم الشريعة ·· ولم تحد الشريعة في ذلك حداً فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي.
يتبين من هذا الرأي للإمام ابن تيمية أن الأصل في العادات الإباحة· والعادات مصطلح يشمل كل ما يتعلق بأمور الحياة الدنيا من اقتصاد وسياسة وغير ذلك .
ويوافق ما ذهب إليه ابن تيمية ثلة من العلماء منهم الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه وابن القيم في إعلام الوقعين وأبو إسحاق الشاطبي في الإعتصام والموافقات
وينبني على هذا الأصل قاعدتان مهمتان هما :
الأصل في العبادات والمقدرات التعبد ، والأصل في العاديات المعاملات الحكم والمقاصد. 1
الأصل في العبادات التوقيف حتى يرد الإذن ، والأصل في العاديات الإباحة حتى يرد الحظر . 2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - الموافقات :ج 2/ 300- 307 الإعتصام : 2/ 129 132
2 - الفتاوى ج 29 / 16-172
العمل السياسي مجال للإجتهاد وتعدد الأراء
وهذه القاعدة توضح أن مجال العمل السياسي يدخل في باب المعاملات والحكم والمقاصد لا في باب التعبد ، لأن الأول غير الثاني في ميزان الشريعة ، يقول الإمام الشاطبي : لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد التعبدي ، وما عقل تعناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد التعبدي 1
وإذا كان الأمر مجال استنباط و قياس ساغ الإجتهاد فيه ، وإذا ساغ الإجتهاد جاز الإختلاف ، ومنع الإنكار إذ لا إنكار في مسائل الخلاف والإجتهاد كما قررها علماؤنا:
يقول ابن القيم : إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلدا .
قال يحيى بن سعيد الأنصاري : ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- إعلام الموقعين 3 – 365
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: "كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة" 1.
ويقول "فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ" 2.
ويقول يونس الصدفي: “ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة”.
قال الذهبي: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون" 3.
وقال محمد بن أحمد الفنجار:" كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم، وكان بينه وبين أبي حفص أحمد بن حفص الفقيه مودة وأخوة مع تخالفهما في المذهب" 4.
وصدق الشاعر حين قال:
في الرأي تضطغن العقول وليس تضطغن الصدور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 – سير أعلام النبلاء 10/16-17
4 - سير أعلام النبلاء10/630
وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ.
يقول سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. 1.
وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به. 2.
ويقول أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: <لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم.
ويقول ابن مفلح: لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع. 3.
قال النووي: "ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً" 4
ويقول ابن تيمية: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه" 5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - الفقيه والمتفقه 2/69
3 - الآداب الشرعية 1/186
4 - شرح النووي على صحيح مسلم 2/24
5 - مجموع الفتاوى20/207
وسئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة. 1.
وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. 2.
عن أنس قال: إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر 3
ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه النظرية وهو يناقش جواز تولي الولايات العامة وإن ترتبت على ذلك بعض المفاسد ، أو جواز عفو العالم في الأمر بالمعروف أو النهي إلى حين الإستطاعة ، قال شيخ الإسلام : "وممّا يدخل في هذه الأمور الاجتهاديه علماً وعملاً:
أنّ ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو رحمة فإذا لم يرَ العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به، أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة، ولا ينهى عنه إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده ولا أن يوجب عليه اتباعه.
فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة، لا يأمر بها ولا ينهى عنها بل هي بين الإباحة والعفو وهذا باب واسع جداً فتدبره" 4اهـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - التمهيد، ابن عبد البر 11/54
2 - الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص105
3 - البيهقي في السنن ح5225
العمل السياسي مجال ترجيح الراجح من المصالح والمفاسد
وهي قاعدة ذهبية نفيسة جليلة ، استعملها شيخ الإسلام ابن تيمية استعمال الراسخين في العلم العارفين بمقاصد الشريعة :
يقول وهو يتحدث عن مشروعية حيازة الولاية العامة للمسلم الصالح المريد للخير وان اشتملت على بعض الباطل والظلم
فالواجب إنما هو الأرضى من الموجود ، والغالب أنه لا يوجد كامل ، فيفعل خير الخيرين ويدفع شر الشرين ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : اللهم إليك أشكو جلد الفاجر وعجز التقي
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس، وكلاهما كافر، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام ، وأنزل الله في ذلك سورة الروم لما اقتتلت الروم وفارس والقصة مشهورة. وكذلك يوسف كان نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون، وفعل من الخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويواصل ابن تيمية رحمه الله استدلاله على جواز تولي الولايات العامة إن لم يكن واجبا . يقول رحمه الله في معرض بيان قاعدة ارتكاب أخف الضررين :
إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصداً وقدرة: جازت له الولاية وربما وجبت! وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها، من جهاد العدو، وقسم الفيء، وإقامة الحدود، وأمن السبيل، كان فعلها واجباً، فإذا لم يكن ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل وإعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجبـاً أو مستحباً إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها ودفـع أكثره باحتمال أيسره كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً)1 . أ.هـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فتاوي شيخ الإسلام 20/55
و هذه هي روح الفقه و حكمة التشريع ومقاصده التي أمرنا أن ننظر فيها بعيدا عن رهبانية النصارى الذين تركوا الحكم للفجرة وكانوا رهبانا في الأديرة، بل أن شيخ الإسلام يقرر هنا أن تولي الولاية العامة مع عدم التمكن من اقامة العدل الواجب جائزة بل واجبة أحياناً إذا كان يقصد فيها تخفيفا للظلم، ومنعا لمن يتولاها ويقصد بها الظلم واستدل شيخ الإسلام على ذلك بما أقدم عليه نبي الله الكريم ابن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم فقـال: ((ومن هذا الباب تولى يوسف الصديق على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفاراً كما قال تعالى:{ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به** الآية، وقال تعالى عنه: {يا صاحبي السجن! أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم** الآية، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال، وصرفهـا على حاشية الملك، وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله فان القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته مما لم يمكـن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فاتقوا الله ما أستطعتم** 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فتاوي شيخ الإسلام 20/56
وقد رد شيخ الإسلام هذا الحكم إلى القاعدة الفقهية أنه إذا اجتمع محرمان ولا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، وجب ارتكاب الأدنى، وهذا الإرتكاب لفعل الأدنى لا يكون محرماً في الحقيقة. فترك الولاية العامة للظلمة والفسقة ضرر ومفسدة عظيمة، وتولي هذه الولايات للمسلم البار المريـد للخير الذي يستطيع أن يخفف الظلم والفساد ضرر أقل، ويجب عند ارتكاب أخف الضررين. وهذا نص شيخ الإسلام في ذلك :
كذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سُمِّي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر .
ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم) 1. أ.هـ
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عاش في زمان يماثل ما نحن فيه من وجوه كثيرة من ذلك: سقوط الخلافة العباسية بأيدي التتر، واستقلال حكام الأقاليم والدويلات بدولهم، بل قيام حكام لبعض المدن والقرى المحيطة بها فقط، وغلبة الجهل والظلم على حكام الولايات، وحكمهم بالإسلام تارة وبالأعراف والتقاليد وتشريعاتهم تارة أخرى، واستئثارهم بكثير من الأمـوال لأنفسهم دون المسلمين، فلم يكن توزيع المال على الطريقة النبوية والخلافة الراشدة.. وكان شيخ الإسلام يفتي بأنه لا يجوز التخلي عن تولي الولايات العامة في مثل هذه الدويلات على ما فيها، حتى وإن كان لا يستطيع المتولي أن يقيم العدل كما أمر الله به، وأنا أسوق هنا سؤالاً صريحاً مما وجه إلى شيخ الإسلام في هذا الصدد، وجواب شيخ الإسلام عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فتاوي شيخ الإسلام 20/57
الولاية إذا اقتضت ارتكاب المفاسد أو أخف الضررين