هدهدتهُ نسائم الحرية، عبثتْ بشعره الخفيف، جلس على كرسيّهِ المعتاد في مقهى الحومة رفقة الأصدقاء. نفسُ الوجوهِ تقريبا، لم يتغيّر فيها شيء، أحلامهم هي نفسُها. تقاذفتهم الأمواج بعيدا في رحلة بحثهم عن إثبات الذّات و في معتركِ الحياة. لم يحقّ الكلام لهم إلاّ همسا، ثمّ أتتْ تلك المرحلةُ لتُخرجَ تِلكَ الأوجهَ المُصفرّة مِنْ تركةِ همومٍ أورثتها لهم الحياة. كانو ينظرون تلكَ اللّحظة ليُفْرغوا ما بالصّدور...لتصدح الحناجر، ليؤسّسوا مرحلة جديدة.
على الطّاولةِ المجاورة جلس أيضا رفقةٌ لهم لا يحملون نفس الهموم ولا الأفكار،تجمعهم فقط نفس المقهى و نفس الأحلام و كلٌّ يسعى بطريقته لينهل من ملذّات الحياة.
مرَّ العمدة من أمامه "الشّيخ"، خاله لن يراهُ ثانيةً، لكن ها قد رآه ما تراهُ فاعل و قد تذكّر ما فعلهُ بوالده المسنّ...تمنّى لو يُمسكُ بعصا و يفعلُ ما فعله غيره...بالمصانع، بالطرقات و أيضا بالبشر.
لكنّهُ تذكّر نفسهُ و مبادئهُ و من يكونْ، أنّهُ ليسَ مثلهم و أنّ القادم أفضل...
تفحّص وجوه الأصدقاء و هم يرتشفون قهوة سوداء كسواد الليل، كسواد القلوب، كسواد المستقبل في عقولٍ حائرةٍ مبهمةٍ لا تجدُ سبيلا إلى الخلاص.
لم يكنْ مَطمَعُهُم في الحياةِ كبيرا، فقط مهنة تكفيهم ليفتحوا بيتا، و تقيهم نظرات المهانة التّي ينظرهم بها الجميع في حيّهم الشّعبي.
عاد ببصرهِ إلى الطّاولة المجاورة تفحّص الوجوه جيّدا ليرى نفسَ الهموم على اختلاف المشاغل و المبادئ لتختلف النتيجة.
عاد بخطاه المتعثّرة و المتردّدة نحو المنزل بعد أن انتهت رحلة المقهى، رحلة العادة
هِيَ من دفاتر الماضي
نسأل الله السلامة