• كل المواضيع تعبّر عن رأي صاحبها فقط و ادارة المنتدى غير مسؤولة عن محتوياتها

إتقان النقد قبل ارتكابه

BLUFTOUH

عضو فعال
إنضم
25 جانفي 2008
المشاركات
392
مستوى التفاعل
644
السلام عليكم
يقولون – وكم قالوا ولا من مستمع - أن النقد الذاتي الذي يمارسه الإنسانُ الفرد والإنسانُ المجتمع هو نتيجة تراتبية تأتي في الصف الثالث خلف اعتراف الإنسان بالنقص و إحساسه اليقيني بافتقاد الكمال أولاً، ثم اشتياقهُ وما تطمح له نفسه من سمو وكمال ثانياً ، على أن هذه العملية التراتبية بجملتها هي حصيلة مفترضة لكفاءة وعي الإنسان وإدراكه لأهمية مبدأ التقييم والمحاسبة "بفرض الثواب والعقاب" ثم التطوير والمتابعة لتبدأ رحلة التقييم من جديد.
و لأن المجتمعات المتحضرة – المُفتَقَدة بالمناسبة – هي تلك التي تمارس عملية النقد الذاتي بباعثٍ ذاتي لتحصيل الفائدة ذاتياً لا أن تكون عملية مفروضة – والفرض لا يتم بالقوة فقط – أو تكون لأغراض الدعاية و"الفشخره الفكرية" ، فإن النُخب الفكرية والثقافية المخلصة هي حاملة هم النقد الذاتي ورسالة التقييم والتقويم في مجتمعاتها ، وهي المتصدية لنشر ثقافة النقد وفنونه وأساليبه في مجتمعاتها.
يقول الخطيب الشيخ الصفار- رعاه الله- أن مجتمعنا متأخر في ثقافته النقدية للذات و أن أبجديات هذه العملية مفتقده بيننا فلا ترى حراكاً نقدياً يتصدى لتقييم وتقويم مشاريعنا الإنسانية بمختلف أشكالها الثقافية والفكرية وما عداها ، فمجتمعنا يعيش حالة من تقديس الذات تعميه عن تلمس عيوبه وعاهاته – وكم هي كثيرة – وتحول بينه وبين الوصول إلى مرحلة التقييم ثم التقويم وهذا يعيق تطور المجتمع ويدور به في فلك الجمود واللاعطاء .

لعل التجلي الأبرز لظاهرة الحراك الفكري والثقافي في مجتمعنا يتمثل في المنبر الحسيني العاشورائي فهو حالة استثنائية في بُعديه المكاني والزماني وحالة استثنائية في تفرده واستحواذه على نصيب الأسد في هذا الحراك ، فارتباط المتلقي والمستوعب للمنتج الثقافي والفكري بهذا المنبر لم يعد حالة مَردُّها ارتباط عاطفي أو التزام ديني وأخلاقي ، بل صار نَهَماً واشتياقاً لما يقدمه هذا المنبر وهو في كل الأحوال أكثر إلتصاقاً بالفائدة وأقل احتواءً على الشوائب.
باستقراء الحالة التصنيفية – تصنيف المنبر في خانات فكرية خلاقة و خرافية مشوهة للمذهب ومابين هذين الصنفين - للموسم العاشورائي المنصرم نتلمس بُعداً نقدياً في تعاطي المتلقي مع هذا المنتج الخطابي ، فالناس لم تعد غافلة عن ما لحقها من توصيف بالجهالة والبلادة والعمى لأنها لا ترتكب نعمة النقد التي كفلها كل كفيل فصارت تمارس عملية النقد بشكل معلن وصريح و فج في بعض الأحيان. غير أن هذه الممارسات شطحت وتعدت دائرة النقد كممارسة تقييمية تقويمية لتصل حدود التعدي والتجريح بل حتى الغيبة في بعض الأحيان.

هذا الشطح عن ممارسة النقد (الذاتي) بشكل سليم قد يثمر تشويهاً لهذا المعطى الجميل فالناس أعداء ما جهلوا ، وحالة التخبط في ممارسة هذا الحق ستجعله منكراً لنعود إلى نقطة الصفر من جديد نبني وعياً اجتماعياً بيننا نرسخ فيه أهمية النقد الذاتي ونُنظر له كمنجز فكري وثقافي مقدس.
كنا في فترة بحاجة لنُحصل وعياً وإدراكاً بأهمية النقد الذاتي كعملية تقييم أداء تُبنى عليها أبعاد المحاسبة لتبدأ عملية التقويم والتطوير، وبما أنه بات حاصلاً فالأجدر أن نتوقف عن ارتكابه حتى نحصل أساليبه وكيفياته السليمة ليكتمل جمال المنطلق الذي من أجله نمارس النقد كوسيلة تمييز يُستخلص فيها النقي ويُتَخَلصُ من سواه.

لعل العجيب أن أكثر من نظّروا لثقافة النقد الذاتي وحملوها –مخلصين- ساعين لتكريسها في صميم الممارسة الاجتماعية المستمرة أغفلوا أن هذه الثقافة تحتاج التعلم وأن زرعها كممارسة دائمة في تعاطي المجتمع مع ذاته تحتاج الإتقان والتمرس على فنونها كي لا يُنسب التسقيط والتجريح لها و يختلط الحق "فيها" بالباطل والمنكر في "الغيبة" ، فجهل هذه الأساليب وعدم إتقانها سيرمينا في مزالق سيكون فيها ارتكاب الغيبة "ممارسة نقدية حضارية" لمرتكبيه ، وسماع النقد "احتمالٌ لأذى الناس" لمستمعيه.
 
أعلى