فى أحد الأيام ، منذ سنوات عديدة ، حينما أتتنى الرغبة فى الزواج ، تقدمت لخطبة الابنة الكبرى لمحمود البدوى ، لم أكن أعلم أى شىء عن هذه الأسرة سوى أن الابنة تعمل ببنك الإسكندرية ووالدها متوفى وكان أديبا كبيرا وأنها تسكن فى عمارة آسيا بميدان تريومف ، وأخبرنى زوج شقيقتى الصغرى ــ وكان له تعاملات بفرع البنك الذى تعمل فيه ــ بأنها على مستوى عال من الأدب والخلق وسيرتها فى العمل حسنة .
وذهبت إليها فى البيت ــ بميعاد سابق ــ وكنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى خوفا مما يخبئه لى القدر بهذه الزيجة ، وتشجعت وأقدمت على هذه الخطوة وتركت أمرى إلى الله ، إن عشت معها سعيدا فحمدًا لله ، وإن كان غير ذلك ، فهذا قدرى وعلىَّ أن أكيف أمورى على هذا الوضع إلى أن يقضى الله أمرا .
وفى أحد الأيام وكنت بحجرة مكتبى بالتليفزيون وتتصارع هذه الأفكار فى رأسى ، تصادف أن مرت الزميلة نهى إبنة الأديب الكبير يحيى حقى ، فكانت فرصة لى لأقوم بعمل تحرياتى حول عروس المستقبل ، ولكى يطمئن قلبى ، سألتها :
ــ أتعرفين الأديب محمود البدوى .
ــ طبعا أعرفه .. ده صديق أبويا .
ــ خطبت إبنته الكبرى ليلى .
ــ ألف مبروك .. إختيار موفق إن شاء الله .
وانصرفت الزميلة .. وبعد فترة قصيرة جاءت مسرعة .
وقالت .. تعالى كلم بابا .. بابا على التليفون فى مكتبى .. ودخلت مكتبها ورفعت سماعة التليفون وقلت للمتحدث .
ــ صباح الخير يا أستاذ يحيى .
ــ مبروك .. مبروك .. مبروك .. مبروك .. ألف مبروك .. حتناسب أسرة عظيمة .. محمود البدوى صديق عمرى .. دول ناس من الصعيد .. بيت كله كرم وشهامة وأخلاق .
واستمرت المكالمة بضع دقائق ، وسعدت بها ، ورقص قلبى من الفرح ، وشعرت بأنه لا يوجد أحد على الأرض ينافسنى سعادتى وهنائى ، فقد أزالت المكالمة كل ما إعترانى من هم وخوف مما يخبئه لى القدر ، واكتفيت بهذا ، ولم أتحر عن العروس بعد الكلمة الطيبة الحلوة الجميلة التى شرحت قلبى وأفرحته.
قلت فى نفسى ، لعله من المستحسن قراءة بعض أدب محمود البدوى لأجد مجالاً خصبا للحديث مع العروس وأختها وأمها وأبين لهم أنى قارئ وأفهم فى الأدب وفى مستواهم الفكرى .
وذهبت أبحث فى المكتبات عن مؤلفات لمحمود البدوى فوجدت فى الأسواق كتابين عن الأعمال الكاملة صدرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986 ، ويشمل كل واحد منهما على ثلاث مجموعات قصصية ، وحملت الكتابين إلى البيت ، وجلست أتصفح ما كتب فيهما .
وقعت عيناى على أول قصة وكانت بعنوان "الذئاب الجائعة" والتهمت سطورها الأولى ، وتوقفت عن القراءة واشتدت دقات قلبى .. كان يقول "خرجنا فى الهزيع الأخير من الليل ، نزحف نحو المزرعة ، كالذئاب الجائعة ، ومع أننا كنا مسلحين بأحسن طراز من البنادق فقد كنا نتجنب الحراس ونراوغ كالثعالب " وغاص قلبى بين ضلوعى ، فالبين أنه يحكى ذكرياته مع رجال الليل ، ولكنى تحاملت وتابعت وأكملت القراءة ، فوجدته يقول " وكنا قد درنا حول المزرعة فى الليالى السابقة وعرفنا كل شىء فيها ، ورأينا خير ما نفعله لنتقى كلابها ، هو أن نرسل واحدًا منا يناوش كلاب مزرعة مجاورة ، فتخرج إليها كلاب المزرعة التى نقصدها ، وفى تلك الساعة نتقدم نحو الحظيرة ونخرج بالغنم إلى بطن الوادى" تعجبت فإن التخطيط للسرقة بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب لا يتأتى إلا من عتاة المجرمين " شيخ منسر " وفكرت فى لحظتها أن أخلع من هذه الزيجة وأنفد بجلدى وأهرب بأى طريقة، ولكن .. كيف الوصول إلى هذا السبيل ، وقد تورطت وأعطيت كلمة ، وقلبت الكتاب ، فكانت القصة التالية بعنوان "ساعات الهول" يقول فيها "فتحت عينى فى ثقل شديد ، وحركت ساقى ، حركت فخذى الأيمن ، وتحسست بيدى موضع الجرح ، يا لله !.. لم يكن هناك جرح ولا قدم ولا ساق ، لقد ذهب ذلك كله فى غير رجعة " توقفت وتأملت ، ففى هذه القصة قطعت ساقه ، وإندهشت ، وعادت ذاكرتى إلى منزل العروس ، ففى مسكنها رأيت صورة لوالدها وهو يسير فى أحد شوارع القاهرة بلا عصا وبدون عكاز ، وكتب عليها يوم من أيام البدوى عام 1982 وتوحى الصورة للناظر إليها أنه غير مصاب بأى عاهة وهو فى هذه السن الكبيرة .