august
عضو فعال
- إنضم
- 29 جانفي 2008
- المشاركات
- 507
- مستوى التفاعل
- 139
كان تسريب مسودة الدستور التونسي الجديد مناسبة لكي تتعالى الأصوات وينتظم الجدل في تونس حول هذه الوثيقة التي يبدو مستقبل البلاد مرتهنا بها. إن هذه الضجة التي تؤثثها كالعادة الكثير من الصبيانيات والتهريج والتهافت غير المبرر، جعلت رأيا شعبيا يتبلور حول هذه النسخة لتبدو منذ صدورها مهزوزة ومتهمة في شرعيتها، فيما أنها من المفترض أن تكون حجر الأساس الذي تبنى عليه الشرعيات المقبلة. كل هذا يندرج في حالة الارتباك والتلعثم التي يعيشها المجلس التأسيسي منذ استحدث للقيام بمهمته التاريخية. هذه مجموعة من الملاحظات حول مسودة الدستور التونسي الجديد تأتي من قناعتي الخاصة أن دستورا سيئا يصنع معضلات المستقبل وهي قراءة خاصة لمواطن ينتظر منذ ثلاثة سنوات دستورا يساهم من موقعه في بناء دولة قوية.
إنّ أول ما يعترض المطلع على نصّ الدستور هو سوء الصياغة، سيجد لغة يخترقها الكثير من الانشائية و تغليبا للنزعة الشعاراتية. إن هذا الترهل اللغوي على مستوى الصياغة يستطيع أن يخنق أي ملمح إيجابيا في النصّ الدستوري.
لقد غاب وعي ضروري على من تولوا وضع هذه الفصول بأن الصياغات السيئة تؤدي إلى تطبيقات سيئة. فإذا كانت هذه المسودة معدة للمراجعة، فإن أولى أولويات التصحيح هي مراجعة مبانيه اللغوية لأنها في النهاية تضر بالمضامين. مثلا ما الفرق بين مصطلحات التكافل والعدالة الاجتماعية والعدالة التي تنتشر بكثرة في التوطئة؟
ثمة خطر يسقطنا فيه هذا التوسع الغير مبرر، بما أنه يزيد من إمكانيات التأويل وبالتالي من الأخطاء. وكما يقول المفكر المصري نبيل عبد الفتاح "فالصياغات العامة المرتبكة وغير المنضبطة في الدساتير هي مدخل لافراز الديكتاتورية، وقد كانت هذه الصياغات في الدساتير السابقة هي الحيل الدستورية للسلطة". ولكننا من ناحية أخرى، حين نشاهد هذا المجلس التأسيسي بما يحتويه من ضجيج وقلة معرفة ونقص فادح في الخبرات السياسية والقانونية، فإننا لن ننتظر نصّا أفضل.
تجد التوطئة كذلك انتقادات تتعلق بطولها. علينا أن نعرف أن هذه التوطئة ليست أطول من كثير من التوطئات في النصوص الدستورية العالمية. كما ينتشر اعتقاد أن التطويل شيء سيء أو شاذ في الوثيقة الدستورية، ولكن التطويل ليس اشكالا في حد ذاته فالدستور الفرنسي مطوّل دون أن يجعل ذلك الدستور الفرنسي سيئا. المشكلة تنحصر في المضامين، ومن ناحية المضامين بدت توطئة هذه المسودة أفضل من توطئة الدستور السابق، بما أنها انفتحت على القضايا الإنسانية العامة وتجرأت على الحديث عن معاداة الصهيونية والعمل على تحقيق الوحدة العربية. وبذلك لنا أن نستبشر برؤية مختلفة عن دستور 1959. غير أنه فيما عدا هذه اللمحة في التوطئة لا نجد قطيعة حادة مع الدستور السابق خاصة فيما يتعلق بالمبادئ العامة.
يتناول الفصل الخامس علاقة الدولة بالدين، يؤكد أن "الدولة راعية للدين" مشيرا على تحييد دور العبادة من التوظيف الحزبي. ولكن ليس المشكل أن ترعى الدولة الدين وانما المشكل أن يرعى الدين الدولة، لذلك أعتقد أنه فصل سيكون حجة على من يتحدثون عن الدولة الدينية وليس حجة لهم، والتنصيص على علاقة الدولة بالدين أفضل من السكوت.
من أكثر التخوفات التي تصاعدت، وجود عبارات "حسب ما يضبطه القانون" في فصول ضمان الحريات، والتي كانت مدخلا للتضييق على كل شيء في السابق، بحيث كان ثمة بعد كل حرية يضمنها الدستور قانون يخنقها لأنه لم يكن هناك رقابة على احترام النص الأقل للنص الاعلى. وبمناسبة هذا الدستور تم بعث المحكمة الدستورية التي ستسهر على ذلك من هنا فصاعدا، ويمكن اعتبار استحداثها من أهم منجزات هذه الثورة.
جاء الفصل 15 بصياغة ركيكة جدا وفضفاضة حول انشاء الدولة للقوات، وقد تمثل كلمات مبهمة مثل "أي قوات أخرى" خطرا كبعث قوى بديلة. ان دستورا بمثل هذه الهفوات يصبح قابلا للتوظيف بشدة، وسيكون المواطن ضحية ذلك لأن المواطن هو مجال تطبيق القانون.
يضمن الفصل 48 حق اللجوء السياسي ويمنع تسليم أي لاجئ سياسي. قد يكون الدافع وراء ادراج هذا الفصل هو الشعور بالذنب اثر الخطأ الفادح تجاه تسليم البغدادي المحمودي إلى ليبيا. لكن بعيدا عن البعد القيمي للموضوع، فهذا التصرف لا يدخل في منطق وضع الدساتير التي تحتاج الى عقل رصين ومنضبط.
باب آخر تظهر عليه سمات الانفعالية، وهو المتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية والتي بدت سلطاته ضعيفة، كما هي في الدستور الصغير. وكأنها ردود أفعال من ممارسات بن علي في الحكم. وهذه النزعات كلها تتجافى مع منطق الدولة.
أحد الأخطاء التقديرية الفادحة التي استوقفتني، في الفصل 99 المتعلق بحصانة القضاة، يشير أنه في حالة التلبس يجوز إيقاف القاضي، وكان أحرى التوضيح أن ذلك ينطبق على الجنايات لوحدها وليس في حالة أي تلبّس.
كثيرة هي الارتباكات الحاصلة في هذه النسخة من الدستور والتي هي نتيجة الارضاءات. فمثلا الفصل 72 المتعلق بأحقية الترشح لرئاسة الجمهورية، يشير إلى أن الترشح يكون من حق الحامل للجنسية التونسية لوحدها بالولادة دون سواها مما يجعل الفصل يحتمل العديد من التاويلات، علاوة على أنه يحيل مباشرة الى حسابات حزبية راهنة كان أولى أن لا تحشر في وثيقة من المفترض أن تكون للأجيال القادمة.
هذه مسودة الدستور التونسي الجديد بين يدي المواطنين التونسيين. ألم يكن حريا بهؤلاء الذين يكتبون الدستور أن يعلموا أن "القانون ليس علما صحيحا، وانما هو علم بمصطلحات صحيحة"، وهذا المبدأ بالذات لو طبق سيقي تونس آفة دستور يكون مرة أخرى أداة من أدوات التسلط، أي دستورا قابلا للاستخدام من السلطة.
الأستاذ مبروك كرشيد (مدنين)