خطب الجمعة المميزة

Navy Tn

كبار الشخصيات
إنضم
20 ديسمبر 2007
المشاركات
23.865
مستوى التفاعل
84.825
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

إخوتي في الله

أعضاء المنتدى الكرام

إن كانت لديكم خطبة جمعة, ترون فيها الإفادة, ما عليكم إلا إدراجها هنا

أردت من هذا الموضوع , تجميع خطب الجمعة المميزة و المفيدة لنا بإذن الله

و الكل مدعو لإثراء الموضوع

و الله المستعان





أخوكم في الله: محمد ياسين
 
:besmellah1:

خطبة الجمعة بتاريخ 17 جمادى الأولى 1429هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تحَفِيزُ دَواعِي الخيراتِ

الحَمْدُ للهِ الذِي رَغَّبَ فِي الخَيْرِ بِمَا وَعَدَ عَلَيْهِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوابِ، ونَفَّرَ مِنَ الشَّرِّ بِمَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ مِنْ أَلِيمِ العِقَابِ، والصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ الأَوَّابِ، المَبْعُوثِ بِأَقْوَمِ حُجَّةٍ وأَصْدَقِ خِطَابٍ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، أَمَرَ بِالحَثِّ عَلَى الخَيْرَاتِ، وَوَجَّهَ إِلَى تَحفِيزِ الهِمَمِ والطَّاقَاتِ، واستِثْمارِ الفُرَصِ والقُدُراتِ، لِمَا فِيهِ صَلاَحُ الأَفْرادِ والمُجتَمَعاتِ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، خَيْرُ الخَلْقِ مَنْهَجاً وأُسلُوباً إِذَا أَرشَدَ ودَعَا، وأَمثَلُهُم طَرِيقَةً إِذَا أَصلَحَ وَسَعَى، -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ الكِرامِ، وعَلَى أَتْبَاعِهِ وحِزْبِهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ والقِيامِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيا جَمْعَ المُؤمِنينَ، ومَعشَرَ الآبَاءِ والمُرَبِّينَ: أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بِتَقوَى اللهِ، وامتِثَالِ نَهْجِهِ وهُدَاهُ، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً))(1)، واعلَموا -رَحِمَكُم اللهُ- أَنَّ الخَيْرَ فِطْرَةٌ فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْها، وغَايَةٌ عَظِيمَةٌ حَثَّهُمْ عَلَى السَّعْيِ إِلَيْها، فَالخَيْرُ فِي البَشَرِ رَصِيدٌ مَوجُودٌ، وهُوَ مَعَ ذَلِكَ هَدَفٌ تَرْبَوِيٌ مَقْصُودٌ، إِلاَّ أَنَّ مِنْ طَبِيعَةِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، وعَادَةِ الذَّاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، أَنَّها بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُحَفِّزُ مَكَامِنَ الخَيْرِ والصَّلاَحِ فِيها، ويَستَحِثُّ دَوافِعَ التَّحْصِيلِ بِها، وبِقَدْرِ مَا يَجِدُ الإِنْسانُ مَنْ يَحُثُّهُ عَلَى الخَيْرِ ومُقتَضَياتِهِ، ويَستَثِيرُ هِمَّتَهُ نَحْوَ سُبُلِهِ ومُسَبِّبَاتِهِ، يَكُونُ إِقبَالُهُ عَلَى فِعلِ الخَيْرَاتِ وعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وهِيَ حَقِيقَةٌ أَكَّدَ عَلَيْها الوَحْيُ الإِلَهِيُّ العَظِيمُ، وحَثَّ عَلَيْها الخِطَابُ النَّبَوِيُّ الكَرِيمُ، بَلْ أَنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ جَعَلَ مِنْها مَنْهَجاً وَحِيداً لِلْفَوزِ بِالجِنَانِ، وسِياجَاً مَنِيعاً مِنَ الوقُوعِ فِي الخُسْرَانِ، قَالَ تَعالَى: ((وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))(2)، فِي هَذِهِ السُّورَةِ القَصِيرَةِ يَتَمثَّلُ مَنْهَجٌ كَامِلٌ لِلْحَياةِ البَشَرِيَّةِ كَمَا يُرِيدُهَا الإِسلاَمُ، إِنَّها الحَياةُ التِي يَعُمُّ فِيها الخَيْرُ ويَنتَشِرُ السَّلاَمُ، إِنَّها تُقَرِّرُ أَنَّهُ عَلَى امتِدادِ الزَّمَانِ فِي جَمِيعِ العُصُورِ، وفِي تَارِيخِ الإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ الدُّهُورِ، لَيْسَ هُنَالِكَ إِلاَّ مَنْهَجٌ وَاحِدٌ صَالِحٌ، وطَرِيقٌ فَرِيدٌ سَالِكُهُ رَابِحٌ، إِنَّهُ مَنْهَجُ التَّحفِيزِ عَلَى الخَيْرِ والدَّعْوَةِ إِلَيهِ، الذِي يَعتَمِدُ مَبدأَ الصَّبْرِ ويَحُثُّ عَلَيْهِ، قَالَ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(3)، والتَّواصِي بِالحَقِّ ضَرورَةٌ، إِذِ الجِدُّ والإِجتِهادُ والحِرْصُ عَلَى الخَيْرِ عَسِيرٌ، وأَمَامَ قَاصِدِهِ قَدْ يُوجَدُ مِنَ المُعَوِّقاتِ الشَّيءُ الكَثِيرُ، ولَكِنَّهُ مَعَ التَّحفِيزِ والمُصَابَرَةِ -بإِذْنِ اللهِ- يَسِيرٌ، والتَّواصِي بِالحَقِّ والخَيْرِ والصَّلاَحِ تَذْكِيرٌ وتَشْجِيعٌ، فَهُوَ مُضَاعَفَةٌ لِمَجْمُوعِ الجُهُودِ والطَّاقَاتِ الفَردِيَّةِ، إِذْ تَتَفاعَلُ مَعاً فَتتَضَاعَفُ، تَتَضاعَفُ بإِحْساسِ كُلِّ فَرْدٍ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ يُوصِيهِ ويُشَجِّعُهُ، ويَقِفُ مَعَهُ ويُحِبِّهُ ولاَ يَخْذُلُهُ، والتَّواصِي بِالصَّبْرِ كَذَلِكَ ضَرورَةٌ، ولاَ بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ، لِلْفَوزِ بِالخَيْرِ والظَّفَرِ، لاَ بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى جِهَادِ النَّفْسِ وعَنَتِ المُعَوِّقَاتِ، والصَّبْرِ عَلَى طُولِ الطَّرِيقِ وبُطءِ المَرَاحِلِ وبُعْدِ الغَايَاتِ، والتَّواصِي بِالصَّبْرِ يُضَاعِفُ المَقْدِرَةَ، بِمَا يَبْعَثُهُ مِنْ إِحْسَاسٍ بِوَحْدَةِ الهَدَفِ، وَوَحْدَةِ المُتَّجَهِ وتَسَانُدِ الجَمِيعِ، وتَُزَوِّدُهُمْ بِالحُبِّ والعَزْمِ والإِصْرارِ، إِلَى آخرِ مَا يُثِيرُهُ مِنْ مَعَانِي الجَمَاعِةِ التِي لاَ يَتَرعْرَعُ الخَيْرُ إِلاَّ تَحْتَ وَارِفِ ظِلاَلِها، ولاَ تَبْرُزُ مَعَالِمُهُ إِلاَّ مِنْ خِلاَلِها، ولَقَدْ صَوَّرَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- أَثَرَ المُحِيطِ الصَّالِحِ الذِي يُحَفِّزُ عَلَى الخَيْرِ ويُرْشِدُ إِلَيْهِ فِي أَروَعِ صُورَةٍ تَتَّضِحُ مِنْ خِلاَلِها آثَارُهُ الجَلِيلَةُ، وفِي المُقَابِلِ تُبَيِّنُ عَواقِبَ المُحِيطِ الفَاسِدِ الذِي يُضْعِفُ الهِمَمَ، ويَضَعُ المُعَوِّقَاتِ أَمَامَ المَقَاصِدِ النَّبِيلَةِ، فَعَنْ أَبِي موسَى? الأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ المِسْكِ ونَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وإِمَّا أَنْ تَبتَاعَ مِنْهُ، وإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً)).
أَيُّها المُسلِمُونَ:
إِنَّ لِلْتَّحفِيزِ إلى الخَيْرِ والحَثِّ علَيهِ فُرَصاً لاَ بُدَّ مِنْ تَحَيُّنِ مُواتَاتِها، ومُناسَباتٍ يَجْدُرُ بِنَا حُسْنَ استِغلاَلِها، وطُرُقاً وأَسَالِيبَ يَنْبَغِي سُلُوكُها واتِّبَاعُها، وقَدَ جَاءَ الخِطَابُ الإِسلاَمِيُّ آمِراً بِالتَّبَصُّرِ والحِكْمةِ عِنْدَ الإِرْشَادِ لِلْخَيْرِ، وبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ المَنهَجُ الذِي يَجِبُ أَنْ يَسلُكَهُ المُسلِمُونَ، والأُسلُوبُ الذِي يَتَّبِعُهُ المُؤمِنُونَ، قَالَ تَعالَى: ((قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))(4)، ولَقَدْ ضَرَبَ لَنَا القُرآنُ الكَرِيمُ صُوَراً مُشْرِقَةً مِنْ تَحَيُّنِ الفُرَصِ المُنَاسِبَةِ، التِي تكُونُ فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الاستِجَابَةِ رَاغِبَةً، حَرَصَ عَلَيْها الأَنْبِياءُ والمُرسَلُونَ، فَكَانَ لِحُسْنِ اختِيارِهِمْ جَمِيلُ الأَثَرِ، ولِصَادِقِ نُصْحِهِمْ استِجَابَةُ البَشَرِ، فَهَذَا نَبِيُّ اللهِ يَعقُوبُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- يَخْتَارُ لَحْظَةَ الاحتِضَارِ لِيُؤَكِّدَ عَلَى بَنِيهِ مَا رَبَّاهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ، ومَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يكُونُوا قُدْوةً لِلْغَيْرِ، هُنَاكَ حَيْثُ تَجِيشُ العَواطِفُ نَحْوَ المُحتَضَرِ، فَتَنْصُتُ الآذَانُ إِلَى كَلِمَاتِهِ، وتَتَحَفَّزُ الهِمَمُ إِلَى الأَخْذِ بِتَوصِيَاتَهِ، قَالَ تَعالَى: ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))(5)، إِنَّهُ حُسْنُ التَّحفِيزِ لِلْخَيْرَاتِ، وَقَطْعُ وَسَاوسِ المَعاصِي والمُوبِقَاتِ، وَغَيْرُ بَعِيدٍ عَنْ هَذا مَا كَانَ عَلَيْهِ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مِنْ حُسْنِ استِغلاَلٍ لِلْظُّروفِ والأَحْوالِ، وإِتْقَانٍ لِفَنِّ العَمَلِ والمَقَالِ، وهُوَ يُرشِدُ عَزِيزَ مِصْرَ ومَنْ حَولَهُ إِلَى مَا أَمْكَنَ مِنَ الإِصْلاَحِ، ومَا يَقْدِرُ عَلَى حِرْزِهِ مِنْ أَسْبابِ السَّعَادَةِ والنَّجَاحِ، فَحِينَ فَزِعَ العَزِيزُ مِنْ رُؤَياهُ المَنامِيَّةِ، وطَلَبَ مِنْهُ تَفْسِيرَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنَ المَوهِبَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ، اغتَنَمها -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فُرْصَةً مُواتِيَةً لِيَدْفَعَ المَلِكَ إِلَى الإِصلاَحِ الاقتِصَادِِيِّ، وتَصْحِيحِ مَا أَفْسَدَتْهُ امرَأَتُهُ مِنَ التَّشْوِيهِ الإِجتِماعِيِّ، وكَانَ ذَلِكَ -بِفَضلِ اللهِ- سَبَباً لِلْتَّمكِينِ، وسَبِيلاً إِلَى تَبْرِئةِ يُوسفَ الطَّاهرِ الأَمِينِ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والتَّسلِيمُ-.
أَيُّها المُؤمِنونَ:
إِنَّ مِمَّا يَنبَغِي مُرَاعاتُهُ عِنْدَ التَّحفِيزِ عَلَى الخَيْرِ والطَّاعَةِ، ومِمَّا يَجِبُ أَخْذُهُ بِالإِعتِبارِ قَدْرَ الاستِطَاعَةِ، إِدْرَاكَ أَنَّ لِلإِنْسَانِ -مَهْما كَانَ- اعتِباراً وكَرَامَةً، والنَّاسُ وإِنْ تَفَاوَتُوا فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَنزِلَتَهُ واحتِرَامَهُ، والمُتَتَبِّعُ لآيَاتِ كِتَابِ اللهِ، وسِيرةِ نَبِيِّهِ المُصْطَفَى الأَوَّاهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجِدُ مِنَ الأَنْبِياءِ والمُرسَلِينَ، رُقِيَّاً فِي الأَلْفَاظِ والكَلِمَاتِ، وسُمُوَّاً فِي الخِطَابِ والعِبَاراتِ، يَستَعمِلُونُ فِي التَّحفِيزِ إِلَى الخَيْرِ أَرقَى أَسَالِيبِ الحِوارِ، بِتَواضُعٍ جَمٍّ بَعِيدٍ عَنِ الغُرورِ والاستِكْبَارِ، فَهَذَا خِطَابُ اللهِ لِكَلِيمِهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وهُوَ يُوَجِّهُهُ إِلَى فِرعَونَ الذِي طَغَى، واستَعبَدَ العِبَادَ وبَغَى، إِلاَّ أَنَّ اللهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: ((فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) (6) ، إِنَّ مِنْ وَاجِبِ المُحَفِّزِ عَلَى الخَيْرِ أَنْ يكُونَ هَيِّناً لَيِّناً مَعَ مَنْ يُحَفِّزُهُ، لَطِيفاً مُهَذَّباً مَعَ مَنْ يُشَجِّعُهُ، فَإِنَّ الرِّفْقَ يأْخُذُ بِأَلْبابِ القُلُوبِ، والخَيْرُ مَعَهُ إِلَى النُّفُوسِ مَحْبُوبٌ، قَالَ تَعالَى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) (7) ، وانظُروا إِلَى أَبِي الأَنْبِياءِ خَليلِ الرَّحمنِ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- وهُوَ يُحَاوِلُ تَشْجِيعَ أَبيهِ عَلَى الطَّاعَةِ والإِيمَانِ، وتَحفِيزِهِ لِلْخُضُوعِ لِلْوَاحِدِ الدَّيَّانِ، اختَارَ أَرَقَّ الكَلِمَاتِ وأَسْماهَا، وأَطْيَبَ العِبارَاتِ وأَعْلاَهَا، فَكانَ يُخَاطِبُهُ بِقَولِهِ: ((يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً))(8)، إِنَّ إِبرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يُدْرِكُ مَا تَعنِيهِ كَلِمَةُ الأُبُوَّةِ مِنْ مَعنَى، ومَا لَها فِي قَلْبِ الأَبِ مِنْ مَكَانَةٍ ومَبْنَى، فَأَرادَ أَنْ يَستَثِيرَ بِها عَواطِفَ أَبِيهِ، لَعلَّ سَانِحَةً مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَهْدِيهِ، فَإِذَا صَادَفَتِ الكَلِمَةُ قُلُوباً طَيِّبَةً، وأَنْفُساً إِلَى اللهِ رَاغِبَةً، كَانَ لَها الأَثَرُ العَظِيمُ، والنِّتَاجُ الطَّيِّبُ الكَرِيمُ، فَقَدْ حَكَى اللهُ عَنْ إِبرَاهِيمَ وابنِهِ إِسماعيلَ -عَلَيْهِما السَّلاَمُ- فَقَالَ تَعالَى: ((فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ))(9)، إِنَّ هَذِهِ العِبَارَاتِ مَعَ مَا فِيها مِنْ رِقَّةِ الأُبُوَّةِ والحَنانِ، إِلاَّ أَنَّ فِيها حِفْظاً واعتِباراً لِكَرامَةِ الإِنْسَانِ، إِنَّ إِبرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كَانَ سَيُنَفِّذُ أَمْرَ اللهِ، سَواءً بِرَفْضِ الإِبْنِ أَو بِرِضَاهُ، ولَكِنَّهُ أَرادَ مِنِ ابنِهِ أَنْ يَكُونَ شَرِيكاً لَهُ فِي تَلبِيَةِ الأَمْرِ والنِّدَاءِ، والإِذْعانِ بِالطَّاعَةِ لِرَبِّ الأَرضِ والسَّمَاءِ؛ فَخَاطَبَهُ بِقَولِهِ: ((فَانظُرْ مَاذَا تَرَى))، فَكَانَ لِهذَهِ الكَلِمَةِ عَظِيمُ الأَثَرِ، وسَلَّمَ الإِبنُ لأَبِيهِ الفِعْلَ والنَّظَرَ، طَاعَةً وخُضُوعاً لِبارِئِ البَشَرِ، وصَدَقَ اللهُ حِينَ قَالَ: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء)) (10) ، إِنَّها آيَةٌ فِي سُورَةِ إِبراهِيمَ، تَضَعُ لِلنَّاسِ أَرقَى القِيَمِ والمَفَاهِيمِ.
فَاتَّقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، واقتَدوا فِي أَقوالِكُم وأَفعَالِكُم بِصَفْوَةِ الخَلْقِ مِنَ النَّبِيِّينَ، وخِيرَةِ البَشَرِ مِنَ المُرسَلِينَ، تُكْتَبْ لَكُمْ مُرَافَقَتُهُمْ فِي عِلِّيِّينَ، ويُصلِحِ اللهُ أَمْرَ دُنْياكُم والدِّينِ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ فِي كِتَابِ اللهِ الكَثِيرَ مِنَ الأَسَالِيبِ الرَّاقِيَةِ لإِثَارَةِ دَوافِعِ الخَيْرِ، والتَّحفِيزِ عَلَى مَعَانِي البِرِّ، ومِنْ ذَلِكَ شَحْذُ الهِمَمِ إِلَى الخَيْرِ بِبَيانِ حُسْنِ عَواقِبِهِ، والتَّنفِيرِ مِنَ الشَّرِّ بِذِكْرِ أَضْرارِهِ ومَصَائبِهِ، إِنَّهُ أُسلُوبُ التَّرغِيبِ والتَّرهِيبِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ تَتَنافَسُ لِمَا فِيهِ الخَيْرُ والنَّجَاةُ، وتَنْفِرُ بِطَبْعِها مِنْ كُلِّ مَا يُورِثُ البَلاَءَ والأَزَماتِ، فَهَكَذا كَانَتْ دَعْوةُ الرُّسُلِ أَجْمَعِينَ، قَالَ تَعالَى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ))(11)، وقَالَ سُبْحانَهُ: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً))(12)، والُمتَتَبِّعُ لِسِيرَةِ الأَنْبِياءِ، والدَّارِسُ لِتَارِيخِ الرُّسُلِ الأَصفِياءِ، يَجِدُ تَحفِيزَهُمْ لأُمَمِهِمْ مَقْروناً بِالتَّبشِيرِ والنَّذِيرِ، يَذكُرونَ لَهُمْ فِي الإِيمَانِ الخَيْرَ الكَبِيرَ، ومَا وَعَدَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَجْرِ الوَفِيرِ، ويُحَذِّرونَهُمْ مِنْ شَرِّ العِصْيانِ المُستَطِيرِ، فَهَذا نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يَحُثُّ قَومَهُ عَلَى الاستِغفَارِ، بِبَيانِ مَا سَيَتَرتَّبُ عَلَيهِ مِنَ الغَيْثِ ونُزولِ الأَمْطَارِ، ومَا سَيُورِثُهُ مِنْ بَرَكَةٍ فِي النَّسلِ والدِّيارِ، قَالَ تَعالَى: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً))(13)، وكَمَا رَغَّبَهُمْ فِي الخَيْرِ بِذِكْرِ حُسْنِ عَاقِبَتِهِ، َنَفَّرَهُمْ مِنَ الشَّرِّ بِذِكْرِ سُوءِ مَغَبَّتِهِ، قَالَ تَعالَى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ))(14)، وفَشَا فِي قَوْمِ شُعَيْبٍ بَخْسُ المِكْيَالِ والمِيزانِ؛ فَحَذَّرَهُمْ نَبِيُّهُمْ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مِنْ مَغَبَّةِ ذَلِكَ وسُوءِ عَاقِبَتِهِ، قَالَ تَعالَى: ((وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ؛ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))(15)، هَكَذا كَانُوا صَلَواتُ اللهِ وسَلاَمُهُ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، كَانَ هَمُّهُمْ هِدَايَةَ النَّاسِ إِلَى طَاعَةِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ يَرْجُونَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً وأَمْوالاً، ولاَ عَطَاءً ولاَ نَوالاً، وعَلَى هَذا سَارَ خَاتَمُ الأَنْبِياءِ والمُرسَلِينَ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- ، فَقَدْ أَسَرَ بِأَخْلاَقِهِ وأَقْوالِهِ الأَلْبَابَ، ودَخَلَ بِبَدِيعِ أُسلُوبِهِ النَّاسُ فِي الخَيْرِ مِنْ كُلِّ بَابٍ، رَغَّبَ أُمَّتَهُ فِي الخَيْرِ بِأَرقَى الأَسَالِيبِ والمَعانِي، فَتَسابَقوا إِلَيهِ تَسابُقاً أَذْهَلَ القَاصِي والدَّانِي، وَجَادوا فِي سَبِيلِ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ قَبلَ أَمْوالِهِم، ونَفَروا مِنَ الشَّرِّ مَهْمَا تَزيَّنَتْ أَسْبابُهُ لَهُم، ومَا ذَلِكَ إِلاَّ رَغْبَةٌ فِيمَا أَيقَنوا بِهِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوابِ، ومَا أَوجَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْ أَلِيمِ العِقَابِ، قَالَ تَعالَى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً))(16)، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائلٍ: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))(17)، شِعَارُهُمْ فِي طَرِيقِ الخَيْرِ الأُلْفَةُ والتَّراحُمُ، وعِنْدَ المِحَنِ التَّعَاوُنُ والتَّلاَحُمُ، وبِهَذا الأَدَبِ الرَّفِيعِ، وبِسُمُّوهِم عَنْ كُلِّ دَنِيٍّ وَضِيعٍ، استَقبَلَ النَّاسُ دَعْوتَهُمْ استِقبَالَ المُقْبِلِ المُطِيعِ، فَما أَحْوَجَنا -أُمَّةَ الإِسلاَمِ- إِلَى إِتْقانِ أَسَالِيبِ التَّشْجِيعِ، بِاستِخْدَامِ الخِطَابِ المُتَّزِنِ البَدِيعِ، ومُخَالَقَةِ النَّاسِ بِالأَخْلاَقِ الرَّاقِيَةِ، ومُعاشَرتِهِمْ مُعَاشَرةَ أَصْحَابِ الهِمَمِ العَالِيَةِ، انْطِلاَقاً مِنْ أَخْلاَقِنا وقِيَمِنا ومَبَادِئنَا السَّامِيَةِ.
أَلاَ فَاتَّقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، واحمِلُوا عَلَى الخَيْرِ أَنْفُسَكُمْ، وادعُوا إِلَيهِ أَهلِيكُم وأَولاَدَكُم، ويَا مَعشَرَ المُرَبِّينَ شَجِّعُوا عَلَيْهِ طُلاَّبَكُم، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الرَّاحَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وبِهِ تُدْرَكُ السَّعَادَةُ الأَبَدِيَّةُ، ((وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً))(18).
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (19).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.

اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).








(1) سورة الاحزاب / 70 .
(2) سورة العصر / 1-3 .
(3) سورة آل عمران / 200 .
(4) سورة يوسف / 108 .
(5) سورة البقرة / 113 .
(6) سورة طـه / 44 .
(7) سورة آل عمران / 159 .
(8) سورة مريم / 42-45.
(9) سورة الصافات / 102 .
(10) سورة إبراهيم / 24 .
(11) سورة البقرة / 213 .
(12) سورة الاحزاب / 45 .
(13) سورة نوح / 10-12 .
(14) سورة الأعراف / 59.
(15) سورة الأعراف / 85 .
(16) سورة الإنسان / 8-9 .
(17) سورة السجد / 16 .
(18) سورة النساء / 9 .
(19) سورة الأحزاب / 56 .
 
:besmellah1:



خطبة الجمعة بتاريخ 10 جمادى الأولى1429هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سَعْياًًً للارْتـِقـاء بِقُدراتِ العامِلِ


الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، أَمَرَ عِباَدَهُ بِالسَّعْيِ فِي جَنَباتِ الأَرضِ بَحْـثـاً عَنِ الرِّزقِ الحَلاَلِ، وحَـثَّهُمْ عَلَى الإِتْقانِ فِي جَمِيعِ الأَعْمَالِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، سَيِّدُ النَّبِيِّينَ، وخَاتَمُ المُرسَلِينَ، وإِمامُ العَامِلينَ، -صلى الله عليه وسلم- وعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ أَجمَعينَ، والتَّابِعينَ لَهُم بِإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّها المُسلِمُونَ:
إِنَّ مِنْ أَهَمِّ خَصائصِ الحَياةِ التِي نَحْيَاهَا أَنَّها دَائمَةُ التَّغَيُّرِ، ولَيْسَتْ ثَابِتَةً عَلَى حَالٍ مِنَ الأَحْوالِ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ كُلُّ مَا حَولَ الإِنْسَانِ مِنْ تَغَيُّراتٍ مُنَاخِيَّةٍ وفُصُولٍ سَنَوِيَّةٍ مِنْ صَيْفٍ وشِتَاءٍ وخَرِيفٍ ورَبِيعٍ، وكَذَلِكَ الأَحْوالُ القَمَرِيَّةُ إِذْ يَبْدأُ القَمَرُ هِلاَلا، ثُمَّ يَتَطوَّرُ إِلَى أَنْ يُصْبِحَ بَدْراً، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ))(1)، وَيقُولُ سُبْحَانَهُ: ((وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً))(2)، بَلْ إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ تُخْبِرُهُ بِعَدَمِ ثَبَاتِ الدُّنْيا وأَحْوَالِها، لأَنَّهُ يَتَطَوَّرُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ آخَرَ، فَهُوَ يَبْدَأُ جَنِيناً، فَوَلِيداً، فَرَضِيعاً، فَصَبِيّاً، فَشَابّاً، فَرَجُلاً، فَكَهْلاً، فَشَيْخاً، ((وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً))(3)، وكُلُّ مَا يَجْرِي فِي هَذا الكَوْنِ مِنْ تَطَوُّرٍ دَائمٍ وتَحَرُّكٍ مُستَمِرٍّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الإِنْسَانَ عَلَيْهِ أنْ يَتَأَمَّلَ هَذِهِ الظَّواهِرَ والحَقَائقَ، لِيَستَفيدَ مِنْها فِي حَياتِهِ، فَكُلُّ هَذا التَّحَرُّكِ الهَائلِ فِي الكَوْنِ هُوَ رِسَالَةٌ لِلإِنْسانِ لِكَي يُطَوِّرَ مِنْ قُدُراتِهِ، ويُجَدِّدَ مِنْ مَعَارِفِهِ وعُلُومِهِ، لِيَتَماشَى مَعَ كُلِّ مَا يَستَجِدُّ عَلَيْهِ مِنْ تَطَوُّراتِ الحَياةِ.
عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ الإِسلاَمَ دِينٌ يَحْرِصُ عَلَى النُّهُوضِ بِأَبْنائِهِ دَوْماً، ولاَ يَقِفُ بِهِمْ عِنْدَ حَدِّ مُعَيَّنٍ مِنَ المَعْرِفَةِ والعَمَلِ، فَهُوَ يُحْبُّ لأَتْباعِهِ أَنْ يَكُونوا فِي تَقدُّمٍ مُستَمِرٌّ، فَفِي عِبادَةِ اللهِ يَحُثُّ الإِسلاَمُ المُسلِمَ عَلَى التَّقَدُّمِ فِي الطَّاعَةِ، فَنَراهُ يَنْهَضُ بِهِ مِنْ طَاعَةٍ إِلَى طَاعَةٍ، ومِنْ أَدَاءِ الفَرَائضِ إِلَى الإِلتِزامِ بِالسُّنَنِ والنَّوافِلِ، ولاَ يَقِفُ الإِسلاَمُ فِي دَعْوَةِ المُسلِمِ إِلَى التَّقَدُّمِ والتَّطَوُّرِ عِنْدَ أَمْرِ العِبادَةِ، بَلْ حَتَّى فِي العَادَاتِ والحَياةِ العَامَّةِ ومَيادِينِها، ويَكْفِي فِي ذَلِكَ قَولُ الحَقِّ سُبْحَانَهُ وتَعالَى: (( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ))(4)، فَفِي هَذا النَّصِّ القُرآنِي الكَرِيمِ بَيانٌ لِلإِنْسَانِ بِأَنَّهُ لَنْ يَظَلَّ عَلَى حَالِهِ، وأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَقدَّمْ فَهُوَ يَتأَخَّرُ، ولِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُطَوِّرُ مِنْ مَهارَاتِ صَحَابَتِهِ الكَرِامِ فِي كَثِيرٍ مِنَ المَيادِينِ والمَجَالاَتِ، فَقَدْ وَجَّهَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ وهُوَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ -المَعْروفُ بِقُوَّةِ الذَّاكِرَةِ، وَمَتانَةِ الحِفْظِ، وسُرْعَةِ البَدِيهَةِ- وَجَّهَهُ لِيَتَعلَّمَ لُغَةً أُخْرَى غَيْرَ العَرَبِيَّةِ، فَتَعلَّمَها زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، وفِي هَذا دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدٍّ مُعَيَّنٍ مِنْ تَطْوِيرِ قُدُراتِ صَحَابَتِهِ، ولَمْ يَكُنْ جُلُّ اهتِمامِهِ أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ زَاهِدِينَ، مُهْمِلينَ أَمْرَ الدُّنِيا والعَمَلِ.
أَيُّها المُؤمِنونَ :
إِنَّ التَّطْوِيرَ والتَّقَدُّمَ والتَّجْدِيدَ فِي قُدُراتِ الإِنْسَانِ فَرِيضَةٌ إِسلاَمِيَّةٌ، يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ)) وَكَتبَ أَي فَرَضَ، والإِحْسَانُ هُنا أَي الإِتْقانَ، فَالمُسلِمُ يَعْمَلُ وَيَطَوِّرُ مِنْ اهتِمامَاتِهِ، لأَنَّ لَهُ رَبَّاً رَقِيباً عَلَى عَمَلِهِ، وسَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))(5)، وَيقُولُ الرَّسُولُ الكَرِيمُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ))، فَإِذا كَانَ الإِتْقَانُ فِي الإِسلاَمِ فَرِيضَةً فَلاَ شَكَّ أَنَّهُ لاَ إِتْقَانَ بِدُونِ تَطْوِيرٍ لِلْعَامِلِ وَالعَمَلِ، فَعَلَى المُسلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ تُؤَدِّي بِهِ إِلَى أَنْ يُطَوِّرَ مِنْ ذَاتِهِ وعَمَلِهِ، ولاَ يَستَحِيَنَّ إِنْسَانٌ لِكِبَرِ سِنِّهِ، أَو لِطُولِ سَنَواتِ عَمَلِهِ فِي مِهنَتِهِ أَنْ يَخْجَلَ مِنْ أَنْ يَطْلُبَ العِلْمَ، فَالحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤمِنِ أَنَّى وَجَدَها فَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِها، وَقَدْ طَلَبَ سَيِّدُنا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أَنْ يَتَعلَّمَ مِنَ الخَضِرِ، وأَنْ يُطَوِّرَ مُستَواهُ الثَّقَافِيَّ والعِلْمِيَّ مَعَ أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مِنْ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرَّسُلِ فَقالَ لَهُ: ((هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً))(6)، وَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم- : ((طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ))، وَطَلَبُ العِلْمِ لَيْسَ مَقْصُوراً عَلَى العِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَقَط، بَلْ فِي كُلِّ مَا يَنفَعُ الأُمُّةَ، وكُلِّ مَا يَزِيدُ مِنْ رَصِيدِ الإِنْسَانِ مِنْ خِبراتٍ فِي هَذَه الحَياةِ.
أَيُّها المُسلِمُونَ :
هُنَاكَ وَسائِلُ تُعِينُ عَلَى تَطْوِيرِ العَمَلِ، وأَهَمُّها أَنْ يَزِيدَ العَامِلُ مِنْ مَعَارِفِهِ المُرتَبِطَةِ بِعَمَلِهِ، فَلاَ يَصِحُّ مِنَ الإِنْسَانِ المُسلِمِ أَنْ يَكونَ فِي مِهنَتِهِ ووَظِيفَتِهِ وعَمَلِهِ مُجَرَّدَ شَخْصٍ وُضِعَ فِي مَكَانٍ فَقَطْ، بَل عَلَيْهِ أَنْ يَرْنُو دَائماً إِلَى العُلاَ، وأَنْ يُنَافِسَ عَلَى أَعْلَى المُستَويَاتِ فِي الأَدَاءِ، وإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ أَمَرَنا بِالتَّنَافُسِ فِي أَمْرِ الآخِرَةِ بِقَولِهِ عَزَّ وجَلَّ: (( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ))(7)، فَهُوَ كَذَلِكَ فِي أَمْرِ الدُّنْيا مَأْمُورٌ بِهِ مِنَ اللهِ، لأَنَّ اللهَ خَلَقَنا لِنَعْمُرَ هَذِهِ الحَياةَ ((هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا))(8)، وإِعْمَارُ الأَرضِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِزِيَادَةِ مَعَارِفِ الإِنْسَانِ مِمَّا يُطَوِّرُ بِهِ عَمَلَهُ، فَالطَّبِيبُ يُنَمِّي ثَقَافَتَهُ الطِّبِّـيَّةَ بالإِلْمَامِ بِكُلِّ جَدِيدٍ فِي تَخَصُّصِهِ، وكَذَلِكَ كُلُّ عَامِلٍ مَطْلُوبٌ مِنْهُ أَنْ يُنَمِّيَ قُدُراتِهِ بِالإِطِّلاَعِ عَلَى الجَدِيدِ فِي تَخَصُّصِهِ، وذَلِكَ يَأْتِي عَنْ طَرِيقِ قِراءَةِ الكُتُبِ، أَو المَجَلاَّتِ المُتَخَصِّصَةِ فِي مَجَالِهِ، أَو الدَّوراتِ العِلْمِيَّةِ التِي تُعقَدُ كُلَّ فَتْرَةِ فِي تَخَصُّصِهِ، لِيَحْرِصَ عَلَى التَّسْجِيلِ فِيهَا والإِستِفادَةِ مِنْها، ورَضِيَ اللهُ عَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، لَمْ يَفُتْهُمْ هَذا الحِرْصُ الشَّدِيدُ لِلْحُصولِ عَلَى كُلِّ جَدِيدٍ يَزِيدُ مِنْ رَصِيدِهمُ العِلْمِيِّ، فَرَأَيْنا مَنْ قَطَعَ الأَمْيالَ والمَسَافَاتِ الطَّوِيلَةِ لِجَمْعِ حَدِيثٍ واحِدٍ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، ورَأَيْنا مَنْ جَلَسَ عَلَى الأَبْوابِ تَلْفَحُهُ العَواصِفُ والزَّوابِعُ، ويَتَلَظَّى بَحَرِّ الصَّحْرَاءِ انْتِظَاراً لِخُروجِ عَالِمٍ يَرْوِي عَنْهُ حَدِيثاً عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، وَقَدْ جَاءَ طَبِيبَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَيُّكُما أَحْذَقُ مِنْ صَاحِبِهِ؟ فَأَشَاروا إِلَى أَحَدِهِما، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- : أَنْتَ -أَيْ أَنْتَ مَنْ تُمَارِسُ- لأَنَّهُ الأَكْفأُ والأَمْهَرُ، وفِي هَذَا دَلاَلَةٌ عَلَى حِرْصِ العَامِلِ المُسلِمِ عَلَى زِيَادَةِ مَهَارَتِهِ بِمِهنَتِهِ وتَطْوِيرِها.
عِبَادَ اللهِ :
إنَّ مِنْ أَهَمِّ ما يُعِينُ عَلَى تَطْوِيرِ قُدُراتِ العَامِلِ، والنُّهُوضِ بِالعَمَلِ إِلَى مُستَوىً رَفِيعٍ عَالٍ، حُسْنَ عَلاَقَةِ العَامِلِ بِالرُّؤَساءِ والزُّمَلاَءِ، وذَلِكَ بِأَنْ يَسُودَ بَيْنَهُمُ الحُبُّ والوُدُّ، وحُسْنُ تَقْدِيرِ الآخَرِ، بِاحتِرَامِهِ وعَدَمِ الإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))(9)، ويَقُولُ: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ))(10)، وَيَقُولُ الرُّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنا ويُوَقِّرْ كَبِيرَنا))، ومِنَ الأُمُورِ التِي تَزِيدُ مِنْ تَطْوِيرِ العَامِلِ أَنْ يَغلِبَ عَلَيْهِ فِي العَمَلِ مَعَ زُمَلاَئهِ رُوحُ الفَرِيقِ المُتَعاونِ، فَالإِسْلاَمُ دِينٌ يَغْرِسُ فِي نَفْسِ المُسلِمِ الرُّوحَ الجَمَاعِيَّةَ فِي العَمَلِ، فَنَرَى القُرآنَ الكَرِيمَ يُغَلِّبُ خِطَابَ الجَمَاعَةِ عَلَى خِطَابِ الفَرْدِ؛ لِيَدُلَّهُ عَلَى قِيمَةِ العَمَلِ الجَماعِيِّ المُتَعاونِ، بِرُوحِ الفَرِيقِ الوَاحِدِ، يَقُولُ تَعالَى: ((وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ))(11)، فَعِنْدَمَا ذَكَرَ الخُسْرانَ جَاءَ ذِكْرُ الإِنْسَانِ مُفْرَداً، ثُمَّ بَيَّنَ طَرِيقَ الفَلاَحِ وَالفَوْزِ فَقَالَ: ((إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))(12)، وكَانَ السِّيَاقُ يَقتَضِي أَنْ يُقَالَ: (إِلاَّ الذِي آمَنَ)، ولَكَنْ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الصَّلاَحَ والنَّجَاةَ دَوْماً فِي العَمَلِ مُجتَمِعانِ لاَ مُتَفرِّقَانِ، بِرُوحِ الفَرِيقِ الوَاحِدِ المُتَناسِقِ فِي أَدَائهِ، لاَ المُتَشَرْذِمِ المُختَلِفِ، كَمَا قَالَ تَعالَى: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا))(13)، وَيقُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((يَدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ))، وقَدْ غَرَسَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي نُفُوسِ أَصْحابِهِ هَذِهِ الرُّوحَ، مُبتَدِئاً بِنَفْسِهِ، ومُتَعاوِناً مَعَهُم، وذَلِكَ عِنْدَمَا اجتَمَعَ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لِلطَّعَامِ، وعِنْدَهُم شَاةٌ، فَقَالَ أَحَدُهُم: أَنَا عَلَيَّ ذَبْحُها، وقَالَ الآخَرُ: وأَنَا عَلَيَّ سَلْخُها، وقَالَ الثَّالِثُ: وأَنَا عَلَيَّ شَوْيُها، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- : ((وَأَنَا عَلَيَّ جَمْعُ الحَطَبِ))؛ مُختَاراً بِذَلِكَ المُهِمَّةَ الأَصْعَبَ، وتَربَّى الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا الخُلُقِ مِنَ التَّعاوُنِ والتَّعامُلِ بِرُوحِ الفَرِيقِ المُتَّحِدِ؛ فَلاَ يُفَرَّقُ العَامِلُ مِنْهُم أَيْنَ هُوَ، فِي المُقَدِّمَةِ أَم فِي المُؤَخِّرَةِ، فَهُوَ يَعْمَلُ بِنَفْسِ الحَمَاسَةِ والقُوَّةِ، ويُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مُخلِصاً مُتَفانِياً، لأَنَّهُ لاَ يَعْمَلُ لِذَاتِهِ بَلْ يَعْمَلُ لِهَدَفٍ، وعَلَيْهِ أَنْ يُحَقِّقَ الهَدَفَ، سَواءً كَانَ تَحقِيقُ الهَدَفِ عَلَى يَدِهِ أَم عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، فَلَنْ يُحَاسِبَهُ اللهُ عَلَى يَدِ مَنْ كَانَ تَحقِيقُ الهَدَفِ، بَلْ سَيُحاسِبُهُ هَلْ أَدَّى دَورَهُ كَما يَنْبَغِي أَمْ قَصَّرَ فِيهِ؟.
عِبَادَ اللهِ :
مِنَ الوَسائلِ التِي تُعِينُ العَامِل عَلَى تَطْوِيرِ عَمَلِهِ كَذَلِكَ أَنْ يكُونَ مَاهِراً فِي إِدَارَةِ وَقْتِهِ، ولِلأَسَفِ أَنَّ الوَقْتَ عِنْدَ البَعْضِ لَمْ يَأْخُذْ حَقَّهُ مِنَ الاهتِمامِ والعِنَايَةِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالَى أَقْسَمَ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرآنِ بِأَجْزاءَ مِنَ الوَقْتِ دَلاَلَةً عَلَى أَهمِّيَّتِهِ فَقَالَ: ((وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ))(14)، ((وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى))(15)، ((وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ))(16)، كُلُّ هَذِهِ الأَقْسَامِ لِتُنَبِّهَ الإِنْسَانَ المُسلِمَ إِلَى قِيمَةِ الوَقْتِ، فَهُناكَ مَنْ يُضِيعُ الوَقْتَ فِي العَمَلِ ويَهْدُرُهُ، ولاَ يُنْجِزُ عَمَلَهُ فِيهِ كَمَا يَنبَغِي، بَلْ نَرَى بَعْضَ النَّاسِ مِمَّنْ لاَ يَعْرِفُونَ قِيمَةَ الوَقْتِ يَقُولونَ: هَيّا بِنَا نَقتُلُ الوَقْتَ، وكَأَنَّ الوَقْتَ لاَ قِيمَةَ لَهُ، ولاَ فَائدَةَ! ولِذَا رَأَيْنا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ((لاَ سَمَرَ بَعْدَ العِشَاءِ)) أَي لاَ حَدِيثَ فِيمَا لاَ يُفِيدُ بَعْدَ العِشَاءِ، لأَنَّ المَطلُوبَ أَنْ يُحَافِظَ الإِنْسَانُ عَلَى الوَقْتِ بِالنَّوْمِ المُبَكِّرِ، كَي يَستَيقِظَ مُبَكِّراً، ويُفِيدُ صِحَّتَهُ وَوَقْتَهُ. هَذَا مِنْ حَيْثُ الحِفَاظُ عَلَى الوَقْتِ، وهُوَ أَمْرٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ، ولَكِنَّ الأَهَمَّ هُنَا أَنْ نُحْسِنَ إِدَارَةَ الوَقْتِ، وتَثْمِيرَهُ قَدْرَ الاستِطَاعَةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ مُفِيدٍ، وهَذَا يُعِينُ الإِنْسَانَ عَلَى إِنْجَازِ عَمَلِهِ سَرِيعاً، مِنْ حَيْثُ عَدَمُ تَأَخُّرِ المَهَامِّ، ولاَ تَراكُمِها عَلَى العَامِلِ، ومِمَّا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَستَخِدَمَ العَامِلُ خُطَّةً لِلاستِفَادَةِ بِوَقْتِهِ، أَو يَكُتَبَ فِي وَرَقَةٍ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ، فَقَدْ شَكَا أَحَدُ الصَّحَابَةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ يَنْسَى، فَقَالَ لَهُ -صلى الله عليه وسلم- : ((استَعِنْ بِيَمِينِكَ)) أَي اكتُبْ، فَالكِتَابَةُ تُفِيدُ وتُرَسِّخُ الشَّيءَ، وتُعِينُ عَلَى تَذَكُّرِهِ، فَعَلَى المُسلِمِ أَنْ يُحْسِنَ الاستِفَادَةَ مِنَ الوَقْتِ ويُنَظِّمَهُ، حتَّى يُدِيرَهُ إِدَارَةً تُفِيدُهُ فِي عَمَلِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
فَاتَّقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وطَوِّروا مَهَارَاتِكُم وقُدُراتِكم، واسعَوا دَوماً إِلَى المَزِيدِ مِنَ الإِتْقَانِ والإِحْسَانِ فِي أَعْمالِكُم، بِالتَّزوُّدِ مِنَ الخِبْراتِ والمَعَارِفِ، وحُسْنِ إِدَارَةِ الوَقْتِ، وأَحْسِنُوا عَلاَقَاتِكُم بِأَبْنَاءِ مِهْنَتِكُم، وأَفْرادِ مُؤَسَّساتِ عَمَلِكُم.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ مِنْ أَهَمِّ مَا يُعِينُ عَلَى تَطْوِيرِ قُدُراتِ العَامِلِ أَنْ تُعْنَى المُؤَسسَةُ بِتَطْوِيرِهِ، وتَنْمِيَةِ قُدُراتِهِ، وهُوَ أَمْرٌ حَثَّ الإِسلاَمُ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَصَّ القُرآنُ عَلَيْنا قِصَّةً -ومِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَتلُوَ المُسلِمُ السُّورَةَ التِي وَرَدَتْ فِيها هَذِهِ القِصَّةُ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ- إِنَّها سُورَةُ الكَهْفِ التِي وَرَدَتْ فِيها قِصَّةُ ذِي القَرنَيْنِ، وهُوَ رَجَلٌ أُوتِيَ كَثِيراً مِنَ القُوَّةِ والعِلْمِ والخِبْرَةِ، ((إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً))(17)، وقَالَ القُرآنُ عَنْ حَالِ قَوْمٍ وَصَلَ إِلَيْهِم ذو القَرنَيْنِ: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً، قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً))(18)، لَقَدْ كَانَ بِمَقْدُورِ ذِي القَرنَيْنِ أَنْ يَقُومَ بِالمُهِمَّةِ وَحْدَهُ، ولَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُطَوِّرَ مِنْ قُدُراتِ هَؤلاءِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُم: ((مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً))(19)، لَقَدْ ارتَقَى ذو القَرنَيْنِ بِهؤلاءِ مِنْ قَوْمٍ كُسَالَى خَامِلينَ، إِلَى قَوْمٍ فَاعِلينَ عَامِلينَ، وفِي هَذَا دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ التَّطْوِيرَ وَاجِبٌ عَلَى المُؤسَّساتِ والأَفْرادِ، بَلْ إِنَّ لِتَطْوِيرِ العَامِلِ فَائدَةً كُبْرَى لِلْمُؤسَّسَةِ، لأَنَّ العَامِلَ هُوَ رَصِيدُ المُؤسَّسَةِ، والرَّصِيدُ إِنْ ظَلَّ ثَابِتاً فَهُوَ فِي حِكْمِ النَّقْصِ لاَ الزِّيادَةِ، فَمِنْ مَصلَحَةِ المُؤَسَّساتِ أَنْ تُطَوِّرَ مِنْ أَدَاءِ عُمَّالِها، وتُنَمِّيَ مِنْ قُدُراتِهم عَلَى التَّعامُلِ مَعَ العَمَلِ والحَياةِ.
فَيا أَيُّها الإِخِوةُ المُسلِمونَ:
الإِسلاَمُ دِينُ العَمَلِ، ودِينُ إِتْقانِ العَمَلِ، والنُّهُوضِ بِالأُمَّةِ إِلَى العُلاَ، والمُسلِمُ لَبِنَةٌ مِنْ لَبِنَاتِ بِنَاءِ المُجتَمَعِ، يَسْعَى إِلَى أَنْ يكُونَ اللَّبِنَةَ الصَّحِيحَةَ فِي مَوضِعِها، ولاَ يَتَشوَّهُ البِنَاءُ مِنْ جِهَةِ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، فَمَطْلُوبٌ مِنَ الفَرْدِ العَامِلِ أَنْ يُواكِبَ الحَياةَ بِتَطوُّرَاتِها، وأَنْ يكُونَ عُنواناً مُشْرِفاً لِدِينِهِ ووَطَنِهِ، بِالمُسَاهَمَةِ فِي بِنَاءِ حَاضِرِهِ ومُستَقبَلِهِ، إِنَّ مِمَّا يَحُزُّ فِي النَّفْسِ أَنْ نَقْرأَ بَعْضَ الإِحْصائيَّاتِ فِي المُقَارَنَةِ بَيْنَ سَاعَاتِ العَمَلِ والسُّرعَةِ فِي إِنْجَازِهِ والإِتْقَانِ والدِّقَّةِ والحِرْصِ عَلَى الوَقْتِ فِيهِ، لِنَرَى بَعْضَ النَّاسِ فِي ذَيْلِ قَافِلَةِ الإِنْتَاجِ والتُّقدُّمِ، بِيْنَما نَجِدُ آخَرِينَ فِي خَطِّ التَّقَدُّمِ مَاضِينَ.
فَاتَّقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وأَعِيدوا لِحَاضِرِكُم مَا كَانَ في مَاضِيهِ المُزْهِرِ المُشْرِقِ، مِنْ رُقِيٍّ وتَقَدُّمٍ، وحُبٍّ لِلْخَيْرِ، وعَطَاءٍ لِلْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (20).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).







(1) سورة يس / 39 .
(2) سورة الاسراء / 12 .
(3) سورة النحل / 70 .
(4) سورة المدثر/ 37 .
(5) سورة التوبة / 105 .
(6) سورة الكهف / 66.
(7) سورة المطففين/ 26 .
(8) سورة هود / 61 .
(9) سورة الاسراء / 53 .
(10) سورة الحشر / 10 .
(11) سورة العصر / 1-2 .
(12) سورة العصر / 3 .
(13) سورة آل عمران / 103.
(14) سورة الفجر / 1-2 .
(15) سورة الضحى / 1-2 .
(16) سورة العصر / 1-2 .
(17) سورة الكهف / 84 .
(18) سورة الكهف / 93-94 .
(19) سورة الكهف / 95-97 .
(20) سورة الأحزاب / 56 .
 
:besmellah1:

خطبة الجمعة بتاريخ 3 جمادى الأولى 1429هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

مِنْ أَخلاقِـيـَّاتِ الـتـجارَةِ




الحَمْدُ للهِ الذِي أَحَلَّ لِعِبَادِهِ البَيْعَ والشِّرَاءَ، وجَعَلَهُما سَبَباً مِنْ أَسْبَابِ اليُسْرِ والرَّخاءِ، وطَرِيقاً مَشْروعاً لِلْرِّبْحِ والثَّراءِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَعَدَ المُيَسِّرِينَ عَلَى عِبَادِهِ ثَواباً عَظِيماً، وأَعَدَّ لِلمُنفِقينَ مَنْزِلاً عَالِياً كَرِيماً، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، تَاجَرَ فَعُرِفَ بِالصِّدقِ والأَمَانَةِ، ونَهَى عَنِ الاستِغْلاَلِ والجَشَعِ والخِيانَةِ، -صلى الله عليه وسلم- وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ ومَنْ تَبِعَهم مِنْ أَهلِ الإِحْسَانِ والإِعَانَةِ، صَلاَةً وسَلاَماً يَتَعاقَبَانِ تَعَاقُبَ اللَّيلِ والنَّهارِ، إِلَى أَنْ يَرِثَ الأَرْضَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ. أَمَّا بَعْدُ، فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي -عِبادَ اللهِ- بِتَقْواهُ، والتَّعَرُّضِ لِعَفْوِهِ ورِضَاهُ، قَالَ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ))(1)، واعلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ وجَعَلَ حَاجَةَ بَعْضِهمْ إِلَى بَعْضٍ دَائمَةً، وتَبَادُلَ المَصَالِحِ بَينَهُمْ حَالَةً قَائمَةً، وجَعَلَ لِذَلِكَ طُرُقاً وأَسْبابَاً، ولِلْخَيْرِ أَهْلاً وطُلاَّباً، ومِمَّا شَرَعَهُ عَزَّوَجلَّ فِي ذَلِكَ التِّجَارَةُ بِالبَيْعِ والشِّرَاءِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبابِ البَرَكَةِ والنَّماءِ، أَلاَ وإِنَّ لِلتِّجارَةِ فِي الإِسلاَمِ أَخْلاَقاً وآدَاباً، ولِلْرِّبْحِ طُرُقاً مَشْروعَةً وأَبواباً، ومِنْ أَعْظَمِ مَعايِيرِها وأَخْلاَقِها، وأَجَلِّ مَبادِئها وآدابِها، السَّماحَةُ فِي الأَخْذِ والعَطاءِ، والسُّهولَةُ فِي البَيْعِ والشِّراءِ، فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحاً إِذَا بَاعَ، سَمْحاً إِذا اشْتَرَى، سَمْحاً إِذا قَضَى، سَمْحاً إِذا اقتَضَى))، دُعاءٌ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ جَعَلَ السَّماحَةَ خُلُقاً أَصِيلاً مِنْ أَخْلاَقِهِ، يَتَعاطَى عَلَى أَسَاسِها مَعَ جَمِيعِ مَنْ حَولَهُ مِنْ أَهلِهِ ورِفَاقِهِ، يَعقِدُ بِها فِي البَيْعِ والشِّراءِ صَفَقاتِهِ، ويَجْعَلُها نُصْبَ عَينَيْهِ إِذَا وَفَى أَوِ استَوفَى مُستَحقَّاتِهِ، فَمَا أَرْوَعَهُ مِنْ مَنْهَجٍ يَسْعَدُ بِهِ المُتَعامِلُونَ، ويَستَرِيحُ لِنَتائجِهِ المُؤْمِنونَ، مَنْهَجٌ النَّاسُ أَحْوَجُ مَا يَكونونَ إِلَيهِ وقَدَ عَصَفَتْ بِهِم رِياحُ الغَلاَءِ، التِي لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى بَلَدٍ دُونَ آخَرَ، ولَمْ يَسْلَمْ مِنْ لَفْحِها مُقِيمٌ أَو مُسَافِرٌ، لِمَا لِغَلاَءِ الأَسْعارِ مِنْ آثَارٍ سَيِّئَةٍ عَلَى الفَرْدِ والمُجتَمَعِ؛ حَيْثُ يَعْجَزُ الفَقَيِرُ عَنْ شِراءِ مَا لاَ غِنَى لَهُ عَنْهُ، وقَدْ يَتَحَمَّلُ آخَرونَ دُيونًا يَعْجَزونَ عَنْ أَدَائها، ولِذَلِكَ فَإِنَّ المُتأَمِّلَ فِي النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ، بَآيَاتِها القُرآنِيَّةِ وأَحَادِيثِها النَّبَوِيَّةِ، يَجِدُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الإِسْلاَمِيَّةَ قَدْ عَالَجَتْ عِلاَجاً نَاجِعاً هَذِهِ الأَسْبابَ، لِتَبقَى الأُمَّةُ هَانِئَةً مُطْمَئنَّةً عَلَى رِزقِها وقُوتِها، فَقَدْ حَثَّ الإِسْلاَمُ عَلَى حُسْنِ النَّظَرِ فِي اكتِسابِ المَالِ، مِنْ طُرُقِهِ المُباحَةِ وأَسَالِيبِهِ المُناسِبَةِ، ودَعَا لِلْمُنَافَسَةِ فِي عَرْضِ السِّلَعِ والبَدَائلِ، تَأْصِيلاً لِمَبْدَأِ الوِقَايَةِ التِي تَقْطَعُ سُبُلَ الاحتِكَارِ، ولِيَكونَ لِلمُستَهلِكِ أَكْثَرُ مِنْ خِيارٍ، فَيأْخُذُ مَا لَدَيْهِ بِهِ استِطاعَةٌ واقتِدارٌ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(2)، وَجاءَتْ نُصُوصُ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ حَاثَّةً المُسلِمَينَ عَلَى مُزاوَلَةِ التِّجَارَةِ والزِّرَاعَةِ والصِّناعَةِ بِمِهَنِها المُختَلِفَةِ، لأَنَّ بِها قِوامَ الأَرضِ، وصَلاَحَ أُمُورِ العِبَادِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وتَيْسِيرَ حَاجَاتِهمُ المَعِيشِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((عَلَيكُمْ بِالتِّجَارَةِ فَإِنَّ فِيها تِسْعَةَ أَعشَارِ الرِّزقِ))، كَمَا أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- حَثَّ أُمَّتَهُ عَلَى العِنَايَةِ بِالأَرضِ وزِرَاعَتِها فِي قَولِهِ: ((التَمِسُوا الرِّزقَ فِي خَبايَا الأَرضِ))، وقَولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَا مِنْ مُسلِمٍ يَغْرِسُ غَرساً أَو يَزْرَعُ زَرْعاً فَيأْكُلُ مِنْهُ إِنْسانٌ أَو طَيْرٌ أَو بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ))، ولَكِنْ قَدْ لاَ يَكُونُ المَرْءُ قَادِراً عَلَى تَوفِيرِ كُلِّ مُتَطَلَّبَاتِ حَياتِهِ بِعَمَلِ يَدِهِ، فَيَنشَأُ تَبادُلُ المَصَالِحِ بَيْنَ العِبادِ، وتُجلَبُ الإِحتِياجَاتُ مِنْ مُختَلَفِ الأَصَقاعِ والبِلاَدِ، وهُنا رُبَّما سُوِّلَ لِضِعَافِ النَّفُوسِ استِغلاَلُ الآخَرِينَ، واغتِنامُ حَاجَاتِ المُستَهلِكِينَ، فَجَاءَتْ تَعالِيمُ الإِسلاَمِ بِمَنْهَجٍ وَاضِحٍ يَقِي المُجتَمَعَ تَصَرُّفاتِ النُّفُوسِ الشَّحِيحَةِ، ويُوَجِّهُ التَّعامُلاَتِ وِجْهَتَها الصَّحِيحَةَ، فَحَرَّمَ ضُروبَ الإِستِغلاَلِ الجَشِعِ، وحَذَّرَ مِنْ خُطُورَةِ الأَنَانِيَّةِ والطَّمَعِ، فَنَهَى عَنِ الاحتِكَارِ، لِلْحَيلُولَةِ دُونَ المُغَالاَةِ فِي الأَسْعارِ، فَعَنْ أَبِي هُريْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مَنْ احتَكَرَ حُكْرةً يُرِيدُ أَنْ يُغلِي بِها عَلَى المُسلِمينَ فَهُوَ خَاطِئٌ))، والحُكْرَةُ حَبْسُ السِّلَعِ عَنِ البَيْعِ، ولَمْ يَقِفِ النَّهْيُ عِنْدَ الاحتِكارِ وَحْدَهُ، بَلْ تَعدَّاهُ إِلى كُلِّ تَصَرُّفٍ أَو احتِيالٍ تَكونُ نَتِيجَتُهُ رَفْعَ الثَّمَنِ دُونَ مُبَرِّرٍ، والمُغالاَةَ فِي الأَسْعارِ والتَّضْييقَ عَلَى النَّاسِ، فَعَنْ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ دَخَلَ فِي شَيءٍ مِنْ أَسْعَارِ المُسلِمينَ لِيُغلِيَهَ عَلَيْهِم كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعظمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيامَةِ)) أَي بِمكَانٍ عَظِيمٍ مِنْها.
أَيَُّها المُسلِمونَ:
إِنَّ لِلتِّجَارَةِ فِي الإِسلاَمِ بُعْداً لاَ يَقِفُ عِنْدَ كَونِها مُجَرَّدَ سَعْيٍ لأَربَاحٍ شَخْصِيَّةٍ، بَل هِيَ وَسِيلَةٌ لِتَحقِيقِ الرَّفاهِيَةِ المَعِيشِيَّةِ، وعَامِلٌ مِنْ عَوامِلِ تَرابُطِ العَلاَقاتِ الاجتِماعِيَّةِ، إِنَّها ضَرورَةٌ لاستِمرارِ الحَياةِ الإِنْسَانِيَّةِ، هَذَا هُوَ الفَهْمُ الصَّحِيحُ لِمَعانِي التِّجَارَةِ، كَمَا استَوعَبَهُ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَجَعَلوا مِنْها سَبَباً لِكَشْفِ الغُمَّةِ، وسَنداً لِلضُّعَفاءِ فِي المَواقِفِ المُدلَهِمَّةِ، وهُنا يَسْمُونَ بِنُفُوسِهِم عَنْ حُبِّ الذَّاتِ، إِلَى قَرْعِ أَبْوابِ الجَنَّاتِ، بِما يَجُودُونَ بِهِ عَلَى الضُّعَفاءِ مِنَ المُواسَاةِ والصَّدَقاتِ، فِي مَطْلَبٍ صَادِقٍ لِلْفَلاَحِ، قَالَ تَعالَى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون))(3)، وتَرْوِي لَنَا كُتُبُ السِّيرَةِ عَنْ مَوقِفٍ مُشْرِقٍ لأَحَدِ تُجَّارِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يَوْمَ أَصَابَ النَّاسَ شِدَّةٌ، فَقلَّتِ السِّلَعُ وارتَفَعَتِ الأَسْعارُ، إِنَّهُ الصَّحابِيُّ الجَلِيلُ عُثمانُ بنُ عَفَّانَ، فَقَدْ كَانَتْ لَهُ تِجَارَةٌ ضَخْمَةٌ فِيها صُنُوفٌ مِنَ الغِذَاءِ والكِسَاءِ وأَنْواعُ السِّلَعِ، ولَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ واقتَرَبَ مِنَ المَدِينَةِ جَاءَهُ التُّجَارُ يُساوِمُونَهُ ويَرْجُونَهُ حَتَّى دَفَعوا لَهُ رِبْحاً بِالعَشَرَةِ خَمْسَةً، وهُوَ يَقُولُ: جَاءَنِي أَكثَرُ-أَي أَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ عَرْضٌ بِسِعْرٍ أَكْبَرَ مِنْ عَرْضِهِم-، فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ تُجَّارُ المَدِينَةِ؛ فَمَنْ دَفَعَ لَكَ أَكْثَرَ؟ فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ وَعَدَ بِالحَسَنَةِ عَشْرَةَ أَمثالِها، وإِنَّي أُشْهِدُكُم أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ التِّجَارَةِ صَدَقَةٌ عَلَى أَهلِ المَدِينَةِ))، ومَا جَاءَ المَساءُ حَتَّى كَانَتْ كُلُّهَا مُوَزَّعَةً عَلَى المُحتَاجِينَ ولَمْ يَبِتْ مِنْها شَيءٌ، هَكَذا كَانَ المُسلِمونَ السَّابِقُونَ يَرْجُونَ أَنْ يَدْخُلُوا تَحْتَ قَولِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِماً سَتَرهُ اللهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)).
أَيُّها المُؤمِنونَ :
إِنَّ اللهَ بِرَحْمَتِهِ حِينَ خَلَقَ المَعْروفَ خَلَقَ لَهُ أَهْلاً، فَحَبَّبَهُ إِلَيهِم، وَحَبَّبَ إِلَيْهِم إِسْدَاءَهُ، وَجَّهَهُمْ إِلَيهِ كَمَا وَجَّهَ المَاءَ إِلَى الأَرضِ المَيتَةِ فَتَحْيَا بِهِ ويَحْيا بِهِ أَهلُها، وإِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ خَيْرَاً جَعَلَ قَضَاءَ حَوائجِ النَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ، ومَنْ كَثُرَتْ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِ كَثُرَ تَعَلُّقُ النَّاسِ بِهِ، فَإِنَّ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ للهِ فِيها فَقَدْ شَكَرَها وحَافَظَ عَلَيْها، وإِنْ قَصَّرَ وَمَلَّ وتَبَرَّمَ فَقَدْ عَرَّضَها لِلزَّوالِ ثُمَّ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ عَنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الحَدِيثِ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ للهِ أَقْواماً اختَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنافِعِ عِبَادِهِ، يُقِرُّها فِيهِمْ مَا بَذَلُوها، فَإِذَا مَنَعُوها نَزَعَها مِنْهُمْ وحَوَّلَها إِلَى غَيْرِهِم))، وعَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((إِنِّي حَرِيصٌ عَلَى أَلاَّ أَدَعَ حَاجَةً إِلاَّ سَدَّدتُها مَا اتَّسَعَ بَعْضُنا لِبَعْضٍ، فَإِذا عَجَزنا تَآسَيْنا فِي عَيشِنا حَتَّى نَستَوِيَ فِي الكَفافِ))، إِنَّهُ تَكَافُلٌ فِي المَنافِعِ وتَآزُرٌ عِنْدَ الشَّدائدِ، وتَضَامُنٌ فِي التَّخْفِيفِ مِنَ المَتاعِبِ، إِنَّها صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ الفَهْمِ الدَّقِيقِ لِمَعانِي التِّجَارَةِ، فَهْماً يُفِيدُنا بِأَنَّ عَلَى المُؤسَساتِ التِّجَارِيَّةِ، والمُنشآتِ الصِّناعِيَّةِ، والجِهَاتِ الإِنْتَاجِيَّةِ، التِزامَاً أَخْلاَقِيَّاً تِجَاهَ الوَطَنِ والمُواطِنينَ، يَفْرِضُ عَلَيْها مُراعَاةُ ظُرُوفِ المُستَهلِكينَ، فَما هِيَ إِلاَّ بِهِمْ، هُمْ أَدَاةُ إِنْتَاجِها، وهُمْ كَذَلِكَ سُوقُ مَبِيعَاتِها، وفِي هَذَا السِّياقِ يَتَعَيَّنُ عَلَى المُؤَسَّساتِ أَنْ تَضَعَ المَسؤولِيَّةَ الاجتِماعِيَّةَ فِي صُلْبِ استَراتِيجيَّاتِها، إِذْ أَنَّ هَذِهِ المَسؤولِيَّةَ هِيَ فِي المَقامِ الأَوَّلِ رِسَالَةُ صِدْقٍ وخِدْمَةٌ إِنْسانِيَّةٌ، تَهْدِفُ إِلَى تَحْسِينِ حَياةِ المُجتَمَعِ، ولِتَأْصِيلِ هَذَا المَعنَى شُرِعَتْ زَكَاةُ عُروضِ التِّجَارَةِ طَهَارةً لِلنُّفُوسِ، وتَزكِيَةً لِلْقِيَمِ والمَبادِئ، قَالَ تَعالَى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))(4)، وفِي المُقابِلِ حَذَّرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مَنْ يَبْخَلُ بِهَذا الحَقِّ فَقَالَ سُبْحانَهُ: ((وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))(5)، إِنَّ الزَّكَاةِ لَمْ تَكُنْ فَقَطْ مُجَرَّدَ إِعْطَاءِ بَعْضٍ مِنَ المَالِ لإِطْعامِ الفُقَراءِ ونَحْوِهِم، بَلْ هِيَ أَدَاةٌ مِنْ أَدَواتِ التَّنْمِيَةِ عَلَى صَعِيدٍ أَكْبَرَ، وذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ تَوفِيرِ فُرَصِ عَمَلٍ، مِثْلَ أَنْ يُعْطَ الشَّابُّ الفَقِيرُ رَأْسَ مَالٍ كَي يَبْدأَ تِجَارَةً، أَو يَشْتَرِيَ آلَةً لِحِرفَةٍ يَعلَمُها.
فَاتَّقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَلْتَكُنِ النُّفُوسُ سَخِيَّةً، والأَيْدِي بِالخَيْرِ نَدِيَّةً، واستَمسِكُوا بِعُرَى السَّمَاحَةِ، وسَارِعُوا إِلَى سَدادِ عَوَزِ المُعْوِزِينَ، ومَنْ بَذَلَ اليَوْمَ قَلِيلاً جَناهُ غَداً كَثِيراً، تِجَارَةٌ مَعَ اللهِ رَابِحَةٌ، وقَرْضٌ للهِ حَسَنٌ مَردُودٌ إِلَيْهِ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً، إِنْفَاقٌ بِاللَّيلِ والنَّهارِ، والسِّرِّ والعَلَنِ: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))(6).
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ لارتِفاعِ الأَسْعارِ أَسْباباً كَثِيرَةً مُتَنَوِّعَةً، وقَدْ يَجِدُ المَرءُ فِي كَثِيرٍ مِنْها أَعْذاراً لِلتُّجَّارِ، عِنْدَما يَتَبَيَّنُ أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ نِيَّةٌ لِلاستِغَلاَلِ والإِضْرارِ، لاَ سِيَّما فِي السِّلَعِ المُستَورَدَةِ مِنْ خَارِجِ البَلَدِ، والتِي لاَ يَكُونُ لِلتَّاجِرِ فِي تَحْدِيدِ سِعْرِها يَدٌ، ولِذَا كَانَ الأَصلُ فِي البَيْعِ والشِّراءِ مَنْعَ التَّسعِيرِ عَلَى أَربَابِ التِّجَارَةِ، لِمَا قَدْ يُسَبِّبُهُ ذَلِكَ لَهُمْ مِنَ الضَّرَرِ والخَسَارَةِ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فَقَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، سَعِّرْ لَنا، فَقالَ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّزاقُ، وإِنِّي لأَرْجُو أَنْ ألقَى رَبِّي ولَيْسَ أَحَدٌ يَطلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ ولاَ مَالٍ))، وَهَذا أَمْرٌ وَاضِحُ الحِكْمَةِ فِي السِّلَعِ المَجلُوبَةِ، وهُوَ كَذَلِكَ فِي أَوضَاعِ السُّوقِ العَادِيَّةِ، ولَكَنْ لَيْسَ فِيهِ مُبَرِّرٌ لِبَعْضِ صُوَرِ المُغالاَةِ فِي أَسْعارِ سِلَعٍ مِنَ المُنتَجاتِ الوَطَنِيَّةِ، أَبَانَتْ جِهاتُ الإختِصاصِ مِقْدَارَ قِيمَتِها التَّسوِيقِيَّةِ، ومِثلُها المُغالاَةُ فِي الإِيجَارَاتِ السَّكَنِيَّةِ، والمُضَارَبَةُ المُخَالِفَةُ لِلنُّظُمِ فِي المَبِيعَاتِ العَقارِيَّةِ، فَمَا المُبَرِّرُ لِرَفْعِ قِيمَةِ إِيجَارِ مَبَانٍ مَضَى عَلَى بِنَائها سَنواتٌ، ولَمْ تُكَلِّفْ مَالِكَها جَدِيداً مِنَ الأَعمَالِ والخِدْماتِ، فَيَرفَعُ السِّعْرَ مُتَجاوِزاً حُدودَ المَسْمُوحِ بِهِ فِي هَذَا المَجَالِ، إِنَّ لِمثْلِ هَذَهِ التَّصَرُّفاتِ عَلَى المُجتَمَعِ عَواقِبَ خَطِيرةً، ولَها نَتَائجُ وَخِيمَةٌ مُستَطِيرَةٌ، فَهِيَ تُؤثِّرُ عَلَى العُمَّالِ والمُوَظَّفِينَ، وعَلَى استِقرارِ شَرِيحَةِ المُنتِجِينَ، مِمَّنْ تَضْطَرُّهُمْ ظُروفُ عَمَلِهِمُ المَكَانِيَّةُ والزَّمانِيَّةُ إِلَى السَّكَنِ فِي مَنطِقَةٍ بِعَينِها، فَارتِفاعُ تَكالِيفِ السَّكَنِ مَعَ إِمكَانَاتِهِمُ المُحدودَةِ، قَدْ يَصَلُ بِهم إِلَى الأَزَماتِ والبَلْوَى، وحِينَها قَدْ لاَ يَكُونُ لاستِمرارِهم فِي أَعمَالِهم جَدْوَى، فَتَخْتَلُّ بِذَلِكَ الإِنتَاجِيَّةُ، وتَتَضَرَّرُ المَصَالِحُ الوَطَنِيَّةُ، فَأَيْنَ هَؤلاءِ المُلاَّكُ عَنْ مَسؤولِيَّاتِهِمُ التَّكَافُلِيَّةِ؟ وأَيْنَ هُمْ مِنْ قَولِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، ومَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ))، وقَولِهِ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِنْ كَانَ عِنْدكَ خَيْرٌ تَعودُ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وإِلاَّ فَلاَ تَزِيدَنَّهُ هَلاَكاً إِلَى هَلاَكِهِ))، أَلاَ فَلْيَعلَموا أَنَّ المَالَ مَالُ اللهِ، ومَا العَبْدُ إِلاَّ مُستَخْلَفٌ فِيهِ يَصْرِّفُهُ فِيما شَرَعَهُ سُبْحانَهُ وارتَضَاهُ، قَالَ عَزَّ وجَلَّ: ((آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ))(7)، إِنَّ عَدَمَ الاكتِراثِ بِعِبَادِ اللهِ المُحتاجِينَ، وإِهمَالَ مُراعَاةِ الضُّعفَاءِ والمُعْسِرينَ سُلُوكٌ سَيِّءٌ مُشِينٌ، وإِنَّ الشَّرِيعَةَ الكَامِلَةَ الحَكِيمَةَ العَادِلَةَ لا تُطْلِقُ تِلْكَ الحُرِّيَّةَ لأَربَابِ السِّلَعِ والمَتاعِ بِلاَ قُيودٍ ولاَ ضَوابِطَ، فَإِذَا أَسَاءَ التَّجارُ استِخْدامَ هَذِهِ الحُرِّيَّةِ وتَعَسَّفُوا وتَعَدَّوا، وتَرَكُوا السِّعْرَ المُتَقارِبَ المُتَعارَفَ عَلَيهِ إِلَى السِّعْرِ المُتَفاحِشِ الفَادِحِ، وعَمدوا إِلَى رَفْعِ أَسْعارِ السِّلَعِ والخِدْماتِ بِلاَ أَسْبابٍ تَسْتَدعِيهِ، ولاَ عَوامِلَ تَقتَضِيهِ سِوَى الطَّمَعِ، والرَّغْبَةِ فِي التَّكَاثُرِ والجَشَعِ، واستَغلُّوا رَغْبَةَ النَّاسِ فِي الشِّراءِ وحَاجتَهُمُ الاستِهلاَكِيَّةَ، وأََوهَمُوا المُشْتَرِينَ بِأُمُورٍ مُفتَعَلَةٍ وأَسْبابٍ مُختَلَقَةٍ لاَ حَقِيقَةَ لَها فِي الوَاقِعِ، حتَّى أَضْحَتِ الأَسْعارُ فِي تَصَاعُدٍ مُستَمِرٍّ وحَرَكَةٍ مُطَّرِدَةٍ، وأَصْبَحَ سِعْرُ الشَّيءِ مِثلَيْهِ أَو أَكْثَرَ إِلَى أَضْعافٍ مُضَاعَفَةٍ، وتَضَرَّرَ أَكْثَرُ النَّاسِ بِالغَلاَءِ، وأُرهِقَ الفُقَراءُ، وأُثقِلَ كَاهِلُ المُحتَاجِينَ والضُّعفاءِ، عِنْدَها تَكُونُ الأَذَيَّةُ لِلنَّاسِ ظَاهِرَةً، لاَ مُسَوِّغَ لِفِعْلِها ولاَ إِقْرِارِها، بَلْ يَجِبُ النَّهْيُ عَنْها وإِنكَارُها، كَيْ يَسِيرَ الجَمِيعُ عَلَى الطَّرِيقِ الأَمثَلِ الأَقْوَمِ، وهُنا قَدْ تَضْطَرُّ الجِهاتُ المَسؤولَةُ إِلَى التَّسْعِيرِ الذِي لاَ وَكْسَ فِيهِ ولاَ شَطَطَ، وقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الشَّرعِيَّةُ، والأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، عَلَى جَوازِ تَقْوِيمِ الأَشيَاءِ بِقيمَةِ عَدْلٍ وثَمَنِ مِثْلٍ، وفِي مِثْلِ هَذَهِ الحَالَةِ يَتَحقَّقُ بِالتَّسْعِيرِ رِبْحٌ ونَماءٌ لأَربَابِ السِّلَعِ وعَدْلٌ بَيْنَ البَائعِينَ والمُشتَرِينَ، ويَستَقِرُّ التَّوازُنُ الاقتِصادِيُّ العَامُّ، ويُحْمَى الضُّعفاءُ مِنْ جَشَعِ الطَّامِعينَ، ومَا يُؤَدِّي إِلَى استِغلاَلِ المُستَهلِكينَ، ويُحافَظُ عَلَى القُدْرَةِ الشِّرائيَّةِ لِلفُقَراءِ والمُحتَاجِينَ، تَحقِيقاً لِقَاعِدةِ: ((دَرْءُ المَفاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ المَصَالِحِ))، و((الضَّرَرُ الأَشَدُّ يُزالُ بِالضَّرَرِ الأَخَفِّ))، و((المَصلَحَةُ العَامَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى المَصلَحَةِ الخَاصَّةِ)).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واجعَلُوا مِنَ التَّكَافُلِ بَيْنَكُمْ مُعِيناً عَلَى الأَزَماتِ، ومِنَ الإِيثَارِ حَلاَّ لِلمُشْكِلاَتِ، تَطِبْ لَكُمُ الحَياةُ، وتَهْنأَوا بِالجَنَّةِ بَعْدَ المَمَاتِ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (8).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).






(1) سورة التوبة / 119 .
(2) سورة الجمعة / 10 .
(3) سورة الحشر / 9 .
(4) سورة التوبة / 103 .
(5) سورة التوبة / 34 .
(6) سورة البقرة / 274 .
(7) سورة الحديد / 7 .
(8) سورة الأحزاب / 56 .
 
:besmellah2:



التَّـقوَى ثمَراتٌ ومجَالاتٌ



الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، جَعَلَ التَّقوَى مَعْدِنَ الخَيْراتِ، ومَصْدَرَ البَركاتِ، وحَثَّ عَلَيْها فِي كَثِيرٍ مِنَ الآيَاتِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِما هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ، وأُؤمِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، القَائمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، الرَّقِيبُ عَلَى كُلِّ جَارِحَةٍ بِما اجتَرَحَتْ، الذِي لاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ تَحَرَّكَتْ أَو سَكَنَتْ، يَقْبَلُ طَاعَاتِ عِبَادِهِ وإِنْ قَلَّتْ، ويَتَفَضَّلُ بِالعَفْوِ عَنْ مَعاصِيهم وإِنْ كَثُرَتْ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِمَامُ المُتَّقِينَ، وقُدْوَةُ السَّابِقينَ واللاحِقينَ، اللَهُمَّ صَلِّ وَسلِّمْ وبَارِكْ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحابِهِ الذِينَ تَسَربَلُوا بِسِرْبالِ التَّقوَى؛ فَكَانوا أَكْرَمَ وأَعَزَّ وأَقْوَى، ورَضِيَ اللهُ عَنِ التَّابِعينَ لَهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى عِبادِهِ أَنْ يَتَّقوهُ حَقَّ تَقْواهُ، فَلاَ يَعْبُدونَ غَيْرَهُ ولاَ يَستَعِينونَ بِسِواهُ، ويَستَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ مَا دَامَ فِيهِم رَمَقٌ مِنْ حَياةٍ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))(1)، ولِتَقْوى اللهِ عَزَّ وجَلَّ فَوائدُ نَافِعَةٌ، وثِمارٌ يَانِعَةٌ، وآثَارٌ يَافِعَةٌ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ عَزَّ وجَلَّ وَفَّقَهُ اللهُ لِلْقَولِ السَّدِيدِ، ولِكُلِّ عَمَلِ صَالِحٍ رَشِيدٍ، وغَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ، وأَنَارَ لَهُ دُروبَهُ، وخَفَّفَ عَنْهُ هُمُومَهُ، وفَرَّجَ عَنْهُ كُروبَهُ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))(2)، ويَقولُ سُبْحانَهُ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))(3)، ويَقُولُ جَلَّ فِي عُلاَهُ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، َيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ))(4)، ويَقولُ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً))(5)، ويَقُولُ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً))(6).
عِبادَ اللهِ :
لَقَدْ عُنِيَ القُرآنُ الكُرِيمُ بِالتَّقْوَى عِنَايَةً فَائقَةً قُصْوَى، لِما لَهَا مِنْ أَثَرٍ طَيِّبٍ فِي عِمارَةِ الدُّنْيا والأُخْرَى، لِذَلِكَ وَعَدَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَى التَّقوَى الثَّوابَ العَظِيمَ، والأَجْرَ السَّخِيَّ الكَرِيمَ، فَقالَ تَباركَ وتَعالَى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ))(7)، كَما جَعَلَها اللهُ عَزَّ وَجلَّ سَبَباً لِمَغْفِرَتِهِ التَّامَّةِ، ورَحْمَتِهِ الشَّامِلَةِ العَامَّةِ، فَقالَ تَبارَكَ وتَعالَى: ((وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً))(8)، كَما جَعَلَها سَبَباً لِمَعِيَّتِهِ المُفْضِيَةِ إِلى الحِفْظِ والعِنايَةِ، والحِمايَةِ والرِّعايَةِ، فَقالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ))(9)، وقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ))(10)، كَما أَثْبَتَ اللهُ تَباركَ وتَعالَى وأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ تَفَضُّلاً وتَكَرُّماً مَحَبَّتَهُ لِمَنِ اتَّقاهُ، ومَنْ أَحبَّهُ اللهُ رَفَعَ دَرَجَتَهُ ورَقَّاهُ، وخَلَّدَ ذِكْرَهُ وأَبقاهُ، فَقالَ جَلَّ فِي عُلاَهُ: ((بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ))(11)، والتَّقوَى وَسِيلَةُ النَّجاةِ مِنْ مَكْرِ الشَّيْطانِ وَوَسَاوِسِهِ، وحِيَلِهِ ودَسائسِهِ، ومَنْ نَجا مِنْ وَساوِسِ الشَّيْطانِ أَبْصَرَ الحَقَّ ورآه؛ فَسَعِدَ فِي دُنْياهُ وفَازَ فِي أُخْراهُ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ))(12)، وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً))(13)، ومَنِ اتَّقَى اللهَ عَزَّ وجَلَّ لاَ يَصْدُرُ عَنْهُ مَا يَضُرُّ ويَسُوءُ، ولِذَلِكَ لاَ يَمَسُّهُ ضُرٌّ ولاَ سُوءٌ، يَقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ: ((وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))(14)، وَلَنْ يَكونَ امرؤٌ للهِ وليّاً إلاَّ إِذا آمَنَ وكَانَ تَقِيّاً، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))(15)، والتَّقوَى طَرِيقٌ مُستَقِيمٌ، مُوَصِّلٌ إِلَى جَنَّاتٍ النَّعِيمِ، ومَنْ وَصَلَ إِلَى الجَنَّةِ حُظِيَ بِوِراثَتِها، وفَازَ بِنَعِيمِها وخَيْراتِها، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً))(16)، ويَقُولُ جَلَّ شأْنُهُ: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ))(17)، ويَقُولُ تَعالَى: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ))(18).
عِبادَ اللهِ :
بِالتَّقوَى يَحفَظُ اللهُ الإِنْسانَ ويَحْمِيهِ، وبِها يَرُدُّ كَيْدَ مَنْ يُعادِيهِ، يَقُولُ سُبْحانَهُ وتَعالَى: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً))(19)، ومَنْ أَرادَ العِزَّةَ والكَرَامَةَ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ؛ فَلْيَجْعَلِ التَّقوَى لَهُ خَيْرَ زَادٍ وخَيْرَ لِباسٍ، فَكُلُّ زَادٍ يَنْفَدُ إلاَّ زَادَ التَّقوَى، وَكُلُّ لِباسٍ يَبْلَى إِلاَّ لِباسَ التَّقوَى، وكُلُّ كَرِيمٍ عِنْدَ النَّاسِ قَدْ يُهانُ إلاَّ مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ فَحَلاَّهُ بِالتَّقوَى وزَانَهُ، ولِذلِكَ فَهُوَ لاَ يَتَعَرَّضُ أَبَداً لِمَذلَّةٍ أَو مَهانَةٍ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى))(20)، ويَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: ((وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ))(21)، ويَقُولُ سُبْحانَهُ: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))(22)، وإِذا كَانَ لِلتَّقوى هَذِهِ المَكَانَةُ الرَّاقِيَةُ، والثمَّراتُ الخَالِدَةُ البَاقِيَةُ؛ فَلاَ عَجَبَ أَنْ جَعلَها اللهُ تَباركَ وتَعالَى وَصِيَّتَهُ لِلأَوّلِينَ والآخَرِينَ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ))(23)، كَما كَانَتْ وَصِيَّةُ الأَنْبِياءِ والمُرسَلِينَ أَجْمَعِينَ، فَما مِنْ رَسُولٍ أَرسَلَهُ اللهَ إلاَّ أَوصَى قَومَهُ بِالتَّقوَى، وعَظَّمَ أَمْرَها فَأَكَّدَها وكَرَّرها، يَذْكُرُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ نُوحاً وقَومَهُ فَيقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ: ((كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ))(24)، وكَذَلِكَ الشَّأْنُ مَعَ هُودٍ وصَالِحٍ ولُوطٍ وشُعَيْبٍ كَما جَاءَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الشُّعراءِ، وكَذلِكَ الشَّأْنُ مَعَ غَيْرِهم مِنْ أَنْبياءِ اللهِ ورُسُلِهِ كَما جَاءَ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ مِنْ سُورةٍ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، كَما أَوصَى بِها رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصْحابَهُ، ومِنْهُم تَنتَقِلُ وَصِيَّتُهُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرضَ ومَنْ عَلَيْها، فَقَدْ وَعَظَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- أَصْحابَهُ يَوماً فَقالوا لَهُ: كأَنَّها مَوعِظَةُ مُوَدِّعٍ فأَوصِنا فَقالَ: ((أُوصِيكُم بِتَقوَى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعَةِ))، كَما كَانَ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- -وهُوَ إِمَامُ المُتَّقِينَ- يَسأَلُ رَبَّهُ التَّقوَى؛ لِيُعِينَهُ رَبُّهُ عَلَى الثَّباتِ عَلَيْها، فَقَدْ جَاءَ فِي دُعائهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((اللهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفافَ والغِنَى)).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ التَّقوَى رَأْسُ كُلِّ أَمْرٍ، وجِماعُ كُلِّ خَيْرٍ؛ فَتَسلَّحوا بِها لِدُنْياكُم وأُخْراكُم.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.

*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ والتَّصَوُّرِ العَقِيمِ فَهْمَ وتَصَوُّرَ أَنَّ التَّقِيَّ فَقَطْ هُوَ العَابِدُ النَّاسِكُ، المُحافِظُ عَلَى الشَّعائِرِ والمَناسِكِ، والحَقِيقَةُ أَنَّ التَّقوى أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وأَشْمَلُ، إِذْ هِيَ وَصِيَّةٌ لاَ يَستَغْنِي عَنْها عَامِلٌ أَو صَانِعٌ فِي مَصنَعِهِ، أَو زَارِعٌ فِي مَزرَعَتِهِ، أَو تَاجِرٌ فِي تِجارَتِهِ، أَو مُوَظَّفٌ فِي وَظِيفَتِهِ، أَو عَالِمٌ فِي عِلْمِهِ، لاَ تَستَغْنِي عَنِ التَّقوَى الحَياةُ الأُسَرِيَّةُ، والدَّوائرُ الحُكومِيَّةُ، والمُؤسَّساتُ التَّنمَوِيَّةُ والتَّعلِيميَّةُ، والشَّركاتُ الاستِثْمارِيَّةُ، وكُلُّ مَظاهِرِ الحَياةِ الاجتِماعِيَّةِ، ولَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- حَرِيصاً عَلَى أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ بِالتَّقوَى فِي المُناسَباتِ العَامَّةِ، والظُّروفِ الطَّارئةِ الهَامَّةِ، فَكَانَ إِذا عَقَدَ قِرانَ الزَّواجِ تَلاَ عَلَى النَّاسِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ تَتَضَمَّنُ الدَّعوَةَ إِلى تَقوى اللهِ؛ لِتَبدأَ الأُسْرَةُ الجَدِيدَةُ مَسِيرَها عَلَى أَساسٍ مِنَ التَّقوى المُوجِبَةِ لِتَحَرِّي العَدلِ والإِنْصافِ، بَعِيداً عَنْ كُلِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظاهِرِ الظُّلْمِ والإِجْحافِ، والتَّدنِّي والإِسفافِ، وبِذَلِكَ تُحَصَّنُ الأُسْرَةُ، فَلاَ يَحْدُثُ فِيها مَا يُذَمُّ أَو يُعابُ، ولاَ يُدْرِكُها خَلَلٌ واضطِرابٌ، فَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرادِ الأُسْرَةِ يَعْرِفُ حَقَّهُ، ويُؤدِّي واجِبَهُ بِكُلِّ هِمَّةٍ ودِقَّةٍ، وبِذلِكَ تَسِيرُ سَفِينَةُ الأُسْرَةِ رَخاءً نَحْوَ غَايَاتِها النَّبِيلَةِ، مِجْدافُها الحُبُّ وشِراعُها الفَضِيلَةُ، وكَانَ -صلى الله عليه وسلم- إِذا رأَى مَظْهراً مِنْ مَظاهِرِ الفَقْرِ والفَاقَةِ ذَكَّرَ النَّاسَ بِتَقوى اللهِ، فَبِهذِهِ التَّقوَى يَتَحقَّقُ الحُبُّ فَيَترسَّخُ الإِخاءُ، فَيَنْمَحِي الفَقْرُ ويَعُمُّ الرَّخاءُ، إِنَّ أَصْحابَ القُلوبِ التَّقِيَّةِ هُمْ أَصْحابُ القُلوبِ السَّلِيمَةِ النَّقِيَّةِ، الذِينَ لاَ يَهْدأُ لَهُم بَالٌ، ولاَ يَستَقِرُّ لَهُمْ حَالٌ، حتَّى يُساهِموا فِي تَخْفِيفِ الأَزَماتِ، وحَلِّ المُشْكِلاتِ وإِزالَةِ الكُرُباتِ، وهَؤلاءِ هُمُ النَّاجُونُ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ ولاَ بَنونَ، قَالَ اللهُ تَعالَى: ((يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))(25)، لَقَدْ رأَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صَباحَ يَوْمٍ قَوماً تَظْهَرُ عَلَى أَشْكَالِهم وهَيْئاتِهم الفَاقَةُ وشِدَّةُ الحَاجَةِ، فَخَطَبَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ فَقَرأَ قَولَ اللهِ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً))(26)، كَما تَلاَ قَولَ اللهِ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))(27).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ مَجالاَتِ التَّقوَى حُسْنَ المُعامَلَةِ وطِيبَ الأَخْلاَقِ، ابتِغاءَ مَرْضَاةِ اللهِ العَلِيمِ الخَلاَّقِ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (28).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).






(1) سورة آل عمران / 102 .
(2) سورة الاحزاب / 70-71 .
(3) سورة الحديد / 28.
(4) سورة الطلاق / 2-3 .
(5) سورة الطلاق / 4 .
(6) سورة الطلاق / 5 .
(7) سورة البقرة / 103 .
(8) سورة النساء / 129.
(9) سورة البقرة / 194.
(10) سورة النحل / 128.
(11) سورة آل عمران / 76.
(12) سورة الأعراف / 201 .
(13) سورة النبأ / 31 .
(14) سورة الزمر / 61 .
(15) سورة يونس / 62-64 .
(16) سورة مريم / 63.
(17) سورة المرسلات / 41-44 .
(18) سورة الذاريات / 15-16 .
(19) سورة آل عمران / 120 .
(20) سورة البقرة / 197.
(21) سورة الأعراف / 26 .
(22) سورة الحجرات / 13 .
(23) سورة النساء / 131 .
(24) سورة الشعراء / 105-108 .
(25) سورة الشعراء / 88-89 .
(26) سورة النساء / 1 .
(27) سورة الحشر / 18 .
(28) سورة الأحزاب / 5
6
.
 
:besmellah1:

خطبة الجمعة بتاريخ 19 ربيع الثاني 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم


كُـــنْ مُتفَائِلاً فِي حَياتِكَ

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، جَعَلَ التَّفاؤلَ فِي الحَياةِ مِنْ شِيَمِ المُتَّقِينَ، وسَبِيلاً لِلسَّعادَةِ والفَلاَحِ فِي الدَّارَيْنِ، أَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ بِما هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ وصَبَرَ عَلَى المِحَنِ والشَّدائِدِ، -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى آلِهِ وَصَحْابِهِ أَجمَعِينَ والتَّابِعينَ لَهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
أُوصِيكُم ونَفْسِي بِتَقوى اللهِ تَعالَى، فَإِنَّها سَبَبٌ لِتَحقِيقِ المَرْغُوبِ، وانْدِفاعِ المَرْهُوبِ، وتَبْدِيدِ الكُروبِ، وبَسْطِ الأَرزاقِ، ودُخولِ جَنَّةِ الكَرِيمِ الخَلاَّقِ، قَالَ تَعالَى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ))(1)، واعلَموا -عِبادَ اللهِ- أَنَّ اللهَ تَعالَى قَدْ جَعَلَ الحَياةَ الدُّنْيا مُتَقلِّبَةَ الأَحوالِ، لاَ تَستَقِيمُ أَبداً عَلَى حَالِ، ولاَ تَصفُو لِمَخلُوقٍ مِنَ الكَدَرِ، فَفِيها الخَيْرُ والشَّرُّ، والسُّرورُ والحُزْنُ، ويأْتِي الأَملُ والتَّفاؤلُ شُعاعَيْنِ يُضِيئانِ دَياجِيرَ الظَّلاَمِ، ويَشُقَّانِ دُروبَ الحَياةِ لِلأَنامِ، فَيَبْعثانِ فِي النَّفْسِ الجِدَّ والمُثابَرَةَ، ويُلَقِّنانِها الجَلَدَ والمُصابَرَةَ، فَالذِي يُغْرِي التَّاجِرَ فِي تِجارَتِهِ أَمَلُهُ فِي الأَربَاحِ، والذِي يَبْعَثُ الطَّالِبَ لِلْجِدِّ فِي دِراسَتِهِ أَمَلُهُ فِي النَّجاحِ، والذِي يُحَبِّبُ إِلى المَرِيضِ الدَّواءَ المُرَّ أَمَلُهُ فِي الشِّفاءِ، والذِي يَدْعُو المُؤمِنَ أَنْ يُخالِفَ هَواهُ، ويُطِيعَ مَولاَهُ، أَمَلُهُ فِي الفَوزِ بِجَنَّتِهِ ورِضاهُ، وإِذا تَعَسَّرَ عَلَى المُؤمِنِ شَيءٌ لَمْ يَنْقطِعْ أَمَلُهُ فِي تَبدُّلِ العُسْرِ إِلى يُسْرٍ، وإِذا اقتَرفَ ذَنْباً لَمْ يَيأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ومَغْفِرَتِهِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ ولاَ يُسَوِّفُ فِي تَوْبَتِهِ، قَالَ تَعالَى: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))(2)، فَبِالأَمَلِ يَذُوقُ الإِنْسانُ طَعْمَ السَّعادَةِ، وبِالتَّفاؤلِ يُحِسُّ بِبَهْجَةِ الحَياةِ، ولَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُعْجِبُهُ الفَأْلُ، لأَنَّ فِيهِ إِحْسانَ الظَّنِّ بِاللهِ عَزَّ وجَلَّ.
عِبادَ اللهِ :
إِنَّ حَقِيقَةَ الأَمَلِ لاَ تَأْتِي مِنْ فَراغٍ، كَما أَنَّ التَّفاؤلَ لاَ يَنشأُ مِنْ عَدَمِ، إِذْ أَنَّهُما وَلِيدا الإِيمَانِ العَمِيقِ بِاللهِ جَلاَّ وعَلاَ، والمَعْرِفَةِ بِسُنَنِهِ ونَوامِيسِهِ فِي الكَوْنِ والحَياةِ، فَهُوَ سُبْحانَهُ يُصَرِّفُ الأُمُورَ كَيفَ يَشاءُ مَتَى شَاءَ، بِعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ، وإِرادَتِهِ ومَشِيئَتِهِ، ((وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ))(3)، فَيُبَدِّلُ مِنْ بَعْدِ الخَوفِ أَمْناً، ومِنْ بَعْدِ العُسْرِ يُسْراً، ويَجْعَلُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ومِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، ولِهذَا كَانَ المُؤمِنُ عَلَى خَيْرٍ فِي كُلِّ الأَحْوالِ، لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِاللهِ الوَاحِدِ المُتَعالِ، وَتَفاؤُلِهِ لِبُلُوغِ الآمَالِ، فَهُوَ شَاكِرٌ للهِ فِي السَّرَّاءِ، وصَابِرٌ عَلَى مَا أَصَابَهُ فِي الضَّرَّاءِ، فَكَانَ أَمْرُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ، ولَيسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلْمُؤمِنِ المُتَفائِلِ، فَعَنْ صُهَيْبِ بنِ سِنانٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((عَجَباً لأَمْرِ المُؤمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلُّهُ خَيْرٌ، ولَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ، إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وإِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ))، والمُؤمِنُ دائماً يَضَعُ نُصْبَ عَينَيْهِ قَولَ اللهِ تَعالَى: ((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ))(4)، وهُوَ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، ومَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيْبَهُ كَما قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، وحَتَّى يَعلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، ومَا أَخْطأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ))، وشَتّانَ مَا بَيْنَ حَالِ المُتفائِلِ والمُتشَائِمِ، إِذِ المُتشائِمُ لاَ يَرَى فِي الوُجُودِ إِلاَّ الظَّلاَمَ والشَّقاءَ، ولاَ يَرَى الحَياةَ إِلاَّ بِنَظْرَةٍ سَوْداءَ، فَحَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مِنَ التُّعساءِ.
عِبادَ اللهِ :
جَدِيرٌ أَنْ يَلِدَ الإِيمَانُ الأَمَلَ، وأَنْ تُثْمِرَ شَجَرَةُ اليَقِينِ التَّفاؤلَ، وأَنْ يَكونَ المُؤمِنُ أَوْسَعَ النَّاسِ أَمَلاً، وأَكْثَرَهُمْ استِبْشَاراً وتَفاؤلاً، فَهَذا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الذِي أَرْسَلَهُ اللهُ بَشِيراً ونَذِيراً، ودَاعِياً إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ وسِراجاً مُنِيراً، مَكَثَ فِي مَكَّةَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ عَاماً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ، لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ عِبادَةِ الأَصْنامِ، إِلى عِبادَةِ المَلِكِ العَلاَّمِ، فَجَابَهَ طَواغِيتُ الشِّرْكِ دَعْوَتَهُ بِالاستِهزاءِ والعِصْيانِ، ورَفَضُوا عِبادَةَ الواحِدِ الدَّيّانِ، وواجَهُوا آياتِ رَبِّهِ بِالسُّخْرِيَةِ والاستِهزاءِ، وأَذاقُوا أَصْحابَهُ أَلواناً مِنَ الإِيذَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَضْعُفْ أَو يَستَكِينْ، ولَمْ يَنْطَفئْ فِي صَدْرِهِ الأَمَلُ والتَّفاؤلُ، وحِينَ اشْتَدَّ عَلَيهِ وعَلَى صَاحِبِهِ الطَّلَبُ أَيَامَ الهِجْرَةِ، وَوصَلَ المُشْرِكونَ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ كَانَ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِلُغَةِ الواثِقِ بِرَبِّهِ، الذِِِِِِي لَمْ يَتَسرَّبِ اليَأسُ إِلَى قَلْبِهِ: ((ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثالثُهُما)). ولاَ عَجَبَ أَنْ يَكونَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِهذَا اليَقِينِ والتَّفاؤلِ؛ فَهَذِهِ صِفَاتُ إِخْوانِهِ المُرْسَلَيِنَ مِنْ قَبْلِهِ، وقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي قَولِهِ: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ))(5)، فَهَذَا إِبراهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- قَدْ صَارَ شَيْخاً كَبِيراً، ولَمْ يُرزَقْ بِولَدٍ، فَدَفَعَهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِالوَاحِدِ الأَحَدِ، وتَفَاؤلُهُ بِالفَرْدِ الصَّمَدِ، أَنْ يَدْعُوَهُ لِيَرزُقَهُ وَلَداً مِنَ الصَّالِحينَ فَقَالَ: ((رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ))(6)، فَاستَجابَ لَهُ رَبُّهُ ووَهَبَهُ إِسْماعِيلَ وإِسْحَاقَ نَبِيَّينِ مِنَ الصَّالِحينَ، وهَذا نَبِيُّ اللهِ يَعقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَقَدَ ابنَهُ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- ثُمَّ أَخَاهُ، فَصَبَرَ عَلَى مِحنَتِهِ وبَلْواهُ، إِذْ لَمْ يَتْرُكْ لِليَأْسِ مَجالاً فَيُثَبِّطهُ، ولاَ سَرَى فِي عُروقِهِ الشَّكُّ بِرَبِّهِ فَيُقْنِطهُ، بَلْ تَفاءَلَ ورَجَا، أَنْ يَجِدَ لِمِحنَتِهِ مَخْرَجاً، فَقَالَ بِقَلْبٍ مِلْؤُهُ اليَقِينُ، وإِحْسَاسُ الصَّابِرينَ المُتفائِلِينَ: ((فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ))(7)، ومَا أَجْمَلَهُ مِنْ تَفاؤُلٍ وأَمَلٍ، تُعَزِّزُهُ الثِّقَةُ بِاللهِ حِينَ قَالَ: ((يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ))(8)، وأَيُّوبُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- ابتَلاَهُ رَبُّهُ بِذَهَابِ المَالِ، وَفَقْدِ العَافِيَةِ والعِيالِ، ثُمَّ مَاذَا؟! قَالَ تَعالَى: ((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ))(9)، إِنَّ المُؤمِنَ بِقَضاءِ اللهِ وقَدَرَهِ، وخَيْرِهِ وَشَرِّهِ، يَعلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا أَلمَّ بِهِ وأَصَابَهُ، قَدْ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ وكَتَبَهُ، إِيماناً بِقَولِهِ تَعالَى: ((قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ))(10)، إِنَّ المُؤمِنَ إِذ جَدَّ فِي الحَياةِ واجتَهَدَ لِلحُصُولِ عَلَى أَحَدِ المَطالِبِ، وواجَهَ مَشَقّاتٍ ومَصَاعِبَ ثُمَّ فَشَلَ؛ فَلاَ يَسْخَطُ ولاَ يَقْنَطُ، ولاَ يَيأْسُ ولاَ يُحْبَطُ، فَالحَياةُ كُلُّها تَجارِبُ وابتِلاءاتٌ، والأَمَلُ والتَّفاؤلُ مَطلَبٌ لِلتَّغلُّبِ عَلَى الأَزَماتِ، يُعْطِي المُؤمِنَ قُوَّةً وعَزِيمَةً، وطَاقَةً عَظِمَيةً، فَهُوَ إِذا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ، لاَ يَعْرِفُ طَرِيقاً لِلفَشَلِ، ولاَ يُخالِجُهُ الكَسَلُ والمَلَلُ، ولَوِ استَبْطأَ الفَرَجَ، وكَثُرَ دُعاؤه وتَضَرَّعَ، ولَمْ يَظْهَرْ أَثَرٌ لِلإِجابَةِ، يَظَلُّ مُتفائِلاً فِي حَياتِهِ، لاَ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ عَلَى سُلُوكِهِ وتَصَرُّفاتِهِ، فَمَا أَصَابَهُ ابتِلاَءٌ واختِبارٌ، مُقدَّرٌ عَلَيْهِ مِنَ الوَاحِدِ القَهَّارِ، وهَذَا دَلِيلُ مَحَبَّةِ اللهِ سُبْحانَهُ لِعَبْدِهِ، قَالَ تَعالَى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))(11).
فَاتَّقوا اللهَ –عِبادَ اللهِ-، واجْعَلُوا في حَيِاتكُمُ التَّفَاؤُلَ والأَمَلَ، ولاَ تَركَنُوا إِلى اليأْسِ والفَشَلِ، واستَعِينُوا بِاللهِ وتَوكَّلُوا عَلَيْهِ ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ))(12).
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أيُّها المُسلِمونَ:
إِنَّ الذِينَ يُحْسِنُونُ صِناعَةَ الحَياةِ، ويَبنُونُ أُسُسَ الحَضارَةِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ تَفاؤلاً وأَمَلاً، وإِنَّ المُتشائِمينَ لاَ يَصنَعونَ حَضارَةً، ولاَ يَبنُونَ وَطَناً، ولاَ يَعْمُرونَ دُنْيا، فَكُونُوا -عِبادَ اللهِ- مِنْ أَهلِ الأَمَلِ والتَّفاؤُلِ تَنالُوا فَضْلَهُ، وإِيَّاكُم واليَأْسَ وأَهلَهُ، فَإِنَّهُ يُطْفِئُ جَذْوَةَ الأَمَلِ فِي النُّفُوسِ، ويَقْطَعُ خُيوطَ الرَّجاءِ مِنَ القُلُوبِ، فَيُوْرِثُ الهُمومَ والكُروبَ، ويَقْتُلُ بَواعِثَ الجِدِّ والعَمَلِ، ويُسلِمُ صِاحِبَهُ لِلْكَآبَةِ والمَلَلِ، ولَيسَ اليأْسُ والقُنوطُ مِنْ صِفاتِ المُؤمِنينَ، كَما قَالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي كِتَابِهِ المُبِينِ: (( وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ ))(13)، وَقَالَ عَبْدُاللهِ بنُ مَسْعودٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَكْبَرُ الكَبائرِ: الإِشْراكُ بِاللهِ، والأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، والقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، واليَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ)).
عِبادَ اللهِ :
إِنَّ الحَياةَ قَصِيرَةٌ فَلاَ تُقَصِّروها بِالهُمومِ والأَحْزانِ، ولاَ تَحْمِِلوا الأَرضَ فَوقَ رُؤوسِكُم، وقَدْ جَعَلَها اللهُ تَحْتَ أَقْدامِكُم، ولاَ تَخْشَوا الظَّلاَمَ ولاَ تَذْرِفُوا لَهُ دُمُوعاً، بَلْ أَوقِدُوا لِتَبْدِيدِهِ أَضْواءً وشُموعاً، ولاَ تُنَغِّصُوا عَيشَ اليَوْمِ بِالتَّفْكِيرِ والخَوفِ مِنَ المُستَقبَلِ، إِنَّ الحَياةَ هَكَذا خُلِقَتْ، لاَ تَصفُو لأَحَدٍ مِنَ الكَدَرِ، فَلاَ مُبَرِّرَ لِلْخَوفِ مِنْها والحَذَرِ، ولَولاَ أَنَّها دَارُ ابتِلاَءٍ واختِبارٍ لَمْ تَكُنْ فِيها الأَمْراضُ والأَكْدارُ، ولَمْ يَضِقِ العَيشُ فِيها عَلَى الأَنْبِياءِ الأَخْيارِ، واعلَمُوا أَنَّ بَسْمَةَ الحَياةِ ولَذَّتَها مِنْ نَصِيبِ أَربابِ الأَمَلِ وأَصْحابِ التَّفاؤلِ، ورُبَّ مِحنَةِ تَلِدُ مِنْحَةً، ورُبَّ نُورٍ يَشِعُّ مِنْ كَبِدِ الظَّلاَمِ، وإِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، والفَرَجَ بَعْدَ الكَرْبِ، وإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، فَأَبْشِروا وأَمِّلُوا، فَمَا بَعْدَ دَياجِيرِ الظَّلاَمِ إِلاَّ فَلَقُ الصُّبْحِ المُشْرِق.
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وأَحْسِنوا الظَّنَّ بٍاللهِ وتَفاءلُوا، ولاَ تَجْعلُوا لِليأْسِ طَرِيقاً إِلَيكُم فَتَهلَكُوا وتَفْشَلوا، وتَذكَّروا قَولَ اللهِ فِي الحَدِيثِ القُدُسيِّ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْراً فَلَهُ، وإِنْ ظَنَّ شَرّاً فَلَهُ)).
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (14).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.

اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ)).




(1) سورة الطلاق / 2-3 .
(2) سورة الزمر / 53.
(3) سورة الرعد / 8 .
(4) سورة البقرة / 216 .
(5) سورة الأنعام / 90 .
(6) سورة الصافات / 100 .
(7) سورة يوسف / 83 .
(8) سورة يوسف / 87 .
(9) سورة الأنبياء / 83-84.
(10) سورة التوبة / 51 .
(11) سورة التغابن / 11 .
(12) سورة الطلاق/ 3 .
(13) سورة الحجر / 56 .
(14) سورة الأحزاب / 56 .
 
:besmellah2:



تَـرْكُُ مَا لاَ يَعْنِي





الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خَلَقَ الإِنْسانَ، وخَصَّهُ بِالنُّطْقِ والبَيانِ، وأَحْصَى عَلَيهِ مَا يُخْفِيهِ ومَا يُبْدِيهِ، ونَهاهُ عَنِ التَّدخُّلِ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ بِما هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، يُعْطِي مَا يَشاءُ ويَمنَعُهُ ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ))(1)، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، كَانَ صَمتُهُ فِكْراً، ونُطْقُهُ ذِكْراً، ونَظَرُهُ عِبَراً، -صلى الله عليه وسلم- وعَلَى آلِهِ وأَصْحابِهِ ومَنْ تَبِعَهم بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَرْكُ مَا لاَ يَهُمُّ الإِنْسانَ ولاَ يَعنِيهِ تَصَرُّفُ العُقلاَءِ وشَأْنُ النُّبَهاءِ، وخُلُقُ الأَذكِياءِ وحِلْيَةُ الأَولياءِ، فَلاَ عَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذا الخُلُقُ عَلَى حُسْنِ الإِسلاَمِ دَلِيلاً، وإِلَى النَّجاةِ والسَّلاَمَةِ سَبِيلاً، فَعَنْ أَبِي هُريْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسلاَمِ المَرءِ تَركُهُ مَا لاَ يَعنِيهِ)) وجَاءَ فِي الأَثَرِ: ((عَلَى العَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمانِهِ، مُقْبِلاً عَلَى شأْنِهِ، حَافِظاً لِلِسَانِهِ، ومَنْ حَسِبَ أَنَّ كَلاَمَهُ مِنْ عَملِهِ قَلَّ كَلاَمُهُ إِلاَّ فِيما يَعنِيهِ))، إِنَّ كَمالَ الإِسلاَمِ والإِيمانِ سَبِيلٌ مُوصِلٌ إِلى الإِحْسانِ، ومَنْ بَلَغَ هَذا المَقامَ راقَبَ اللهَ حَقَّ المُراقَبَةِ، وحَاسَبَ نَفْسَهُ حَقَّ المُحاسَبَةِ، فَإِذا تَكلَّمَ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ لَهُ سَمِيعٌ، وإِذا سَكَتَ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ، فَتَرَكَ مَا لاَ يَعنِيهِ مِنَ الأَقوالِ والأَفْعالِ، وفَرَّغَ نَفْسَهُ لِما يَهُمُّهُ فِي أُمورِ دِينِهِ ودُنْياهُ، وبِذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الأَتْقياءِ، ويَنْدَرِجُ فِي سِلْكِ الأَولياءِ، هَؤلاءِ الذِينَ أَثْنَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَيْهم، بَعْدَ الإِعلاَمِ بِأَنَّهُ سُبْحانَهُ عَلِيمٌ بِالسَّرائِرِ، مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ مُضْمَرٍ وظَاهِرٍ، يَقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ وتَعالَى: ((وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))(2).
أَيُّها المُؤمِنونَ :
إِنَّ العَاقِلَ هُوَ الذِي يَتَحرَّى قَبْلَ الإِقْدامِ عَلَى القَولِ أَو العَملِ؛ فيُوَجِّهُ السُّؤالَ إِلى نَفْسِهِ: هَلْ هَذا القَولُ أَو هَذا العَملُ يَهُمُّهُ ويَعنِيهِ، فَإِنْ رأَى ذَلِكَ أَقْدَمَ، وإِنْ رأَى غَيْرَ ذَلِكَ امتَنَعَ وأَحْجَمَ، فَمِنَ الأَقوالِ والأَفْعالِ مَا هُوَ ضَروريٌّ، بَلْ مِنْهُ مَا هُوَ طَاعَةٌ وعِبادَةٌ، ومِنْهُ كَذلِكَ مَا هُوَ فَضلٌ وزِيادَةٌ، وصَاحِبُ الوَعْيِ اليَقِظِ والفِكْرِ العَمِيقِ يُخْضِعُ كَلاَمَهُ وعَملَهُ قَبلَ الصُّدورِ لِلْفَحْصِ والتَّحقِيقِ، فَإِذا كَانَ الأَمْرُ يَهُمُّهُ تَكلَّمَ أَو عَمِلَ، مُلاَحِظاً الوَقْتَ المُناسِبَ لِكَلاَمِهِ أَو عَملِهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتكلَّّمونَ فِي أُمورٍ تَعنِيهم غَيْرَ أَنَّهُم لاَ يَضَعُونَ الكَلِمَةَ مَوضِعَها، ولاَ يَخْتارونَ مَوقِعَها، فيُعابونَ ويُذَمُّونَ، وهَذا عَيْبٌ قَادِحٌ وخَطأٌ فَادِحٌ، فَمَنْ تَدَخَّلَ فِي أَمْرٍ لاَ يَعنِيهِ حَدَثَ حَتْماً مَا يَضُرُّهُ ويُؤذِيهِ، ومَنْ كَثُرَ لَغَطُهُ كَثُرَ غَلَطُهُ، يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهما-: ((خَمْسٌ لَهُنَّ أَحْسَنُ مِنَ الدُّهْمِ المُوقَّـفَةِ -أَي الخَيلِ التِي فِي قَوائِمِها بَياضٌ-: لاَ تَتكلَّمْ فِيما لاَ يَعنِيكَ فَإِنَّهُ فَضْلٌ ولاَ آمِنُ عَلَيكَ الوِزْرَ، ولاَ تَتكلَّمْ فِيما يَعنِيكَ حَتَّى تَجِدَ لَهُ مَوضِعاً؛ فَإِنَّهُ رُبَّ مُتكَلِّمٍ فِي أَمْرٍ يَعنِيهِ قَدَ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوضِعِهِ فَعِيبَ، ولاَ تُمارِ حَلِيماً ولاَ سَفِيهاً؛ فَإِنَّ الحَلِيمَ يَقْلِيكَ، وإِنَّ السَّفِيهَ يُؤْذِيكَ، واذْكُرْ أَخاكَ إِذا تَغَيَّبَ عَنْكَ بِما تُحِبُّ أَنْ يَذكُرَكَ بِهِ، وأَعفِهِ مِمّا تُحِبُّ أَنْ يُعفِيَكَ مِنْهُ، واعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَرَى أَنَّهُ مُجازَى بِالإِحْسانِ، مأْخُوذٌ بِالإِجْرامِ)). إِنَّ الذِي يَضْبِطُ نَفْسَهُ حِينَ يُرِيدُ عَملاً أَو يُزمِعُ مَقالاً يأْتِي عَمَلُهُ مُتْقَناً رَشِيداً، وقَولُهُ مُتَّزِناً سَدِيداً، وبِذلِكَ يَصلُحُ عَمَلُهُ ويَتَحقَّقُ أَملُهُ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))(3)، إِنَّ التَّدخُّلَ فِيما لاَ يَهُمُّ الإِنْسانَ ولاَ يَعنِيهِ رُبَّما يُبعِدُهُ عَنِ الجَنَّةِ ويُقْصِيهِ، فَالأَمْرُ إذاً جِدُّ خَطِيرٍ وشَرٌّ مستَطِيرٌ، وبِقَدْرِ تَنزُّهِ المَرءِ عَنْ هَذا التَّصرُّفِ المَعِيبِ تَكُونُ مَكانَتُهُ ودَرجَتُهُ عِنْدَ اللهِ القَرِيبِ المُجِيبِ، فَعَنْ أَنسِ بنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تُوفِّيَ رَجُلٌ فَقالَ رَجُلٌ آخَرُ -ورَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْمَعُ-: أَبْشِرْ بِالجَنَّةِ، فَقالَ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : أَولاَ تَدْرِي؟ فَلَعلَّهُ تَكلَّمَ فِيما لاَ يَعنِيهِ، أَو بَخِلَ بِما لا يُنقِصُهُ)).
أَيُّها المُسلِمونَ :
إِنَّ تَدخُّلَ المَرءِ فِي شُؤونِ الغَيْرِ تَطَفُّلٌ يَجلِبُ الذَّمَّ ولاَ يأْتِي بِخَيرٍ، خُصوصاً إِذا كَانَ هَذا التَّدَخُّلُ لاَ ضَرورةَ لَهُ ولاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ، ويَزدادُ هَذا التَّدَخُّلُ شَناعَةً ويَتدَنَّى وَضاعَةً إَذا كَانَ القَصدُ مِنْ وَرائهِ الإِفْسادَ لاَ الإِصلاَحَ، فَبَعْضُ ضِعافِ النُّفوسِ يَنْتَهِزُونَ فُرصَةَ خِلاَفٍ وشِقاقٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ أَو شَقِيقَيْنِ، أَو قَرِيبَيْنِ أَو صَدِيقَيْنِ، فَيَفْرِضُونَ أَنْفُسَهم عَلَى الطَّرَفَيْنِ، ويَتدخُّلونَ بَينَهما دُونَ دَعْوةٍ، بِقَصْدِ اتِّساعِ هُوَّةِ الخِلاَفِ، وتَضخِيمِ أَسْبابِ الاختِلافِ، فَإِذا بِهِمْ يُعقِّدونَ الأَمْرَ، ويَنفَخونَ فِي الجَمْرِ، وهَذا تَصرُّفٌ صَفِيقٌ، يَقْطَعُ عَلَى الإِصلاَحِ السَّبِيلَ ويَسُدُّ أَمَامَهُ الطَّرِيقَ. لاَ بأَسَ أَنْ يَتَدَخَّلَ المَرءُ حَتَّى دُونَ رَغْبَةِ الطَّرفَيْنِ بِشَرطِ سَلاَمَةِ النِّيَّةِ وحُسْنِ الطَّوِيَّةِ، بلْ هُوَ أَمْرٌ مَطلُوبٌ وعَملٌ مَرغُوبٌ وتَصرُّفٌ مَحْبوبٌ، بلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ قُربى وعِبادَةٌ، تُحقِّقُ لِلْمُجتَمَعِ الأَمْنَ وتَضَعُهُ عَلَى طَرِيقِ السَّعادَةِ، فَالإِسلاَمُ يُحذِّرُ مِنَ الخُصوماتِ، ويَرَى مَنْعَها مِنْ أَفضلِ القُرُباتِ، فَالخُصومَةُ إِذا استَمرَّتْ ولَمْ تَجِدْ مَنْ يُساهِمُ فِي إِطْفائِها؛ تَدفَعُ بِالخَصْمَينِ إِلى طَمْسِ الفَضائِلِ، وتَضْخِيمِ الرَّذائلِ، بلْ رُبَّما تَدفَعُ إِلى تَلْفِيقِ الأَكاذِيبِ بِقَصدِ التَّشهِيرِ، وقَدْ حَذَّرَ الإِسلاَمُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ تَحْذِيرٍ، واعتَبَرَ ذَلِكَ ظُلْماً وبُهتاناً، وبَغْياً وعُدواناً، يَقذِفُ بِصاحِبِهِ إِلى عَذابٍ يَخْلُدُ فِيهِ مُهاناً، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً))(4)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم- : ((أَيُّما رَجُلٌ شَدَّ عَضُدَ امرئٍ مِنَ النَّاسِ فِي خُصُومَةٍ لاَ عِلْمَ لَهُ بِها فَهُوَ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنزَع،َ وأَيُّمَّا رَجُلٌ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسلِمٍ كَلِمَةً وهُوَ مِنْها بَريءٌ لِيُشْقِيَهُ بِها فِي الدُّنْيا كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَرمِيَهِ بِها فِي النَّارِ)) ثُمَّ تَلاَ مِصداقَ ذَلِكَ مِنْ كِتابِ اللهِ تَعالَى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))(5)، إِنَّ طُولَ السُّكوتِ عَمَّا لاَ يَهُمُّ الإنسانَ ولاَ يَعنِيهِ يَبلُغُ بِالإِنْسانِ رِفْعَةَ المَكانَةِ وعُلُوَّ الدَّرَجَةِ وسُمُوَّ المَنزِلَةِ، قَالَ رَجُلٌ لِلقمان: مَا بَلغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: ((صِدْقُ الحَدِيثِ، وطُولُ السُّكوتِ عَمَّا لاَ يَعنِينِي)).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ أَيّامَ الإِنْسانِ ولَيالِيَهُ وأَنفاسَهُ هِيَ رأْسُ مَالِهِ، فَإِنْ صَرفَها فِِيما لاَ يَعنِيهِ أَضَاعَها فِيمَا يُغْضِبُ اللهَ ولاَ يُرضِيهِ، وهَذَهِ جَسارَةٌ، لاَ يَجنِي المَرءُ مِنْ وَرائها سِوَى الخَسارَةِ، أَمَّا مَنْ جَعلَ كُلَّ هَمِّهِ مَا يَعنِيهِ فَقَدْ نَالَ الخَيْرَ الكَثِيرَ والرِّبْحَ الوفِيرَ، ونَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِاحتِرامٍ وتَقْدِيرٍ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ أَكْثَرَ مَا يُرادُ بِتَرْكِ مَا لاَ يَعنِي حِفْظُ اللِّسانِ مِنْ لَغْوِ الكَلاَمِ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ يَلفِظُ بِها اللِّسانُ مَحْصِيَّةٌ ومُسَجَّلَةٌ عَلَى الإِنْسانِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ))(6)، وعِنْدَما وَصَفَ اللهُ المُؤمِنينَ المُفلِحينَ ذَكَرَ مِنْ أَوصافِهِمْ إِعراضَهُمْ عَنِ اللَّغْوِ، ووَضَعَ هَذا الوَصفَ بَيْنَ فَرِيضتَيْنِ مِنْ فَرائِضِ اللهِ المُحكَمَةِ وهُما الصُّلاَةُ والزَّكاةُ، لِلْدَّلالَةِ عَلَى عَدَمِ انفِصالِ هَذا الوَصفِ عَنِ الإِسلاَمِ وبُنْيانِهِ، وعِمادِهِ وأَركَانِهِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ))(7)، إِنَّ حِفْظَ اللِّسانِ مِمَّا لاَ يَعنِي الإِنْسانَ يُجَنِّبُهُ الكَثِيرَ مِنَ الآثامِ، ويَدفَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ، ويَقِيهِ مِنْ مَواطِنِ الخَطَرِ، بِهِ يَسلَمُ مِنَ العَطَبِ والزَّلَلِ، ويَنْجُو مِنَ الزَّيْغِ والخَلَلِ، وبِهذا يَسلُكُ طَرِيقَ النَّجاةِ، وخِلاَفُ ذَلِكَ شُرودٌ وتَخَبُّطٌ فِي كُلِّ اتِّجاهٍ، فَعَنْ عُقبةَ بِنِ عَامرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ مَا النَّجاةُ؟ قَالَ: ((امْسِكْ عَلَيكَ لِسانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيتُكَ، وابكِ عَلَى خَطِيئتِكَ)). إِنَّهُ لَيسَ أَسلَمُ لِدِينِ المَرءِ وإِيمانِهِ مِنْ حُسْنِ كَلاَمِهِ وحِفْظِ لِسانِهِ؛ فَفُضولُ الكَلاَمِ زِيادَةٌ لاَ مَعنَى لَها، ولاَ طَائِلَ مِنْ وَرائِها، لِذَلِكَ كَانَ لاَ خيْرَ فِيها، بلِ الخَيْرُ فِي تَجَنُّبِها وتَوقِّيها، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً))(8)، وقَدَ جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ، وأَنْفَقَ الفَضلَ مِنْ مَالِهِ، وأَمْسَكَ الفَضلَ مِنْ قَولِهِ))، إِنَّ لِسانَ حَالِ الإِنسانِ العَاقِلِ يَقولُ:((أُصمتُ فأَسلَمُ، وأَسْمَعُ فأُعلَمُ))، وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبدِاللهِ بنِ مَسعودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ ارتَقَى الصَّفا فأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقالَ: يَا لِسانُ قُلْ خَيْراً تَغْنَمْ، واسكُتْ عَنِ الشَّرِّ تَسلَمْ مِنْ قَبلِ أَنْ تَنْدَمَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقولُ: ((أَكْثَرُ خَطأِ ابنِ آدمَ فِي لِسانِهِ))، وجَاءَ فِي أَثَرٍ عَنْ عِيسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- قَولُهُ: ((لاَ تُكْثِروا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُم، فَإِنَّ القَلْبَ القَاسِي بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، ولاَ تَنظُروا فِي ذُنوبِ النَّاسِ وانظُروا فِي عُيوبِكُم؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُبتلىً ومُعافَى، فارحَموا أَهلَ البَلاَءِ واحمدوا اللهَ عَلَى العَافِيَةِ)).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ مِنْ طَاعَةِ اللهِ الكَبِيرِ المُتعالِ، تَرْكَ مَا لاَ يَعنِي مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (9).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).








(1) سورة فاطر / 10 .
(2) سورة يونس / 61-64 .
(3) سورة الاحزاب / 70-71 .
(4) سورة الاحزاب / 85 .
(5) سورة النور / 19 .
(6) سورة ق / 16-18 .
(7) سورة المؤمنون / 1-4 .
(8) سورة النساء / 114 .
(9) سورة الأحزاب / 56
.
 
:besmellah1:

خطبة الجمعة بتاريخ 30 ذي الحجة 1427هـ

بسم الله الرحمن الرحيم


تربية الضمير

الحمد لله الذي أصلحَ الضمائرَ، ونقّى السرائرَ، فهدى القلبَ الحائرَ إلى طريقِ أولي البصائرِ، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبينا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، أنقى العالمينَ سريرةً وأزكاهم سيرةً، ( وعلى آله وصحبِه ومَنْ سارَ على هديهِ إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ:
اقتضتْ حكمةُ اللهِ تعالى أَنْ يَخلقَ الإنسانَ من عَدَمٍ في أكملِ صورةٍ وأَتَمِّ خِلْقَةٍ، ولذا خاطبَه بقولِه في محكمِ آياتِه: (( يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك))(1)، وشاءتْ إرادةُ اللهِ أن يخلقَ للإنسانِ ما يتلائمُ مع ظرفِه، وينسجمُ مع حياتِه، ويتماشى مع طبيعتِه؛ فكانتِ المخلوقاتُ مِنْ حولِه أنيسَه ومَطْعَمَه، والأرضُ مِهَادَه، والسماءُ لِحافَه، والليلُ والنهارُ زمانَه، ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (2)، ومع تكاملِ مادَّةِ الحياةِ اسْتَوْدعَ الحقُّ سبحانَه في قلبِ الإنسانِ ما يَسْتَوجِبُ الموائَمَةَ مع مَنْ حولَه ويصلحُ لهذا التكاملِ؛ فكانتِ الغريزةُ والفطرةُ والضميرُ؛ إذ بالغريزةِ يَحفظُ نوعَه بما يكفلُ استمرارَه وبقاءَه ((فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً))(3)، وبفطرتِه يهتدي إلى التوحيدِ ويستجيبُ لبواعثِ الإيمانِ ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))(4)، وبالضميرِ الحيِّ اليقظِ يندفعُ نحوَ الطريقِ القويمِ والعملِ الراشدِ (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) (5) .
عبادَ اللهِ :
إنَّ الضميرَ هو مستودعُ السرِّ الذي يكتمُه القلبُ، والخاطرُ الذي يسكنُ النفسَ؛ فيُضيءُ ظلمتَها ويُنيرُ جوانبَها، وهو القوةُ التي تدفعُ نحوَ فعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحبِّ الصالحاتِ، وهو سببُ تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ، كما قالَ الحقُّ سبحانه: (( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)) (6)، والضميرُ هو الرادعُ عنِ المعاصي والآثامِ الذي يُجَنّبُكَ مقاربتَها ويُثنيكَ عن تكرارِها؛ فقد وصَفَ اللهُ عبادَه المتقينَ فقالَ: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) (7) ، ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ -عليه السلامُ- حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال: (( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) (8) ، فأكرمْ بهِ وبسلسلتِه الشريفةِ. إنَّ الضميرَ يُنجي صاحِبَه منَ المهالكِ، ويُبعدُه عَنْ شرِّ المسالكِ، ومن صفاتِ الضميرِ المؤمنِ أَنّ صاحِبَه دائمُ التذكّرِ فإذا همَّ بأمرِ سوءٍ ارتدعَ وانزجرَ، وابتعدَ عن المعاصي وأدبَرَ، يقولُ اللهُ تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))(9)، ولذلك وُصِفَ الضميرُ الصالحُ بالحيِّ اليقظِ فهو حيٌّ ما دامَ نورُه وهَّاجَاً؛ فكانت نفسُه لوَّامةً، ووُصِفَ الضميرُ الطالحُ بالميِّتِ متى ما انطفأَ نورُه فكانتْ نفسُه أمَّارةً.
عبادَ اللهِ :
يتأثَّرُ الضميرُ الإنسانيُّ بما تتأثرُ به النفسُ؛ فيتضائلُ ويقلُّ قدرُه ويخبو نورُه إذا انجرفت النفسُ وراءَ وساوسِها ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))(10)، واتبعَت همزاتِ الشياطينِ وإغواءَهم (( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ )) (11) ، وانساقتْ وراءَ ضلالتِها ((فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا))(12)، وكانت رَهْنَ هواها ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)) (13) ، فاختلَّ ضميرُها وضعُفَتْ قوّتُه وصارَ الإنسانُ عبداً لشهواتِه يَرَى الباطلَ حقَّا والشرَّ خيرا، لا يردعُهُ رادعٌ ولا يحجُزُه حاجزٌ، ولذلكَ قيلَ: "مَنْ توهَّمَ أنَّ لهُ عدواً أعدى من نفسِهِ قلَّتْ مَعْرِفَتُه بنفسِه"، وقد يسمو الضميرُ -عبادَ اللهِ- ويعلو قدرُه ويزيدُ ضياؤُه إذا خالفتْ نفسُهُ هواها فيما لا ينفعُها، يقولُ الحقُّ سبحانه: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى))(14)، وصارَعَتْ وسوسَةَ شياطينِ الجنِ والأنسِ ((وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ))(15)، وانكبَّتْ على الباقياتِ الصالحاتِ ((قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)) (16) ، حينَها يقوى الضميرُ وتُضَاءُ جنباتُ النفسِ وتَخْصُبُ أرضُهَا؛ فيكونُ مِنْ ثمرِهَا صدقُ صاحِبِها وأمانَتُه، ومروَءتُه وإخلاصُه وعِفَّتُه، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))(17).
فاتقوا اللهَ –عبادَ اللهِ-، وأصلحوا نفوسَكم تحيا ضمائرُكم، وتُختَم بالصالحاتِ أعمالُكم.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إن الضميرَ كالطفلِ فما دُمْتَ تُغَذِّيه بالغذاءِ الصالحِ ينمو ويقوَى، أما إذا أهملْتَه فإنه يَضْمرُ ويَضْعُفُ، وضمورُه دمارٌ لصاحبِه في الدنيا والآخرةِ؛ إذ بغيابِه يزولُ الرقيبُ الذي يوجِّهُك إلى الخيرِ ويدفعُك إلى البرِّ ويُقْصِرُ خطاكَ عن الشرِّ ويَحْمِيكَ من ضَلالِ النفسِ. ونموُّ الضميرِ يكونُ بالدوامِ على الأعمالِ الصالحةِ وتحرِّي صنائعِ المعروفِ والبحثِ عن جوانبِ الخيرِ في نفسِكَ ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))(18)، كما ينمو الضميرُ ويترَبَّى مِنْ خلالِ ترطيبِ اللسانِ بذكرِ اللهِ تعالى والمحافظةِ على العباداتِ؛ حتى تكونَ النفسُ مطمئنةً في كلِّ حينٍ والضميرُ يَقِظاً في كلِّ حالٍ (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي))(19).
فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّكم مُقبلون على عامِكمُ الهجريِّ الجديدِ؛ فاستقبلوه بضمائِرَ نقيّةٍ وقلوبٍ صافيةٍ وعقولٍ واعيةٍ وأَنْفُسٍ زَكِيَّة، ورَبُّوا ضمائرَكم على عَمَلِ الخيرِ والبعدِ عن كلِّ أذىً وشَرٍّ؛ فبذلكَ تأنسُونَ بِقُرْبِ ضَمِيرِكم منكم، وصُحْبَتِهِ مَعَكم.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (20).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ ))




(1) سورة الانفطار / 6-8 .
(2) سورة البقرة / 29 .
(3) سورة الفرقان / 54 .
(4) سورة الروم / 30 .
(5) سورة الشمس / 7-8 .
(6) سورة القيامة / 1-2 .
(7) سورة آل عمران / 135 .
(8) سورة يوسف / 23 .
(9) سورة الاعراف / 201 .
(10) سورة ق / 16 .
(11) سورة المؤمنون / 97-98 .
(12) سورة يونس / 108 .
(13) سورة النجم / 23 .
(14) سورة النازعات / 40-41 .
(15) سورة الاعراف / 202 .
(16) سورة الانعام / 104 .
(17) سورة الشمس / 9-10 .
(18) سورة فصلت / 46 .
(19) سورة الفجر / 27-30 .
(20) سورة الأحزاب / 56 .
 
ملخص الخطبة

1- أهمية المال. 2- تنافس الناس على المال واختلاف مشاربهم فيه. 3- حض الإسلام على عمارة الأرض. 4- حرص الإسلام على تحقيق الاستقلال الاقتصادي. 5- الفوضى الاقتصادية والضعف التنموي. 6- العلاقة بين الاقتصاد والنمو. 7- حقيقة المفهوم الاقتصاديّ الإسلامي. 8- السبيل لنهضة الاقتصاد الإسلامي
.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فإنَّ الوصية المبذولةَ لي ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوَى الله سبحانَه ومُراقَبتُه في السّرِّ والعَلَن، فاتقوا الله عِبادَ الله، وأتبِعوا السيئةَ الحسَنَة تمحُها، وخالِقُوا الناس بخُلُقٍ حَسَنٍ، إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ [يوسف: 90].

أيُّها النَّاس، المالُ في هذِهِ الدّنيا شريَانُ الحياةِ التّنمَويّ المادّيّ، كما أنَّ الشَّرعَ والدين شريانُ الحياة الروحيّ والمعنويّ. وللمالِ في نَفسِ الإنسانِ حَظوَةٌ وشَرَه وتطَلُّبٌ حثيثٌ، إذا لم يُحكَم بميزانِ الشّرع والقناعةِ والرّضَا فإنه سيَصِل بصاحِبِه إلى درجةِ السّعارِ المسمُومِ والجشَع المقيت. ولا جرَم عِباد الله، فإنّ حبَّ ابنِ آدمَ للمَال ليسرِي في جَسَدِه سَرَيان الدّم في العُرُوق، كيفَ لا والله جلّ وعلا يَقولُ عنِ ابن آدم: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] أي: المال، ويقول سبحانه عَن جماعةِ بَني آدَم: وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20].

ومِن هذا المنطلَق تَنافَسَ الناسُ سَعيًا تِلوَ سَعيٍ في تحصِيلِ هَذَا المالِ، وَكَدْحًا تلوَ كَدْحٍ في لَمْلَمَةِ المستَطَاعِ من هذا البرّاق الفاتن، غيرَ أنَّ صِحّةَ مثلِ هذا الكدح أو فسادَه وحصولَ الأجر فيه أو ذهابَه لمرهونٌ بحُسنِ القَصدِ والموْرِد فِيهِ أو بسوئِهما معًا، وفي كلا الأمرَين يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6]؛ لأنَّ المالَ سلاحٌ ذو حدَّين، فهو لأهلِ الإسلام والإيمانِ وحُسنِ القصدِ به نِعمةٌ يحمَدونَ الله تعالى عليها صباحَ مَساء، وهذه هي سِيمَا الأمّةِ الخيرية: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274]. وهو لأهلِ الكُفرِ حَسرةٌ وبَلاء مهما تعدَّدت مَصادِرُه وكثُر توافُره؛ لبُعدِهم عن وضعهِ في موضعه، وما ذاك إلاّ ليَكونَ ندامةً ووبالاً عليهِم كما قَالَ تَعَالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران: 178]، فإنَّ مُعظَمَ أوجُهِ الإيرادات والصَّادِرات لَدَى مَن كفَر بالله وبرسولِه منصبّةٌ فيما حرَّم الله ورسوله مِنْ أخذِهِم الرِّبا وأكلهم أموالَ الناس بالباطِلِ والصدِّ عن سبيل الله، وتلك ـ لعمرُ الله ـ هي الحسرةُ والندامة، ولات ساعةَ مَنْدَم، ولَيسَ بَعدَ الكُفرِ ذَنبٌ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36].

وإنَّ مما يَدُلّ عَلَى أهمّيّة المالِ في حَياةِ الفردِ والجماعة وُرودَه في القرآنِ متصرِّفًا مَدحًا وذمًّا في أَكثرَ من ثمانين موضعًا.

أيّها المسلِمونَ، إنّ الشريعةَ الإسلاميةَ الغرَّاء جاءَت حاضَّة على عِمارةِ الأرض وتَنميِتها اقتصاديًّا بما يَكونُ عَونًا على أداءِ حقّ الله فيها، فَلَقَد قال رسول الله : ((إذا قَامَتِ الساعة وفي يدِ أحدِكم فَسِيلةٌ فاستطاعَ أن لا تقوم حتى يغرِسها فليغرسها، فله بذلك أَجر)) رواه البخاري في الأدب المفرد[1].

ومن هنا فقدْ حَرِصَ الإسلام أشَدَّ الحِرص على توفيرِ ضماناتٍ أو رَكائز لتَحقيقِ هذه التَّنميَة الاقتصادية واستمرارها، ولعل من أبرزِها تحقيق الاستقلال الاقتصاديّ والتنمية المستقلَّة لدى المجتمع المسلم؛ ليكون قائدًا لا منقادًا، ومَتبوعًا مِنْ قِبَلِ غيرِه لا تَابعًا. والاستقلالُ الاقتِصاديّ يعني بداهةً نفيَ التَّبعيةِ الاقتصاديّة للأجنبيّ، ويعني سيطرةَ المجتمع المسلِم على مُقدَّراتِ بِلاده الاقتصاديّة دون تدخُّلٍ أجنَبيّ؛ لأنَّ فُقدانَ السيطرةِ الاقتصاديّة فقدانٌ لما عداه من السيطرَة السياسيةِ والعسكرية والاجتماعيّة والثقافيّةِ؛ ولذا فإنّ التَّنميةَ الاقتصاديَّة لدى المجتمع المسلِمِ لا يمكِن أن تَتِمّ دونَ الاستقلال الاقتصاديّ والتنمية المحلّيّة المعتَقَة من رقِّ الأجنبيّ لها.

إنَّ الأمَّةَ الإسلاميّةَ في هذا العَصرِ لتكتوِي بلهيبٍ منَ الفوضَى الاقتصادية والضَّعف التنمويّ، كما أنها تعيش فَسادًا اقتصاديًّا يدبّ دبيبًا ويتسلَّل لواذًا بين الحِينِ والآخَر عبرَ منافذِه الرَّئيسة في المجتمعاتِ المسلِمَة، وَهِي منافذُ التَّسلّل الفردِيّ والمؤسَّسي والمنتَظم. وإنَّ اتساعَ مِثلِ هذهِ المنافذ لَكَفيلٌ بتفعيل البَلبَلَة والخلخلَة المسبِّبين عَدمَ الاستقرار السِّياسيّ والاجتماعيّ، والنتيجةُ التالِيَة لمثل ذلكم تخلّفٌ ذَريع في السوق الماليّة والنّموّ وضَعفٌ اقتصاديّ فادح بالمسلمين.

وإنَّ كثيرًا من الدِّراسات الحديثةِ لتؤكِّد وُجودَ علاقةٍ عكسيّة بين الفساد الاقتصاديّ والنّموّ. ومن هنا فإنّ الأمّةَ الإسلاميّة لو أخذَت بِالمعنى الحقيقيّ للاقتصادِ الإسلاميّ لما حادَتْ عن الجادَّة، ولما عاشَت فَوضَى التخبُّط واللَّهَث وراءَ المغريَات المالية من خلالِ التهافُت على ما يُسمَّى بالبورصَة والمرابحات الدوليّة التي لم تُحْكَمْ بالأُطُر الشرعيّة، وفوضَى التّخبّط أيضًا في سوءِ الموازَنَة وعَدَم إحكامِ القروض المالية في الحاجيات والتحسينيّات؛ ما يُسبِّب تراكمَ الدّيون على مجتمَعاتٍ لا تُطيق حملَها؛ ولذا فإنّ التنميّة الاقتصادية الإسلاميةَ لا تعترِف بِتَنمية الإنتاجِ الاقتصاديّ بمعزِل عن حُسن توزيعِه، كما أنّ جهودَ وأهدافَ الاقتصاد الإسلاميّ يجب أن تكونَ مُصاغَة بعنايةٍ فائقة للقَضَاءِ قدرَ الطاقة على فَاقَةِ الفرد المسلِم وبطَالَته وأمِّيّته ومعاناتِه السّكنيّة والصّحّيةوالغذائيّة.

ولو تأمَّل الناس حقيقةَ المفهوم الاقتصاديّ الإسلامي لما وقعوا في مثلِ هذه الفوضَى ومثل ذلكم التخبّط؛ لأنَّ كلمةَ الاقتصاد في الأصلِ مأخوذةٌ من القَصد، وهو الاستقامةُ والعَدل والتَّوازُن في القولِ والعمل، وفي الإيراداتِ والصّادرات، وفي الكَسب والإنفاق. فالاقتصادُ الإسلاميّ هو في الحقِيقةِ توازنٌ في التنمية واعتدالٌ في السوقِ الماليّة، يحمل المجتمعَ المسلم إلى الاعتدالِ والموازنَةِ دون إفراطٍ أو تفريط؛ ولِذا ـ عِبادَ الله ـ كان وَاجبًا على المجتَمَعات المسلمة أن تَسعى جاهدةً إلى أَسلَمَة الاقتصادِ والتنمية من خِلالِ توحيد المصدر، وهو كتاب الله وسنّةُ رَسولِه ؛ لأنَّ العقيدةَ الصَّحيحةَ وصِحّة المصدَر كفيلان في إحسانِ تَشغِيلِ الملكيّة على مستوَى الأفراد والشعوب.

وقَد يَتَعَجَّب بعض السُّذَّج من مثلِ هذا الطَّرح نظرًا لفَهمِه القاصِر على أنّ الاقتصادَ يخضَع لضَوابِط ومعايير تُتَرجَم في صِيَغٍ رِياضيّةٍ فحسب، كلا بل إنّ النظام الاقتصاديَّ المهيمن في عالمنا المعاصِر كانَ في الأصل قد وُجِد في بيئةٍ ملائمةٍ له لدى غَير المسلِمِين، وذلك بعدَ أن تغيَّرت لديهم مجموعةُ المبادئ والقِيَم التي كانَت تحكم تفكيرَهم وسلوكَهم، وذلك بأخذِهم بالفلسَفَة الفَرديّة كحَلَقةٍ فلسفيّة تحكم الغير وتحدُّه بمعيار المصلحة الخاصّة دونَ النظرِ إلى ما سِوى تِلكمُ المصلحَة من ناتجٍ عامّ. ومن هنا صارَتِ النظرة الأجنبيّة للاقتصاد مذبذبةً بين تحليلٍ اشتراكيّ وتحليلٍ رأسمالي. وهذا دَليلٌ واضح على تأثيرِ الاعتِقَاد أيًّا كان نوعُه على التنمِية الاقتصادية.

ولذا فإنَّ التقدُّم الحقيقيّ في دِراسة الاقتصادِ الإسلاميّ إنما يجيء في الدّرجَة الأولى من خلالِ رَبطِه بالقيَمِ والمبادئ الإسلاميّة، والاحتفاظِ له بالصِّبغة التي أرادَها الله، وعدمِ مَسخِه وتشويهِهِ بوضعِه في قوالِب الاقتصادِ الوضعيّ.

ومما يَدلُّ على ما ذكرناه بأنَّ الإسلام ينظر إلى النَّشاطِ الاقتصاديّ المتعلّق باستِخدَام الملكيّة والتصرّف فيها على أنه محدودٌ بما شَرَعَ الله وما نهى عَنهُ هو قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة: 278، 279]، بل قَد جَاءَ في الشّرعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنّ فسادَ حالِ المسلِمين وذلَّهم وضعفَهم وتمكّنَ عَدُوِّهم منهم قد يَكون بِسَبَبِ ما يَرتَكِبونه من مخالفاتٍ في مجالات السوقِ الماليّة، فقد قَالَ : ((إذا ضَنَّ النّاسُ بالدينار والدِّرهم وتبايَعوا بالعينة وتبِعوا أذنابَ البقَر وتركوا الجهادَ في سبيل الله أنزَلَ الله بهم ذلاًّ، فلم يرفعه عنهم حتى يُراجِعوا دينَهم)) رواه الإمام أحمد ورجاله ثقات[2].

وبعد يا رعاكم الله، فإنّ الاقتصادَ الإسلاميَّ ليحتاجُ في النّهوضِ به إلى المستوَى المطلوبِ إلى جهودِ المخلِصِين من العلماءِ وأهلِ الاقتصاد، ومُساهمتهم الجادّة في إيجادِ المِفتاح المدخَلِيّ للاقتصادِ الإسلاميّ الصحيح، مع مراعاةِ فِقهِ هذه المعضِلة في تَركِيبها الواقعيّ وتشكيلها الاجتماعيّ، وكذا مُراعاة الخضوعِ للخطوَاتِ المشهورة في كلِّ دراسة جادّةٍ، وهي أن تُبنَى على الملاحَظَة أوّلا، ثمّ الافتِراضِ ثانيًا، ثمّ التَّجريب والوصول ثالثًا، أو بمعنى آخر: تخضَع لاستخدامِ المنهجِ الاستقرائيّ والاستنباطيّ بهدَفِ الوصول إلى كشفِ العلَّةِ الكامِنَة والسّببِ القابِع وراءَ ضُمُور الاقتصادِ الإسلاميّ في مقابِل ضدِّه. وهَذَا الأمرُ يتطلَّب مِنّا أن نَبحَثَ في المنهجِ النبويّ كَسَبيلٍ أسَاسٍ لكشفِ سنَنِ الهداية والإرشادِ وتجنُّب قتل النّفس بالممارسة السلبيّة للاقتِصاد، انطِلاقًا من قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، وقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29].

بارَكَ الله لي ولَكم في القُرآنِ العَظِيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحَكيم، قد قُلْتُ ما قُلْتُ، إن صَوابًا فمِن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.

[1] الأدب المفرد (479) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه أحمد (3/191)، وعبد بن حميد (1216)، وصححه الضياء في المختارة (7/262-264)، وهو في السلسلة الصحيحة (9).

[2] مسند أحمد (2/42، 84) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أبي داود في كتاب البيوع (3462)، والروياني (1422)، وأبي يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (10/432)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقواه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (9/245)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).


الخطبة الثانية

الحمد لله وَحدَه، والصَّلاةُ والسَّلام على من لا نَبيّ بَعدَه.

وبعد: فاتَّقوا الله مَعَاشرَ المسلِمين، واعلَموا أنَّ المشكِلاتِ الاقتصاديّةَ التي يواجِهها العالم الإسلاميّ اليومَ ما هي إلا بسبَب غِيابِ المنهجِ الاقتصاديّ الإسلاميّ الصّحيح، والذي يتناول تنظيمَ جَوانبِ النّشاط الاقتصاديّ في الحياة العامّة بالعدل والتعاون والتكافل والإحسان، التي من خِلالها تَتَحقَّق المصالح للأمّة وتُدْرَأُ المفاسِدُ عنها. وإنَّ التطبيقاتِ المعَاصرةَ في المؤسَّساتِ الماليّة الإسلاميّة في مجالِ المصَارِف والتأمين لفي حَاجةٍ ماسّة أيضًا إلى إِدراكِ المجتمعاتِ والحكومات والسّلُطات الرَّقابية لقيمَتها والأثر الإيجابيّ في دعمِها وتوجيههما.

وإذا ما أردنا إذكاءَ مثل ذلكم النّشاط الاقتصاديّ الصحيح فعلينا جميعًا أن لا نهمِلَ عُنصُرَين مهمَّين في هذا الميدان، ألا وهما: عنصرُ الزكاة وعنصر الوقف؛ إذ بهما يتَحقَّق الدَّعم اللاَّمحدود لِتحقِيقِ الأمن الاقتصاديّ والاجتماعي للأمّة.

يضاف إلى ذلكم ـ عِباد الله ـ الوعيُ التامّ في التعامل مع العَولمة الاقتصاديّة، والتي أصبَحَت واقعًا يَفرِض نفسَه على العالم أَجمع؛ ما يؤكِّد التَّعاونَ الاقتصاديّ البنّاء بين الدّول الإسلاميّة لزيادةِ التّبادُل التجاريّ بينها وإِنشاء سوقٍ إسلاميّة مشترَكَة تُنافِس الأسواقَ الماليّة العالميّة؛ لأنَّ مُستقبلَ المسلِمين يجب أن يُصْنَع في بِلادهم وعلى أرضِهم بكَدحِهم وأخلاقِهم حتى لا يقَعوا فريسةً لأخلاقِ التّسوُّل الفكريّ الاقتصاديّ بكلّ صنوفه في طاقاتهم ومقَدَّراتهم؛ لأنَّ أيَّ أمّة تَبنِي مستقبلَها على مِثل ذلكم التّسوُّل فهي أمّة ضائِعة في تِيهِ التسوّل على الاقتصاد الأجنبيّ، فأنَّى لها حينئذ الاستقرارُ والظهور؟! هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15].

هذا وَصَلُّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى خيرِ البريّة وأزكَى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بِنَفسه، وثنَّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون، فقالَ جَلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللّهمّ صلّ وسلّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمّد صاحب الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وَارْضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابةِ نبيّك محمّد ...
 
ملخص الخطبة

1- الآيات المرسلة من الله تخويف للعباد. 2-الذنوب سبب العقوبات والطاعات سبب الرحمات. 3- أول ذنب عصي الله به. 4- إهلاك الله للأمم التي عصت الأنبياء. 5- حالنا اليوم. 6- الكفار يقولون عن الكوارث الطبيعية. 7- خوف المصطفى من عذاب الله تعالى.

الخطبة الأولى

وبعد:

معاشر المسلمين: يقول تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً قال ابن كثير، قال قتادة: (إن الله تعالى يخوف الناس بما يشاء من الآيات لعلهم يعتبرون، لعلهم يذكرون، لعلهم يرجعون) أهـ.

وقال تعالى بعد قصة قوم لوط: وما هي من الظالمين ببعيد، قال ابن كثير، وما هذه النقمة ممّن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه، ولهذا قال أبو حنيفة وغيره: إن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة، وأفتى على بن أبي طالب بتحريق اللوطية، وقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ومعنى الآية: قل للمشركين عبّاد القبور يسيروا في الأرض وينظروا في آثار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، فيعتبروا فإن للكفار مثلهم من العذاب العظيم.

وقال تعالى: فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور قال مجاهد: ولا يعاقب الله إلا الكفور.

وقال تعالى: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) [حديث حسن رواه الحاكم].

وقبل الغوص في هذا الموضوع لابد أن نقرّر قاعدة قرآنية قطعية وهي: أن الذنوب بأنواعها سبب رئيسي للعقوبات الربانية، كما أن الطاعات والحسنات سبب الرحمات وسنة الإلهية لا يعذب عباده الصالحين المتقين الملتزمين بدينه لأنهم أحبابه.

وإنما يعذّب أعداءه من الكفار والفجار، ولهذا رد الله على اليهود والنصارى لما زعموا بأنهم أحباب الله فكذبهم حيث قال تعالى: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبابه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق.

اعلموا أيها المسلمون أن أول ذنب في هذا الكون هو عصيان إبليس لله تعالى حيث أمره أن يسجد لآدم فأتى، فطرده الله ولعنه ومسخه وغضب عليه بعد ما كان أقرب المقربين لله تعالى، وبعده ذنب أبوينا آدم وحواء، لقد أكلا من الشجرة وعصيا ربهم وأطاعا عدوهما وما زالت الذنوب تتوالى بعد هاذين الذنبين.

فهذا نوح أول رسول إلى الأرض، كان الناس على التوحيد فصاروا يعبدون الصور ويعبدون الأصنام والطواغيت، فبعث الله نوحاً يدعو للتوحيد قال تعالى: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ولكن عصت قوم نوح رسولها، فماذا كانت النتيجة الحتمية إنه عذاب الله الطوفان حيث قال تعالى: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة.

وهذا هود بعثه الله إلى عاد الأولى وعاد الثانية فنهاهم عن عبادة غير الله تعالى فعصوه حيث قال تعالى: وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ولكن عصوا ربهم فجاءه العذاب قال تعالى: فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وقال عن عاد الثانية: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين.

وهذا صالح يدعو قومه إلى التوحيد ونبذ الشرك، فعصوه بل تحدوه فقالوا له: أخرج لنا ناقة صفتها كذا وكذا من هذه الصخور الصماء، فدعا الله فأخرج لهم الناقة، ولكن عصوه وقتلوا الناقة، فحق عليهم العذاب قال تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ولكن عصوه وتمردوا حيث قال تعالى: فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بعذاب الله إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وفي آية أخرى: أخذتهم الصيحة.

وهذا شعيب كان قومه يعبدون الأصنام ويطففون في المكيال ويقطعون القبيل، فدعاهم شعيب إلى التوحيد فعصوه قال تعالى: وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط لكن عصوه واستهزؤوا به فأخذهم عذاب يوم الظلة وأخذتهم الرجفة وهي الزلزلة، قال تعالى: فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم وقال: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.

وهذا لوط يدعو قومه إلى التوحيد وكانوا قوماً يعبدون الأصنام ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر، وكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، وأرادوا أن يعتدوا على ضيوف لوط وكانوا من الملائكة، حيث قال تعالى: ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر عصوا لوطاً فأنزل الله عليهم أشد العذاب لم يسبق أن عذب به قوماً مثلهم قال تعالى: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد فأهلك الله قرى اللوطية وقلبها عليهم ثم أمطرها بحجارة شديدة المفعول، أنزلها عليهم من السماء، وقد جاء في التفسير أنها أهلكت ديارهم وأرضهم إهلاكاً وصارت أثراً لا حياة فيها تغمرها المياه وهو ما يسمى الآن بالبحر الميت لانعدام الحياة الحيوانية فيه، وهذا من شؤم الفواحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصدق الله إذ قال: فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

معاشر المسلمين: إذا علمتم أن الذنوب تجلب عقاب الله. وعلمتم أن أكبر الذنوب هو الإعراض عن دين الله، والشرك به، وكذا إتيان الفواحش، والظلم، وأكل الربا والقتل، فإن ما تعيشه اليوم في هذا العالم المتقدم - زعموا - مليء بالذنوب والمخالفات الشرعية، فلابد علينا أن نعتبر كما أمرنا الله فقال: فاعتبروا يا أولي الأبصار والاعتبار هو القياس فنقيس حالنا بحال الأمم السابقة وننظر هل نحن في خير أم في شر؟ فأكبر الذنوب في العالم.

1- الإعراض عن دين الله ودين المرسلين، قال تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون.

2- انتشار الربا في جميع العالم وهو من أكبر الظلم، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وقال : ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية)) [صحيح رواه الدارقطني].

3- الفواحش التي ملأت الدنيا فقد ذكرت الاحصائيات أن مليون زوج ذكر يوجد في العالم، كما ذكرت أن من بين كل أربعة مواليد في أوربا يوجد واحد غير شرعي.

وفي دولة السويد وحدها من بين كل أربعة مواليد يوجد اثنين غير شرعيين، وهذا سببه قلة الزواج وانتشار ظاهرة المساكنة والصداقة المحرمة.

كما انتشرت في أوربا ظاهرة الرقيق الأبيض وهو بيع أعراض النساء.

ومن المصائب المنتشرة في العالم تجارة المخدرات التي أصبحت من أكبر التجارات العالمية، وكذا انتشار ما يسمى بالجريمة المنظّمة وغيرها من الذنوب العالمية، فإذن هذه الذنوب الكبار هي بلا شك أوجبت لنا هذا العذاب الأليم المتصل في كثرة الزلازل والفيضانات، وكثرة الأعاصير والرياح التي تبلغ قوتها مائتين كيلومتر في الساعة (200كم/ساعة) وعلماء الغرب الطبيعيون يقولون إن هذه الظاهر الكونية لا تعدوا أن تكون حوادث طبيعية ولا علاقة لها بالغيب، فمرة يقولون: سبب هذه الظواهر هو اتساع ثقب الأوزون، ومرة يقولون: ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومرة يقولون:تحرك طبقات الأرض وغيرها من الأسباب العلمية، فهذا الكلام فيه حق وباطل، فنقول إن الشرع والدين لا يخالف العلم الصحيح، فمثلاً ظاهرة الزلزال تدرس من حيث تحرك طبقات الأرض فنقول سبب الزلزال هو تحرك طبقات الأرض ولكن من خلق هذا السبب، فالجواب هو الله تعالى خالق الأسباب، والذي خلق السبب هو الذي أمر الأرض أن تتزلزل بقدرته وليست الطبيعة، وهذا الاعتقاد هو الذي كان عليه المسلمون وكان عليه النبي فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: كان رسول الله إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني اسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت له، وأعوذ من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت له)). وقالت عائشة: وإذا تخبلت السماء تغيّر لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال رسول الله : ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا)).

وفي صحيح البخاري قالت عائشة: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه قالت: يا رسول الله الناس إذا رأواه الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر. وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية فقال: ((يا عائشة ما يأمنني أن يكون فيه عذاب، عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا))، وجاء في الحديث المتفق عليه قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره))، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)).

نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة
 
أعلى