• كل المواضيع تعبّر عن رأي صاحبها فقط و ادارة المنتدى غير مسؤولة عن محتوياتها

اميل حبيبي.. رجل في البال

Abuyassine

نجم المنتدى
إنضم
1 جانفي 2008
المشاركات
7.354
مستوى التفاعل
18.856
اميل حبيبي



إميل حبيبي هو أديب وصحافي وسياسي فلسطيني من العرب في اسراءيل. ولد في حيفا حيث ترعرع وعاش حتى عام 1956 حين انتقل للسكن في الناصرة حيث مكث حتى وفاته. في 1943 تفرغ للعمل السياسي في إطار الحزب الشيوعي الفلسطيني وكان من مؤسسي **** التحرر الوطني في فلسطين عام 1945. بعد قيام دولة اسراءيل نشط في إعادة الوحدة للشيوعيين في إطار الحزب الشيوعي الاسراءيلي الذي كان أحد ممثليه في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) بين 1952 و1972 عندما استقال من منصبه البرلماني للتفرغ للعمل الأدبي والصحافي. في 29 آب (أغسطس) 1921
في حقل الصحافة عمل حبيبي مذيعا في اذاعة القدس (1942-1943)، محررًا في اسبوعية مهماز (1946) كما ترأس تحرير يومية "الاتحاد"، يومية الحزب الشيوعي الإسرائيلي باللغة العربية، بين 1972 - 1989. في حقل الأدب، نشر حبيبي عمله الأول "سداسية الايام الستة" عام 1968 وبعده تتابعت الأعمال "الوقاءع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشاءل"(1974)، "لكع بن لكع" (1980)، "إخطيه" (1985) وأخيرًا، "خرافية سرايا بنت الغول" (1991). وقد جعلت تلك الاعمال القليلة صاحبها أحد أهم المبدعين العرب وذلك لأسلوبه الجديد والمتميز في الكتابة الأدبية. عام 1989، إثر انهيار المنظومة الاشتراكية، أعاد النظر في بعض المسلمات النظرية مما سبب له خلافات فكرية وتنظيمية مع الحزب الشيوعي، اضطر على ضوئها إلى الاستقالة من جميع مناصبه الحزبية بما فيها رئاسة تحرير "الاتحاد". لكنه بقي عضوا في الحزب (الذي كان عضوا فيه منذ جيل 14 عاما) حتى عام 1991 خين استقال من الحزب. في عام 1990 اهدته منضمة التحرير الفلسطينية "وسام القدس" وهو أرفع وسام فلسطيني. وفي عام 1992 منحته إسرائيل "جاءزة اسراءيل في الادب" وهي أرفع جائزة أدبية تمنحها الدولة. في العام الأخير من حياته انشغل بإصدار مجلة أدبية أسماها "مشارف". رحل اميل حبيبي في أيار (مايو) 1996 وأوصى ان تكتب على قبره هذه الكلمات: "باق في حيفا".


لقد التزم إميل حبيبي نهج حزبه الشيوعي وآمن بمبادئه، وطرحها بكل الجرأة في كل مَحضر ومناسبة، وأعلنها صريحة: أنّ الحلّ السياسي الوحيد لقضية الصراع العربي الإسرائيلي هو قيام دولتين مستقلتين واحدة لليهود وأخرى للعرب الفلسطينيين. يومها، وعلى مَدار سنوات، اعتُبر هذا الكلام خيانة بالنسبة لليهود وللعرب. ونشهد اليوم أن هذا هو المَطلب العربي والفلسطيني والإسرائيلي والعالمي. صحيح أنّ الرّياح جرَت بما لا تشتهي السفن، ولكنّ قراءة الواقع واستقراء المستقبل هي من خاصيّة البعض.
وكان إميل حبيبي ورفاقه مَن عملوا على حفظ الثقافة العربية في البلاد ومَن صانوا اللغة العربية السليمة أمام الخطة السلطوية التي هدفت إلى جعل اللغة العبرية السائدة والوحيدة التي يُعمَل بها ويُدَرّس بها في المدارس. وكانت صحف الحزب الشيوعي هي الأمل وهي النافذة ومن ثمّ البوابة التي على صفحاتها تبلورت الحركة الثقافية العربية في البلاد وتطوّرت الحركة الأدبية وترسّخ الفكر السياسي والإجتماعي والإقتصادي.
كان إميل حبيبي في ذلك الإجتماع الذي ضمّ النخبة من مثقفي الحزب في سنوات الخمسين الأولى الذي أعلن عن الحاجة لإصدار مجلة ثقافية تقود الحركة الثقافية والأدبية لعرب هذه البلاد وتُعرّفهم على ما يجري في العالم من تطوّر في الفكر الإنساني والثقافي والأدبي. وصدرت مجلة الجديد، بداية كملحق شهري ثقافي لجريدة الإتحاد ثم مجلّة شهرية مستقلة استمرت بالصدور حتى عام 1991، وكانت مُبلورَة ومُرسخة ومُوجهة الحركة الثقافية والأدبية في البلاد، ومع جريدة الاتحاد ومجلة الغد، استطاعت أن ترفد الحركة الأدبية العربية بأنقى ما عرَف الشعرُ العربي على مدى تاريخه، وهو شعر المقاومة الفلسطيني الذي بهر كبار مثقفي العالم العربي، وأن تُنَصّبَ في مقدمة شعراء وكتّاب العالم العربي رموزَ الحركة الأدبية المحلية إميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم.
وكان إميل حبيبي من الأوائل الذين دعوا بعد يوم الأرض عام 1976 إلى إقامة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ونجحت في شدّ الجماهير العربية وإسماع صوتهم في مختلف القضايا. وكان إميل حبيبي هو الذي عمل ونفّذ مشروع حياته الذي طالما حلم به وهو إصدار جريدة الإتحاد جريدة يوميّة، وكان له ما أراد.












 
سداسية الأيام الستة


اميل حبيبي


دار الجليل للطباعة والنشر

منظمة التحرير الفلسطينية

دائرة الإعلام والثقافة

الطبعة الثالثة 1984



سداسية الأيام الستة

1-حين سَعِد مسعود بابن عمه
2-وأخيراً نوّر اللوز
3-أم الروبابيكا
4-العودة
5-الخرزة الزرقاء وعودة جبينة
6-الحب في قلبي
 
1-حين سَعِد مسعود بابن عمه

لماذا نحن يا أبتي
لماذا نحن أغراب؟
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب

"أغنية فيروزية"


ما تجعّس مسعود كما تجعّس في صباح ذلك اليوم التموزي القائظ حين نزل إلى الشارع يعلن بالدليل الحسي القاطع أن له، هو ايضاً، أعماما وأبناء أعمام.
ومسعود، الذي يعرف بيننا بكنية "فجلة" هو من أولاد حارتنا. نط عن العاشرة شبراً أو شبرين. ولكنه ليس طفلا. فلا يحسن بك أن تنتهره على اعتبار أنه طفل. حينئذ تسمع منه ما لا يسرك. فمسعود يفهم في السياسة. بل لمسعود نشاطه السياسي الخاص، من مثل تنفيس العجلة اليمنى في سيارة الشرطة، حين تقف قريباً من سور الأقباط – ضماناً لقفزة الرجعة إلى ما وراء السور. وهناك دلائل كثيرة تشير إلى أنه أول من نظم شعار "عرب ذهب" . ومسعود لا يعجبه مسعد.
وهاكم ، يا شطار، قصة ذلك الصباح التموزي القائظ، الذي تجعّس فيه مسعود الفجلة كما لم يتجعّس في حياته من قبل. لقد بلغتني من فم العصفورة التي كثيراً ما تدهش الأطفال بما تنقله من أسرارهم إلى كبارهم، فإنهم لا يدركون أن هؤلاء الكبار إنما هم صغار كبروا!
في عشية اليوم، الذي سبق صباح الجعسة، دخلت الحي سيارة خصوصية فخمة، بجناحين مثل الطيارة، غريبة، ذات رقم أزرق وزامور نغام بعثر الأولاد عن طريقها. وكان مسعود واحدا من الذين تبعثروا.
ثم توقفت هذه الطيارة أمام بيت مسعود من دون بيوت الحي جميعا. لا أنا ولا غيري نستطيع الادعاء بأن بيوت حينا الأخرى متعودة على وقوف السيارات خصوصية فخمة أمامها. غير تراكات الشيد والجيبات، التي لا تدور إلا في الدحلة، ما عرف حينا الكئيب. ولكن الأمر لا يخلو من شواذ. نحن في هذا الحي جميعنا من حمولة واحدة، أو قل: أطراف مشلخة من حمولة واحدة. فلا يخلو الأمر من زيارة يقوم بها أحد وجهاء الحمولة، بسيارته، لنا حين يحل العيد الكبير قبيل الانتخابات البلدية، أو حين يعتازنا لتأديب منافسه على مضخة البنزين. أو زيارة الخواجة يوم السبت بسيارته، في طريقه إلى طبريا لضمان وصول الشيد في الساعة السادسة من صباح الأحد.
قلت: جميعنا من حمولة واحدة باستثناء الولد مسعود وعائلته. ان عائلة أبي مسعد، الذي يشتغل طوارئ في البلدية، هي عائلة "طالعة من الحيط" لا خال ولا عم، أو كما نقول – نحن أولاد الحمائل – لا هم ولا غم.
ولذلك حين وقفت هذه السيارة الغريبة الفخمة أمام بيت مسعود تلعثم الأولاد. لقد كان الأمر الطبيعي أن يتراكضوا. ليتحسسوها وليخططوا بأصابعهم على زجاجها المغبر مسبة أو مسبتين.
ولكن مسعودا، حين رآها تقف أمام بيته، وقف مشدوها فوقف معه الأولاد جميعا مشدوهين: كيف تقف هذه السيارة الفخمة الغريبة أمام بيت فجلة المقطوع الأصل والفصل؟
ما كان يهم مسعودا أن أقرانه ينادونه بكنية فجلة ولا كيف لصقت هذه الكنية به. فهكذا تناديه أمه أيضا. وهو ينادي أقرانه بكنياتهم. فهذا العسكري، وذاك الصرصور، وحتى معلم الحساب في المدرسة لا يعرفونه إلا باسم الحيحي وهو يحب الفجل، ويحب عادة المناداة بالكنية لأنها تحقق المساواة بين الناس، بدون الحمائل وقرفها. إلا أنه يجب أن يكون له، كغيره، أعمام وأخوال.
وبعد أن جر مسعود رجليه إلى البيت جرا، ودخله متهيبا، التقى لأول مرة في حياته بعمه وبأولاد عمه الذين جاءوا من "سيلة الضهر" في الضفة الغربية يزورون عمهم أبا مسعود.
وتبين مسعود أنه ليس مقطوع الأصل والفصل، وليس غريبا في هذه الدنيا. وأهم من هذا الاكتشاف، أن يثبته لأقرانه. وبدأت في حياة مسعود سلسلة أحداث للمرة الأولى.
لأول مرة وجد أن والدته تفهمه ولا تعانده. قامت مع الفجر وفتحت صندوق الثياب وألبسته بدلة العيد ببنطلونها الطويل. ولأول مرة لم يعاند والدته، فغسل وجهه دون جر ودون لكمات. وتظاهر بالأدب في حضرة ابن عمه، سامح، الذي في مثل سنه، والذي يلفظ القاف قافا ويفخمها. ولأول مرة أفطر دون أن يشرشر على قميصه. ولأول مرة وجد أخاه الكبير، مسعدا، يدس في جيبه، وفي جيب سامح، قروشا.
وأخيرا أخذ مسعود بيد ابن عمه ونزل إلى الحياة! وتوالت سلسلة المرة الأولى في حياة مسعود. لأول مرة سمع الأولاد يقولون له، دون سبب معقول: مرحبا! وظلوا يمرحبونه من عتبة البيت حتى دكان أبي ابراهيم الذي دخل ليشتري "آرتيك" لابن عمه، وله طبعا، دون أن يسمع تشقيعة واحدة. وكاد، وهو في عنفوان الترحيب أن يلكز بنت رتيبة لولا أن ابن عمه، الأردني، سبقه إلى ذلك. والمدهش في الأمر أن أخاها، الحشري، تظاهر وكأنما لا عليه ولا على باله.. وهذه الحركة التي سبقه إليها ابن عمه، الغريب، أشعرته بصلة القربى به أكثر مما شعر بها حين ناما على فراش واحد.
ولأول مرة رحب به أبو ابراهيم، صاحب الدكان:
-صباح الخير يا مسعود، لا يا فجلة.
ثم قذفه السؤال الحاسم – من الشاب؟
-ابن عمي. وشد على العين حتى كادت تخرج قافا.. وتحوطه الأولاد..
-عمك، أخو أبيك من أمه وأبيه؟
-عمي لزم..
-من أين؟
-من الضفة..
أصبح لفجلة ابن عم، من عم لزم، ومن الضفة، وبسيارة ذات جناحين. وعاد فجلة مسعودا. وأحس أنه يريد أن يوزع الآرتيك على الجميع، ولو لحسة لحسة.
ولكن صولة مسعود لم تدم طويلا. فابن رتيبة الحشري لم يشأ لهذا النهار أن يمر على خير. ويظهر أن الحسد أعماه مع أن له أعماما وأخوالا لا يعدون ولا يحصون. أو أنه أراد أن ينتقم للكزة أخته. ففاجأ الحشد، دون مقدمات شاتماً:
-يلعن أن الملك حسين.
-يلعن أبوك.
-يلعن أبو الأردن.
-يلعن أبو اسرائيل.
كانت هذه المشادة المذهلة تدور بين ابن رتيبة وابن عم مسعود، وكانت تنذر بتجدد حرب الأيام الستة، لولا التهدئة التي أجراها أبو ابراهيم، صاحب الدكان، ولولا اللخمة الطامة التي وقع فيها الأولاد الذين ضاعوا بين حانا ومانا دون أن يقر قرارهم على أي فريق يجب أن يشدوا الباع. أما مسعود فما تردد في الأمر لحظة واحدة. فعلى الرغم مما كان يسمعه في البيت من أخته الفيلسوفة، التي وصلت إلى الصف العاشر، ومما كانت أذناه تلتقطانه من مسبات في الراديو فقد قرر أن يقف مع ملك ابن عمه، لأنه ابن عمه، ولأن ملكه مغلوب، ولأنهم يجب أن ينسحبوا، فتأهب للمعركة، حتى سالت "الآرتيك" على قميصه دون أن يلحسها.
وسحب ابن عمه من يده وخرجا من الدكان دون أن يبتعدا كثيراً عن البيت. كان مسعودا دائماً يحسب حساب الرجعة.
وسار ابن رتيبة معهما وأولاد آخرون. وعاد الجو فصفا. وتدافع الأولاد يعرفون سامح على الحارة.
هذا هو المسجد الجديد. وأهل الحارة بنوه لا الحكومة. وقال الحشري: قبل أسبوع أحضروا ضباطاً مصريين ليصلوا في الجامع فطردناهم بزفة. لماذا خانوا بلادهم؟
وحين قعدوا على عتبة المسجد أحس مسعود أنه لا يزال، بابن عمه، سيد الموقف. فدخل في السياسة:
-لازم ينسحبوا..
وهمهم الأولاد:
-لازم..
-والروس معنا..
وهمهم الأولاد:
-معنا.. معنا..
ولاحظ بعض الأولاد أن الولد الملقب العسكري قد وصل لتوه. فصاحوا به: هذا هو ابن عم مسعود جاء من الضفة في السيارة اللمع.
وأعاد العسكري السؤال:
-ابن عمك لزم؟..
وكان سامح هذه المرة هو الذي أجاب: لزم ونص!
ولم يتعود العسكري أن يكون غيره محط الاهتمام حتى ولا مسعود بعد أن أصبح له ابن عم من الضفة فصاح:
-الراديو أذاع أن الحرب وقعت من جديد على قناة السويس.
وطلب سامح الرجوع إلى البيت حالا. والأولاد قالوا: قربت.
وعاد مسعود بابن عمه إلى البيت.
وفي المساء رحلت السيارة الغريبة الفخمة، ذات الرقم الأزرق والزامور النغام، عن حينا. وعاد مسعود فجلة. وعاد يلعب في الحارة حافي القدمين. إلا أنه أصبح بين وقت وآخر يلفظ القاف قافا، ويفخمها ولكنها تأبى أن تخرج من بين شفتيه الا كافا متعثرة.
ولا أريدكم، يا شطار، أن تفهموا من هذا أن مسعودا عاد إلى حالته السابقة في حينا. بل صار مثله مثل بقية الأولاد، ذا أعمام وأخوال وأقرباء، ولم يعد مقطوع الأصل والفصل. وكان يذهب مع والده ووالدته إلى الضفة. وكان يزوره أعمامه وأخواله من الضفة.
وكان، كبقية أولاد الحارة، يثق بأنهم سينسحبون ومع طلوع كل فجر كان يعتقد أنها قربت يوما واحدا. وكان يفغر فمه وهو يصغي إلى أقصى حد حين تتحدث أخته "الفيلسوفة" عن حتمية الانسحاب.
وأصبح يحب ابن عمه سامحا حبا جما. وكان يستمع بإعجاب إليه وهو يتحدث عن أخيه الذي يعمل صيدليا في الكويت، والذي زار القاهرة، وحضر غناء عبد الحليم بشخصه.
وكان أخته الفيلسوفة تجرب فيه جميع مفاهيمها السياسية حين تساعده على تحضير فروضه المدرسية أو حين تضعه في الفراش لينام. وكان يسألها عن كل ما يعن على باله فتجيبه. وكان مثلها متحمسا للانسحاب وواثقا بأنه واقع لا محالة. ولكن سؤالا واحدا لم يجرؤ على توجيهه إلى أخته الفيلسوفة ، خوفا من لطمة كف، فخناقة مع أخته التي لا يحب أن يخانقها، أو خوفا من شيء آخر في ذاته:
-هل، حين ينسحبون، سأعود كما كنت.. بدون ابن عم؟
ثم كان ينام وهو يحلم بسامح، وبأخيه الذي في الكويت، الذي زار القاهرة وحضر غناء عبد الحليم بشخصه.
 
2-وأخيراً نوّر اللوز

بلادي، أعدني إليها
ولو زهرة يا ربيع !

"أغنية فيروزية"

في السنوات الرومانسية من صباي قرأت رواية ديكنز، قصة مدينتين. واستبطلت سدني كارتن الذي ضحى بحياته لانقاذ زوج المرأة التي أحبها، حين بادله اللباس والمكان في الباستيل، وتحت شفرة المقصلة.
ومثل غيري من الناس لم يصمد بطل من أبطالي للبلى. بل أقبلوا وأدبروا مع اقبال العمر ومع ادباره، حتى لم يبق لي بطل سوى فيلسوف هيجو، جرنجوار الافاق البائس، في "احدب نوتردام"، الذي، حين طلبوا منه المبادلة نفسها لانقاذ ازمرالدة، الغجرية الحسناء ورفض، فسئل عما يجعله شديد التعلق بالحياة، أجاب: "سعادتي الكبرى في قضاء الأيام كلها، من الصباح إلى المساء، مع رجل عبقري هو أنا. وهذا شيء جميل جدا".
-والعروبة؟
-هلا أقلعت عن العتاب والتهكم في مقابلتنا الأولى هذه، بعد انقطاعي عنك عشرين عاما!
وهذا ما أردته بالضبط حين ذكرت الاستاذ "م" بالعروبة، وقد فاجأني بزيارة ليلية أثارت دهشتي، وأثارت شكوكي، ورجاني أن أستمع إليه ببال طويل.
لقد كنا صديقين حميمين في سنوات الابتدائية فالثانوية. وكنا، سوية، مؤسسي الجمعية السرية الأولى في مدرستنا الابتدائية لمحاربة الانجليز، التي لم يكن فيها سوى العضوين المؤسسين، ولم تترك أثرا سوى عادة التدخين المزمنة والتي اعتبرناها من مقتضيات العمل السري. ولبسنا النظارات الشمسية السوداء، اخفاء لدموع الرجال، حين احتفلنا بانهاء الدراسة الثانوية، وتوادعنا وتواعدنا. اذ افترقت طرقنا فيما بعد. فسافر "م" إلى القدس لانهاء دراسته في الكلية العربية. ثم رجع إلى بلدنا حيث عمل مدرسا للانجليزية في مدرستها الثانوية ولا يزال في هذه الوظيفة حتى الآن.
ومنذ أن قامت اسرائيل، انقطعت صلتي به انقطاعا تاما. وحتى المرحبا أخذ يتحاشاها حين نلتقي عرضا في الطريق. وكانت هذه القطيعة قد آلمتني في بدايتها، حتى تعودت عليها، وأسقطته من حياتي مدركا انه من ذلك النوع من الناس، اشبه ما يكون بامرأة كانت في عزوبيتها لا تقوم عن قراءة قصة حتى تقع على غيرها، فلما وجدت الزوج، لم تعد تقرأ شيئا، ولا قصاصات الجرائد في دورة المياه.
وصاحبنا، الذي كنت واياه نتغم سوية بفتوحات خالد بن الوليد، وبمراثي المتنبي، وبكفرانيات أبي العلاء – العروبة، قد تزوج الوظيفة. فكيف وشأنه أن يحافظ عليها في اسرائيل حيث من مستلزمات ذلك أن تنكر كل صلة بصديقك وبقريبك اذا كان من المشاغبين على السلطة، ولو كان أخاك ابن أمك وأبيك؟
ثم طرق بابي فجأة، في ذات ليلة من الليالي التي أطبقت بعد حرب الأيام الستة. وقعد قبالتي بعد قطيعة عشرين عاما. وقال:
-استمع حتى النهاية..
فما الذي حط في قلبه أسدا، فتجرأ على زيارتي؟
ووصل الأستاذ "م" ما انقطع من حديثه:
-سقط سدني كارتن من ألبوم أبطالي مع شعرات شفرتي الأولى. ولكن عنوان رواية ديكنز – قصة مدينتين – ظل يلاحقني ويسحرني ويؤثر على ذوقي طوال هذه السنين الطويلة. وكان هذا التأثير يظهر بأشكال حيرتني في بادئ الأمر. ثم استسلمت له. بل أصبحت أحمله معي عاطفا عليه، معزا له كما يحمل انسان تعويذة كانت والدته علقتها بعنقه منذ الطفولة.
وفي بداية عهدي بهذا التأثر الغريب شرعت في كتابة "قصة مدينتين" من تأليفي، مدينتين من بلادنا، حيفا والناصرة. وكتبت فصلها الأول، فاذا القصة تنتهي به، فطرحتها. ثم قررت أن أتخصص في موضوعين: الانجليزية والمحاماة. ولكنني لم أفعل. وعالجت قرض الشعر بالانجليزية وبالعربية، فقرضت الهواء، باللغتين معا، ويؤلمني أنني لم انجب سوى ولد واحد. فإنني راغب في ولدين اثنين لا أعطيهم للقراءة سوى كتابين معا، وشاعرين للحفظ، وأدبين للمقارنة، وساعتين للامتحان. وأشياء أخرى في حياتي، لا ضرورة إلى ذكرها، تؤكد سيطرة هذه الازدواجية، في ذلك العنوان السحري – قصة مدينتين – على ذوقي وعلى عقلي. ولكنك، ولا شك، لاحظت هذا الأمر حين كنا صديقين في شبابنا . هل نسيت أنكم كنتم تلقبونني بأبي الذقنين؟
-كنت ضخما ومنتفخ الوجنتين..
-لا. بل كنت مثلكم بذقن واحدة. وأما هذا اللقب فعلق بي لأنني كنت أحب ترديد القول: "لا تهمني ذقن ممشطة أو ذقن مخططة": ذقنان ، ذقن رجل وذقن امرأة، اثنان "قصة مدينتين"، هذه هي الازدواجية تعويذتي التي حملتها حول عنقي منذ الصبا.
"ان صاحبي القديم هذا انسان مرتب، في هندامه وفي كلامه. وهو مسرف في حديثه دون تكلف. فتركته على هواه كما عودته فيما مضى. خصوصا وأنني دهشت من زيارته المفاجئة، وأردت أن أستشف غرضه من هذه الزيارة. ولقد اعتقدت انني بدأت أفهم غرضه. قلت في نفسي: أحد أمران – اما أن وازعا من ضميره أيقظته الحرب فدفعه الآن، بعد عشرين عاما، إلى تبرير انقطاعه عني بهذه الازدواجية. واما ان واحدا ما قد أرسله إليّ لأمر ما، وهو يريد أن يسترد صداقتي بالحديث عن هذه الازدواجية السحرية. فاحترست منه وتشوقت إلى نهاية حديثه".
فقال:
-لذلك لم تطل دهشتي حين ارتقت بنا السيارة، لأول مرة بعد حرب حزيران، في منعطفات طلعة اللبن اللولبية، في الطريق من نابلس إلى رام الله . فلتت مني شهقة حين عبرنا المنعطف الأول، وارتج لساني ومقود السيارة في يدي. وهتفت بزملائي الذين كانوا معي في السيارة ( عشرين عاما وأنا أحلم بهذه المنعطفات اللولبية. هذه الطلعة لم تغب عن ذاكرتي يوما واحدا. إني أتذكر كل منعطف فيها. هي أربعة فعدوها. وهذه الجبال المشرئية تحرس السهل الأخضر هي عشرة فعدوها. وهذا الهواء النقي. هذا الأريج أعرفه. اني أستنشق رائحة رافقتني طول العمر. هذا المكان مكاني!).
"فهمت..! الآن فهمت لماذا جاء هذا المسكين إلي بعد انقطاع عشرين عاما. يا لصديق الصبا. كم قسى الدهر علينا! عذرا على شكوكي. وكدت أقوم كي أعانقه. ولكنه لم يمهلني".
فلم ينقطع الأستاذ "م" عن حديثه:
-بعد الحاحي رضي زملائي بأن أوقف السيارة عند المنعطف الأخير، الرابع. ونزلوا معي لنستنشق ذلك الهواء ولنملأ عيوننا بمشهد الجبال والسهل المحروس. وأشجار اللوز تملأ السهل والجبل، أما كان أجدر بهم أن يسموهم منعطفات اللوز؟ وكان شيء في داخلي يدعوني إلى السجود. وكان شيء في عيني يذوب دمعا. وشعرت شعور المشاهد لأشياء عجيبة تقع أمام ناظريه. وكأني أحياها مرة ثانية سني شبابي الماضية، في مراتع صباي، لا أراها فقط بل أحياها وأستنشق هواءها وأحس بدماء الصبا، مع رائحة الصابون والقطين، تجري مشبوبة في عروقي.
ولكن زملائي لم يمهلوني، وسرعان ما أسقطوني من شواهق منعطفاتي إلى واقعي في الحضيض. هذا يريد متابعة السفر حالا لأن تصاريحنا لا تنص على أن يسمح لنا بالنزول في طلعة اللبن. وهذا يتهكم على ذكرياتي عن هذه الطلعة بأنني في يوم من الأيام، قبل عشرين عاما، قد بولت في أحد منعطفاتها. وغير ذلك من الكلام الذي ألفناه نحن الأساتذة حين نبتعد عن طلابنا وعن زوجاتنا
وظللت طول الطريق إلى رام الله فالقدس فبيت لحم، وفي العودة، أهجس بهذا الأمر المدهش، وأسترحم ذاكرتي أن تستعيد ما وقع لي من أمر، في شبابي، في هذه الطلعة، جعلني أقف مأخوذا امامها، لا اريد مفارقتها أبدا.
ولكن دون جدوى. حتى وصلنا اليها في العودة فهبطناها دون توقف. فرآني أحد زملائي مهموما. فوضع يده على كتفي مواسيا، وقال: هي شبيهة بطلعة العبهرية، في الطريق من الناصرة إلى حيفا، فلعل الأمر اختلط عليك.
فرفع حجرا ثقيلا عن صدري.
منذ حوالي عشرين عاما وأنا مسافر إلى حيفا مرتين في الأسبوع، حيث أقدم دروسا اضافية في احدى مدارسها الثانوية، فأمر بطلعة العبهرية ذهابا وايابا. أقنعني زميلي بهذا التفسير البسيط، مع علمي بانعدام الشبه بين الطلعتين، لأنني أعرف سر نفسي وضعفي بقصة المدينتين. لا شك في أن طلعة العبهرية ارتبطت دائما في مخيلتي بطلعة اللبن. قبلت هذا التفسير، وأزحت عبئا ثقيلا عن صدري.
"ياللانسان! أيذبح في ذاكرته ذكريات لا يقوى على احتمالها؟ كنت أحسب أن فاقدي الضمير تتحجر قلوبهم، فلا يشعرون بتأنيبه. فاذا الأمر مختلف. واذا الانسان أعجز من أن يقتل ضميره، فيقتل الذاكرة! اذن، لماذا جاء يحدثني بهذه الحكاية؟".
وقال صاحبي القديم:
-تذكر أن لي معارف وأصدقاء عديدين في الضفة الغربية. من أيام الدراسة وفيما بعد. أساتذة ومحامون وأطباء ورجال أعمال وسياسيون ووزير ومستوزرون. ولقد زرتهم جميعا. ووصلنا ما انقطع من ذكريات ومن صداقة. وعادوا كما كانوا قبل عشرين عاما جزءا عزيزا من حياتي. ولا يمضي اسبوع إلا وأزور أحدهم أو يزورني. كنت في الماضي توهمت أنهم نسوني، واستحوا بي، وانهم قطعونا من شجرة حياتهم كما يقلم الفرع الجاف لتنمو الشجرة وتورق.
-ولكننا فرع أورقته الحياة.
-صدقت. جئتهم في بادئ الأمر متعثرا، غير متأكد من استقبالهم. فوجدت ما لم أكن أتوقعه من حنين إلى صداقة قديمة، ومن اعتزاز بها. وجدت أنهم كانوا يتتبعون أخبارنا. وكانوا يلتقطونها من فم الطير. ووجدت أنهم يضعوننا أعلى من الموضع الذي وضعنا أنفسنا فيه. وكنت رغبت في أن أخفي عنهم انطوائي في الصدفة عشرين عاما. فاذا بهم يعرفون ذلك ويبررونه بالشدة، ويرونني على غير ما أرى نفسي. لقد رفعوا من قدري فارتفعت. وشالوني فطالت قامتي، فأصبح رأسي فوق الضربات.
ولذلك قلت لك انهم عادوا جزءا عزيزا من حياتي، تلك التي عرفتها أنت قبل عشرين عاما.
-فهل زرتني الليلة بقامتك الطويلة، علنا؟
-وهل أستطيع أن أزورك إلا علنا!
-وهل، لهذا، زرتني؟
-لا.. بل لأمر يقلقني ويؤرقني. قلت لك أن دهشتي لم تطل حين أهاجبتني طلعة اللبن ومنعطفاتها. فقد أعدت شعوري هذا إلى تعويذتي التي لازمتني طول حياتي، إلى ازدواجية تفكيري ومنطقي، وإلى اتصالي المستمر بطلعة أخرى، هي طلعة العبهرية.
وصعدت منعطفات اللبن وهبطتها عشرات المرات منذ ذلك الوقت. وحين كان الحنين الآسي الغريب اليها يدهمني كنت أعلله حالا واريح ضميري.
حتى جاء ذلك اليوم من أيام شباط الماضي، حين عدت مع زوجتي وولدي من زيارة أصدقاء لنا في القدس القديمة. وكان الوقت ظهرا حين بدأنا نهبط إلى منعطفات اللبن. وكانت براعم اللوز تتفتح. وألوانها البيضاء والحمراء تتعانق في نشوة ربيعية ورقصت الجبال العشرة كلها.
-بأية لغة نظمت هذه القصيدة؟
-بلغة عيني وبلغة قلبي. وستسمعني حتى النهاية.
وظلت زوجتي تلح علي بأن أوقف السيارة، حتى تلتقط أغصان لوز من شجرة عتيقة أعتقد أنها كانت موجودة أيضاً في أيامي السابقة.
فنزلنا وقطعنا أربعة أغصان ابتسمت لنا وابتسمنا لها.
وحين سألتني زوجتي : هل اذا زرع غصن اللوز في التراب ينمو شجرة، انقبض صدري وبدأت أتذكر.
هل تذكر انه في مطلع شبابنا كان لنا صديق، أحب فتاة من القدس أو من بيت لحم، من هناك، وكنا نحب حبه؟
-كلنا أحب، وكنا نحب حبه.
-بل هذا الصديق كان حبه أجمل من حبنا. وكانت له قصة. وكنا في رحلة. ونزلنا أمام تلك الشجرة في باب طلعة اللبن. وكان هناك بيت. وكان فيه دجاج وأبقار. والبيت لا يزال قائما ولكنني لا أرى الدجاج ولا أرى الأبقار. واستسقينا سكانه ماء. واذا بفتيات ، في رحلة من القدس، وهن يقطعن أغصان اللوز المنور. وكانت بينهن صاحبة صاحبنا.
-وماذا بعد؟
-اني أذكر عنه قصة جميلة. لا أدري الآن كيف وصلت إليّ فصاحبته قطعت فرعا من الغصن وقدمته اليه واستبقت الفرع الآخر. وتعاهدا على أن يحتفظا كل بفرعه، وأن يلتقيا في الربيع القادم، حين ينور اللوز، فيأتي بأهله ويخطبها من أهله. فكيف كانت نهاية قصتهما الجميلة؟
-وما اهتمامك كل هذا الاهتمام بأمرهما؟
-لست أدري. ولكنني أحسب أن دافعا قويا يدفعني إلى أن أفتح صفحات صداقاتي القديمة، كلها. كأنما أريد أن أشد حاضري إلى روابط ماضيّ، كلها، حتى لا تنفصم أبدا مرة ثانية. كان ذلك الماضي فياضا بالأمل. وكان يحتضن الدنيا وما فيها. وكان نقيا مفتوحا كعيني طفل. وكأنني اليوم أريد أن أتعلق بخيوطه حتى أنتشل نفسي من هذا الحاضر. فهل تراني غريقا أتعلق بحبال الهواء؟
-ثم ماذا؟
-منذ حرب حزيران وأنا أتجول كالملهوف بحثا عن الأصدقاء القدامى. وكلما التقيت بأحدهم تأججت لهفتي إلى لقيا الآخرين. ومنذ أن تذكرت قصة صاحبنا هذا وأنا أفتش عليه، وأبحث عنه، فلا يذكر أحد من أصدقائي قصته. وقد أوقعتني هذه اللهفة في مآزق. وكدت ألا ألقى صديقا من أصدقائي القدامى الا وألح عليه بأن يخبرني كيف تعرف على زوجته!
ولم يبق من أصدقاء الصبا من لم أسأله عن صاحبنا هذا سواك. لذلك جئت اليك. فهل تذكره وتريحني؟
-كنت دائما غريب الأطوار يا صاحبي. ولكنك الليلة أغرب ما كنت. فما هذه اللهفة على معرفة أمر جانبي؟
-تقول: جانبي! إنني أدرك الآن انني ما انطويت في صدفتي، واحدودب ظهري، الا حين قطعت الصلة بماضي. وما هو هذا الماضي؟ ان الماضي ليس زمنا. ان الماضي هو أنت وفلان وفلان وجميع الأصدقاء. سوية رسمنا لوحة هذا الماضي. وكل منا لونها بلونه الخاص حتى جاءت على صورتها الشابة المشتعلة التي عانقت الدنيا ومافيها. ولن أعيد الصلة بهذا الماضي الا اذا تكاملت أجزاء اللوحة بجميع ألوانها. وصاحبنا هذا، بحبه الجميل، أراه الابتسامة في ثغر هذه اللوحة. أي ماض يبقى بدونه. وماذا يبقى من لوحة الجيوكندة اذا مسحت ابتسامتها؟ ان قصته، التي سيكون اللقاء، عودة الحبيب إلى حبيبته، خاتمتها المفرحة، والتي سيكون الفراق المزمن خاتمتها المحزنة، أراها أصدق تعبير عن ربيعية ماضينا، الذي اريده أن يعود كما يعود الربيع بعد كل شتاء.
-أراك تعود إلى قصة المدينتين، الفرعين، المحب وحبيبته، النهاية المفرحة والنهاية المحزنة. أما الحياة فهي ليست خطوطا متمايزة بل هي خطوط متشابكة. فلماذا لا يكون خيالك، الذي أيقظه حنين ربيعي إلى جبال شامخة، قد توهم هذه الحكاية؟
-لقد استيقظ خيالي حقا، ولا أريده أن ينام مرة أخرى. لذلك أبحث عن صاحبي هذا. فهل أفهم أنك لا تتذكره؟
دعني أحاول. فاذا تذكرته أبلغتك الأمر.
وتركني الأستاذ "م" وهو مهموم كما لم أره مهموما في حياتي. وبقيت مكاني مهموما كما لم أكن مهموما في حياتي. ولعدة دقائق بعد خروجه أمسكت نفسي قسرا عن اللحاق به حتى أهز ذاكرته من موتها.
ولكن، هل أستطيع احياء الأموات؟
كيف لا أتذكر قصة الحب الجميلة التي يتلهف الأستاذ "م" على تذكر صاحبها. وكم مرة سألت نفسي: كيف يستطيع انسان أن يقتل في قلبه مثل هذا الحب؟
وبعد حرب حزيران، حين زرت السيدة الكريمة، الوفية، في القدس أو في بيت لحم، هناك، على حد تعبير الأستاذ "م"، وأرتني غصن اللوز الجاف، الذي لا تزال تحتفظ به، ويكاد يشتعل بالأحمر وبالأبيض حين تستعيد قصته، وأخبرتني أنه زارها مع عدد من زملائه المعلمين، وكان طول الوقت كثير الكلام وشديد الحبور، وأنها أدخلتهم إلى مكتبتها ليروا مجموعة الكتب والتحف التي جمعتها، وانه لحظ غصن اللوز الجاف، فسألها ما هو، فأخبرته ان اللوز ينور في شباط، فانتقل يحدثها عن المشمش وعن الجمعة المشمشية، دهشت لهذا الأمر أشد دهشة.
ولكنني الآن، وبعد أن زارني الأستاذ "م". وحدثني بكل ما حدثني به، فهمت كل شيء.
فاني واثق بأن الأستاذ "م" صادق في نسيانه وصادق في لهفته على أن يتذكر. فبارادة باطنية غريبة نسي حقا أنه هو نفسه صاحب قصة الحب الجميلة، والابتسامة التي نورت صبانا.
فهل من واجبي أنا أن أذكره وأريحه كما طلب مني؟ ولماذا يجب أن أريحه؟ وهل سأريحه حقا؟..
اذا كانت قامته قد طالت، كما قال لي، فستطول يده هذه القصة، فيقرأ. فهل حينئذ سيتذكر، فيعيد الروابط بماضيه، فينتشل نفسه من حاضرها؟
وأخيراً نور اللوز فالتقينا. وكان الربيع يضحك. وكان القدر يقهقه.



 
3-أم الروبابيكا

"بالايمان.. راجعون
للأوطان.. راجعون
راجعون، راجعون
راجعون"

"أغنية فيروزية"

لماذا أدهشكم قولي، فما صدقتكم، ان قطيعة عشرين عاما تنسي الانسان نفسه؟ وهل هي قطيعة بوعي الآن أصبح شعراؤنا ملء العين والخاطر. وأصبحوا يتدفأون بصمودهم. وصاروا ينتسبون اليهم – "أولئك آبائي.." فكيف قابلوهم قبل مذراة الخامس من حزيران، حين أنشد شاعرنا نشيد العودة الأول – "بلادي ترى، أعود أرى، ديار الحمى مهد صباي"؟ صاحوا في وجوهنا : ما لكم ولهذا يا قعداء، ألم ترفضوا الهجرة معنا إلى يثرب؟!
ولماذا تبربرون الآن على "أم الروبابيكا"، في شارع الوادي في حيفا، وترفضون أن تصدقوا ما تقوله لكم من أنها تشتري كل فراش منهوب من الهضبة، وكل خزانة عتيقة، وكل صندوق، لعلها أن تجد الكنز الذي تبحث عنه؟.. غير معقول!
وهل هذا هو الأمر غير المعقول الوحيد الذي يجري في بلادنا؟
تستهجنون من "أم الروبابيكا" انها تشتري جميع دواشك القنيطرة، وتقبلون من السلطات أن ترسي مزاد القنيطرة – بكل ما بقي فيها من أثاث، صحون قهوة وجران كبة، فراشي أسنان ونسافات عث، كتب الفارابي ولفائف المراحيض – على مقاول ذي مال أو ذي دالة، وتخلي له ساحة لصق عمارة الشرطة، ومخازن من مخازنها، يعرض فيها بضاعته على الشارين؟
وهل كان الأمر أصبح معقولا لو أنها أخلت له ساحة في معرض الشرق في عنق تل أبيب!
أنا أعرف أن أحدا لم يقرر أن يقاطع معرض المنهوبات هذا. ولكن أحدا لا يقربه. فلا العرب يقربونه ولا اليهود. هذا من ورع وذاك من جزع، وأخريات لأن موضته قديمة. والمقاول يحلف الايمان، بجميع اللغات المتداولة في حوض البحر الأبيض المتوسط، من الشام لتطوان، أن بيته خرب، ولا شأن له بخراب البيوت في الهضبة.. الا "أم الروبابيكا"...
الآن أصبح هذا هو لقبها. وأصبحتم تبربرون فيما بينكم بأنها عريقة في النهب، وبأنها سنة 1948 نهبت سجاجيد شارع عباس، وسكنت في القصر الذي نزح نه أبو معروف، صاحب حانوت "العشرة بقرش" في سوق الشوام في حيفا أيام زمان.
هل رأيتم في وادي النسناس قصورا؟ من حظ هذه الأطلال أنها تقوم في واد يحميها من رطوبة البحر المالح.. ألم تشرفوا "قصور" عكا القديمة، فتدق جدرانها النوبة لكم، هذه الجدران التي لم يستطع سور أحمد أن يصونها؟.. ألا تخجلون؟!
كنتم في الماضي تتلقفون كل سبب، وتختلقون الأسباب كي تقرعوا بابها، فتقدم لكم القهوة، وابتسامتها اللطيفة. وكنتم تلقبونها، فيما بينكم، بملكة الوادي غير المتوجة. وكانت منذ ذلك الوقت تبحث عن الكنز في الدواشك. فما رأيتم غضاضة في ذلك. فما بالكم ان تبربرون عليها وقد انشقت أمامها أرض الكنوز مرة ثانية؟..اني أعرفها أكثر مما تعرفونها.
لقد أصرت على البقاء مع والدتها المقعدة حين نزح زوجها وأخذ أولادهما معه، في سفر الخروج الأول. وحين توفيت والدتها، بعد خمس سنين من ذلك، سمعنا أن زوجها يرفض التعرف عليها، ولا يرغب في أن تعود إليه. ولم تصدقوا ما كانت تقوله لكم من أنها هي أيضا لا ترغب في أن تهجر بيتها. وكنتم تتغامزون عليها. وكنتم تبربرون بأن في الأمر حكاية حب. ومن غير المعقول أن تبقى في الوادي لغير هذا السبب. هلا أجبتموني، اذن، لماذا كان من المعقول بقاؤكم أنتم أنفسكم؟.. أني أعرفها أكثر مما تعرفونها.
كانت تبيع ما سحبت يداها من سجاجيد ، ومن كراسي، ومن مرايا. وكانت تفتح الدوشك وتبحث فيه عن الكنز، ثم تطويه وتبيعه. وربما وجدت شيئا. ويوما زرتها. وكانت متربعة على الأرض، وصف دوشك مبعثر أمامها. وكانت في يدها رسالة تقرأ فيها وتنشج.. فاستوضحتها الأمر. فقالت: تذكرت أولادي.
-وهذه الرسالة؟
قالت: واحدة من رزمة رسائل كان شاب يرسلها، على ما يظهر، إلى فتاته. فكانت تخفيها في خرق فتحته في الدوشك.
ثم مسحت دموعها، وهتفت : كنوزي ، كنوزي!
وكانت تعيش على ما تجمعه من أثمان ما تبيعه من أثاث البيت. وتقدم القهوة لكم. وترفض هداياكم.
وكانت اذا دخلتم في الشعر، دخلت فيه. وكنتم تسرعون إلى اكمال بيت اذا لم يأتها سوى شطره الأول. وكنتم تهمهمون استحساناً – لؤما – اذا روت بيتا وقد كسرته.
واذا دخلتم في السياسة كانت أشدكم حماسا ورغبة في أداء مهمة. فاذا اعتقل أحدكم كانت أسرع من أمه إلى زيارته، وحمل الطعام إليه، وغسل قمصانه.
عشرون سنة أكلت نيرانها ما اختزنته من حطب سفينتها المبحرة نحو كنوز الملك سليمان. كل شيء باعته سوى كنوزها. وهذه النيران أحرقت شعرها، فشاب، ولكن ابتسامتها بقيت خضراء لم تفحمها النيران، لو كنتم تحفلون بابتسامتها كما تحفلون الآن بالبربرة عليها.
لقد علمت انكم رأيتموني وانا أزورها أخيرا. فهل ستبربرون بزيارتي أيضا؟ حين سمعت بربرتكم ولغيكم، أسرعت إليها. وحين تهامستم بأنها الوحيدة التي تطرق "معرض المنهوبات الكاسد، اسرعت إليها. وحين سمعت أن ملكة الوادي غير المتوجة أصبحت، في أفواهكم، "أم الروبابيكا"، أسرعت اليها.
واستقبلتني كأن شيئا لم يكن. وكان صوف دوشك مبعثرا في باحة دارها.
قلت: هل عدت إلى التجنيد ؟ فابتسمت ابتسامتها الخضراء.
قلت: فهل تبكين لوحدك؟
فهتفت: لم أعد لوحدي.
قلت: مع كنوزك؟
فهتفت: بل مع أصحابها. انهم يعودون ، يعودون.
ورفعت رأسها اعتزازا، أتعرف أنهم في حاجة إلي بعد نسيان عشرين عاما؟
ورفعت رأسها اعتذارا: أتعرف أنهم في حاجة إليّ؟ وأنتم، هل تتوهمون أنني أكتب عنها دون استئذان؟ اذا ظننتم بي هذا الظن فانكم لمخطئون.
لا تعرفون عنها، مثلا، انها وجدت أحد أولادها معتقلا في سجن الرملة، متهما بتوزيع منشورات في القدس القديمة.
ولا تعرفون عنها أن زوجها زارها من لبنان، عبر الجسر، يعبرون أزقتنا في صمت، ويتطلعون نحو الشرفات والنوافذ في صمت. وبعضهم يطرق الأبواب ويسأل في أدب أن يدخل ليلقي نظرة وليشرب جرعة ماء، ثم يمضي في صمت. فقد كان هذا بيته.
وبعضهم يقابله سكان البيت بابتسامة شفقة. وبعضهم يقابله سكان البيت بابتسامة شقاء. وبعضهم يدخلونه البيت. وبعضهم لا يفتحون الباب في وجهه.
وبعضهم لا يطرق الأبواب بل يجول بعينيه باحثا عن صاحب سحنة سمرا عابر، فيستوقفه، فيسأله: هل كان يقوم هنا بيت من حجارة مكحلة؟ فاما أن يقف عابر السبيل، صاحب السحنة السمراء، ويستذكر، ويتذكر. واما أن يقول له: لقد ولدت بعدها ياعماه !
أما بيتي فلا تزوره هذه الأشباح الهائمة. انهم لم يسمعوا بكنوزي.
فهل كتبت في جريدتك عن كنوزي؟
أكتب، أكتب عن كنوزي التي احتضنتها صدور دواشكي. لدي حزمات من أنوار الصبا، رسائل الحب الأول. لدي قصائد خبأها فتيان بين أوراق كتب مدرسية. لدي أساور وأقراط وغويشات.. لدي عقود تتعلق بها قلوب ذهبية اذا فتحتها وجدت في القلب الذهبي صورتين: له ولها. لدي يوميات، بخطوط دقيقة حيية، وبخطوط عريضة واثقة، عن تساؤلات: ماذا يريد مني؟ وعن ايمان مغلظة: يا وطن!
فهل تعدني بأن تكتب عن كنوزي حتى تهتدي الأشباح الهائمة إليّ؟
فلما وعدتها قامت وذهبت إلى صندوق عتيق، فأخرجت منه حزمة أوراق بالية. ثم مدتها إليّ وقالت: هذه هدية مني اليك.
-ماهي؟
-رسائل كنت أكتبها ولا أرسلها إلى صاحبها. ومنها تعرف لماذا بقيت في الوادي.
-ولماذا الآن فقط؟
-لأنني الآن فقط أستطيع أن أكون معكم جميعا: أنتم أولادي. فلا تتركوني مرة ثانية.
حين كنا أطفالاً كنا لا ننام حتى تروي جدتي لنا حكاية من حكاياتها.
وكانت قد تجاوزت التسعين. وكان اختلط الأمر عليها. فتبدأ حكاية الشاطر حسن من وسطها:
-وأخذ الشاطر حسن عصاه السحرية وضرب بها المارد.
-أية عصا سحرية يا جدتي؟..
فلا تنتبه لصيحاتنا. وتستمر في حكايتها. وما من مرة ظللنا مستيقظين حتى نهاية الحكاية، وما من مرة نامت بعد أن تتم الحكاية. فما عرفنا لحكاية الشاطر حسن بداية، وما عرفنا لها نهاية.
وحين كبرنا صرنا نتذكر جدتي وحكايتها، التي أسميناها البتراء، فنغرق بالضحك.
كأنما الأمر لمعقول هو أن تكون للقصة بداية، وأن تكون لها نهاية.
هل هذا هو الأمر المعقول حقا؟
وحتى لو كان هذا هو المعقول؟ فهل هو المعقول في بلادنا؟
فلماذا، اذن، يجب أن أخبركم بما قرأته في رسائل "أم الروبابيكا" التي أهدتها إليّ مؤخرا؟
ألا يحق أن أبقي بينها وبيني سرا واحدا؟
لتظل هذه القصة بتراء حتى نكتب نهايتها سوية.
 
4-العودة

البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
بأيدينا للقدس
سلام آت آت آت

"أغنية فيروزية"

1-كيف ظهر في شهور السنة شهر جديد هو حزيران الثاني
في "الجمعة العظيمة" ينتظم نصارى القدس في مسيرة تقليدية، وراء صليب خشبي كبير، إلى الجلجثة – على طريق الآلام التاريخية..
وعبرت مع صاحبي المقدسي الطريق التي عبرها ألوف الشبان والشابات، في "الأربعاء العظيمة"، في الخامس من حزيران الثاني – من ساحة المسجد الأقصى إلى مقبرة اليوسفية حيث سجوا باقات الزهور على قبور الشهداء. وأما الصليب الخشبي فقد حملناه على اكتافنا.
2-ما هو السر العجيب في اسم "الغزلان"؟
سرنا، وأخذ صاحبي المقدسي يعرفني بمعالم القدس القديمة.
-بدأوا التجمع هنا، في ساحة الحرم حوالي الكأس "أسور – ممنوع – يا خواجة، أو تخلع حذاءك".
وانتظم الفتيان والفتيات، اثنين اثنين، يحملون فيما بينهم الأكاليل وباقات الزهور. وأمام الجمع المنتظم رجلان. هذا يحمل مصحفا وذاك يحمل انجيلا.
"تفضل من هنا. هذا هو باب السلسلة" ومنه خرج الجمع.
نعم. كان الباب مفتوحا على مصراعيه.
لا.. ليس هذا قبر ولي، بل هو سبيل ماء مظلل بقبة قديمة.
"وعليكم السلام. الأخ من الناصرة؟ صحفي. نعم، من "الاتحاد" – لا بد أن تنفرج".
ساروا صعدا في زقاق باب السلسلة..
نعم. هذا هو الزقاق الذي أعلنت الحكومة عن أنها تنوي توسيعه وتمدينه وبدأت تخلي سكانه لهدم بيوتهم. إلى يسارنا حائط المبكى.
لا. لم يكن لهدم بيتوتهم. إلى يسارنا حائط المبكى.
لا. لم يكن الزقاق خاليا، بل أخذ الناس يتدفقون عليه من مساريه الجانبية وينضمون إلى المسيرة – هنا إلى اليسار، من درجة الطابوني.. ومن هنا، الى يمينك، من خان العطار.
سر صعدا. هذا إلى يسارك حوش الشاي. تدفقت منه الجماهير القادمة من حوش الغزلان الذي هدمت بيوته وتبعثر أهلوه.
-الغزلان؟ أي سر في هذا الاسم؟ لدينا قرية قرب الناصرة وفيها أرض باسم "مراح الغزلان". وصودرت. وبيوتهم فيها مهددة بالهدم.
3-كيف أصبح لشاب واحد ألف أم؟
ولكن صاحبي المقدسي كان مشغولا بصليبه:
-هنا انعطفوا نحو اليمين. هذا هو سوق الباشورة. لا.
لا تسر فيه، بل انعطف معهم نحو اليسار. هذا هو سوق العطارين.
-ما اشبهه بسوق الشوام السالف في حيفا السالفة.
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أخونا من الناصرة".
-نعم أنا من مواليد حيفا، وأذكره. دكان نعيم العسل أذكره. وقد أكون دخلت دكانك حده: علي؟ كان زميلي. في الكويت؟ سلامات. القدس عالية، فلماذا يجب أن يبتلعها الطوفان؟
-أهلا. وعليكم السلام. ان شاء الله خير. تنفرج.. لا، لم يكن هذا الزقاق على هذا الضيق يوم المسيرة. كانت دكاكينه مقفلة. فما كان أصحابها يجلسون أمامها مثلما يجلسون الآن. لا أحد يشتري ولا أحد يبيع. يدخلون ويخرجون؟ ولكنهم لا يتاجرون بل يتناقلون أخبار الاعتقالات.
-معهم في سوق العطارين. ها نحن الآن في خان الزيت. إلى يمينك عقبة التكية.. ومنها انصب جدول.
هذه إلى يسارك عقبة الخانقاه. ومنها جاءوا. وإلى يمينك عقبة المفتي. جاءوا.
هذه عقبة البطيخ وإلى يمينها عقبة التونه. وتدفقوا منها. ومن هذه أيضا تدفقوا.
الآن نحن في ساحة العمود الداخلية. لأن الخارجية هي خارج السور. هناك احتشدت الشرطة. وهنا أيضا ملأت الساحة. خيالة ورجالة. وتحرشت بهم. ومنعتهم من أن يستمروا في مسيرتهم سوى بضعة من حملة الأكاليل، اثنين اثنين.
ثم اصطدمت بهم.. واختلطوا.
"صهيل. الله أكبر. صهيل. أنات. وقع هراوات. الله أكبر".
وجرجرتهم إلى سيارات الشرطة...
وأم عجوز رأتهم يجرجرون ولدها فصرخت: ولدي!
فانقضوا عليها كي يجرجروها هي أيضا.
فانشق الهتاف من كل جانب: ولدي!
حتى لم يعرفوا أيهن أمه..
-كلهن؟
-أمه...
وردوا بقذف الحجارة من أعالي السطوح القديمة..
وغافلوا الشرطة وعبروا من هنا – سر – من حارة السعدية، داخل السور، إلى باب الزاهرة – سر – حتى دخلوا المقبرة – سر – وسجوا زهورهم...
4-كيف أعاد شاعر، في شعره، وحدة قرائه؟
حتى اذا خففنا الوطء في مقبرة اليوسفية، قال صاحبي المقدسي معتذرا:
-لقد ذبلت الزهور!
فتذكرت أغنية بايرون عن محبوبته التي بعث اليها باقة ورد كي يمنح الورد أملا في ألا يذبل بين يديها.
ولكنني قلت لصاحبي مواسيا:
-لا يصلح ذبول الزهر إلا في المقابر.
-أما البطاقات المرفقة بالزهور فسطورها لم تذو.
اقترب فتقرأ. فاقتربت، فقرأت...
في واحدة:
" هذه أرضي أنا...
وأبي ضحى هنا...
وأبي قال لنا:
حطموا أعداءنا"...
وفي أخرى:
"راجعون"...
وهذه:
" البيت لنا...
والقدس لنا"
وهنا:
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون".
وعلى هذا القبر شعار:
"طوبى للحزانى فانهم يعزون".
وأوقفني صاحبي أمام شعار كبير على قبر ذي فتحة مثل باب مغارة. وقال:
اقرأ. فقرأت على قطعة قماش بيضاء واحدة:
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون".
وتحتها مباشرة:
"الى الأبد ذكراك يا أخانا المستحق الطوبى والدائم الذكر".
وقال صاحبي المقدسي:
-وفي اليوم التالي، يوم الخميس، تجمع ما يزيد على ستة آلاف رجل في ساحة الحرم. وأرادوا المسيرة نحو قبور الشهداء. فاعترضتهم الخيالة. وكان مفتي القدس وكان مطران القدس يواجهان الحوافر.
وأردت أن أتعرف على مقدمي الباقات والأكاليل أما بعضهم فلم يذكر اسما وآخرون كتبوا:
"من أهالي سوق الحصر"...
- هؤلاء هدمت بيوتهم...
"من دار الطفل العربي"...
"من حملة شباب القدس"...
-هؤلاء معلمو مدارس...
"من بنات شعفاط الاعدادية"...
وفي ورقة منزوعة من دفتر تلميذة قرأت بخط مبتدئة:
"عاشت فلسطين"..
وقرأت مندهشا:
- عبد الرحيم محمود؟
- بالطبع ليست الباقة منه. فقد مات سنة 1948 انما هذا بيت من شعره:
ونفس الشهيد لها غايتان ... ورود المنايا ونيل المنى
-ما أعجب الأمر. قتل في معركة الشجرة، على طريق طبريا، سنة 1948، ودفن في الناصرة، في قبر لا شارة عليه ولا ذكر، ولا نميزه الا حدثا.
-كذلك قبر هذا الشهيد. لا نعرف لصاحبه اسما.
-أما الشاعر فمجهول الاقامة...
-وأما هذا المقام فمجهول الهوية...
-شاعر مدفون في الناصرة يكرم شعره ضريح شهيد في القدس، شعره جمع الشمل...

5-العودة
وانتبه صاحبي المقدسي إلى أين يسرح تفكيري فابتسم.
ورأيت صاحبي المقدسي يسري في مجرى خيالاتي، مثل يمامة تعود في المساء حاملة الحب إلى عش جواز لها.
-هلا نجلس في ظل هذه الشجرة العتيقة!
فجلسنا..
-في بلدكم شاب...
وذكر اسمه..
-اعرفه..
-وطلب يد فتاة من القدس..
-سمعت بالخبر..
-فهل تعرف انها ابنتي...
-لا..
-وهي في الثانوية..
-لينتظر حتى تنتهي دراستها..
-لقد طردوها لأنها اشتركت في مسيرة الأربعاء..
-فتستطيع أن تتزوجه..
-ولكنه معتقل هنا..
-كيف؟..
-حمل معها اكليل زهر في مسيرة الاربعاء فاعتقلوه.
-يا له..
-زارت بلدكم مع أمها حين كنتم تتظاهرون، في أول أيار، وتهتفون مطالبين بالانسحاب. فتحمسنا.
وانضمت مع أمها إلى موكب النساء وهتفت معهن.
وأمه كانت في الموكب. وفرحت بهما. ودعتهما إلى بيتها. وأطعمتها فتعرف عليها.
وألهبها حماسا بحكاياته عن مظاهرة قال انها قامت في بلدكم سنة 1958. وقال أن الشرطة اصطدمت بها.
وحدثها عن رشق أحجار. وعن اعتقالات. وعن نفي. وعن أهازيج شعبية.
فدعته إلى بلدها، على أن يزورنا في الخامس من حزيران.
فأثبتت له أنها هي أيضا تعرف كيف تقذف الدبش. فطردوها.
وأثبتت لها أن حكاياته عن سنة 1958 هي حكايات صادقة. فاعتقلوه.
-فماذا تفعل البنت الآن؟..
-انها تنتظره أمام باب السجن.
-"صحفي من الناصرة يا خالتي. لاجئ من الناصرة مدفون هنا؟.. في الطرف الآخر؟ قرب باب السباط؟ بالطبع سنزوره يا خالتي.. هيا".
 
5-الخرزة الزرقاء وعودة جبينة

يا ساكن العالي طل من العالي
عينك علينا على أراضينا
رجع أخوتنا وأهالينا
...
عندنا بيوت وسطوحه عليه ورا عليه
بوابها مفتوحة للشمس والحرية
يا ساكن العالي طل من العالي
وطير الحمام عا طراف الأيام
قدرنا منام عا ايدين اللام

"أغنية فيروزية"

كان الشبان يعودون من نزهتهم المسائية التقليدية، في غفلة الليل الأولى، حين أشرفت سيارتنا على مشاحر قريتنا الجليلية. فعبقت رائحة الحطب المكبوت في المشاحر. فهتفت ضيفتنا:
-وصلنا...
وكنت أطلق بوق السيارة لأنبه الشبان العائدين من نزهتهم المسائية، الذين ما كانوا في حاجة إلى تنبيه، ولكنني كنت أطلق البوق اعلانا عن وصول ضيفتنا.
ها هي تعود إلى قريتها وإلى أمها العجوز المقعد، بعد غياب كان أطول من عشرين عاما.
ارتحلت مع زوجها وأطفالها إلى لبنان. وها هي تعود، بعد عشرين عاما، في طريق الجسر، على النهر المقدس، باذن أسبوعين زيارة في بيت أمها...
وسألت:
-هل بقيت العين كما بقيت المشاحر؟
-بقيت، في الطرف الآخر من القرية، ولكنها نشفت!
فضحكت ضيفتنا ضحكة حيية. مسموعة لا مرئية، وقالت:
-رجعت جبينة...
فجاء دوري كي أضحك، فلم أقو عليه.
هل تعرفون حكاية جبينة، أم طوتها خرائب الدامون وأقرث؟
عن المرأة القروية العاقر، التي كانت تجبن الجبنة، وتطلب من ربها، ساكن العالي، أن يطعمها بنتا بيضاء بدرية الوجه مثل قرص الجبنة الذي كان بين يديها.
فأطعمها طفلة كانت تقول للقمر قم حتى أجلس مكانك.
أما "هيجو" فأطلق عليها اسم ازمرالده. وأما المرأة القروية فسمتها "جبينة".. ورعتها ودللتها وألبستها الحرير المطرز وعلقت في معصمها خرزة زرقاء وكان رنين خلخالها، في مشيتها الطروب ينبئ العجال عن مقدمها، فيفسح لها الطريق.
ثم – بلا طول سيرة – مثل ازمرالده، خطفها "النَوَر". وظلت والدتها تبحث عنها وتبكيها حتى انهدت وانطفأ النور في عينيها.
أما جبينة فظلت تنتقل من يد سيد إلى آخر حتى انتهى مطافها راعية أوز في حقل أمير في بلدة بعيدة، تفصلها سبعة بحور بسبع سنين عن أمها وأبيها.
وكانت ترعى الأوز وتغني حزينة وتقول:
يا طيور الطايرة
في الجبال العالية
قولي لأمي وبويا
جبينة الغالية
ترعة وز
وتمشي غز
في الجبال العالية..
وتبكي..
وكان – بلا طول سيرة – أن سمع الأمير الشاب الغناء. فاستوقفه، فانجذب اليه. فعاد في اليوم التالي، فوقع في قلبه. وعاد، سبعة أيام، فوقعت في قلبه، فلم ينم سبع ليال بطولها.
حتى أطلع والدته على أمره. فانتقلت جبينة، زوجة وأميرة، من الحقل الى القصر.
وعبرت سنة على جبينة الأميرة. ووضعت رجلا على رجل وأنجبت صبيا مثل العجل.
ومضت سنة أخرى. فقالت جبينة الأميرة لزوجها الأمير:
-البلاد اشتاقت لاهلها.
فحملها على الهودج، بالطيب وبالحرير وبالهدايا، حتى أشرفت على عين القرية. فعطش طفلها. فرأت نسوة القرية يتدافعن ويتشاجرن في باحة عين الماء. فطلبت ماء لطفلها. فأجابتها احدى النساء: لا ماء في العين. من يوم ما غابت جبينة نشفت العين!
فقالت لها: عودي تجدي الماء.
وهكذا كان، وتدفن الماء الحبيس في بطن الأرض الكسيرة القلب.
وهمست امرأة في أذن أختها: رجعت جبينة!
وانتشر الخبر. وتراكضت البنات وتراكض الصبيان: رجعت جبينة!
واندفع صبي إلى عند والدة جبينة، المقعدة الضريرة، مثل عنزة تطاولت عليها. وصاح حتى تسمعه، وكان يلهث حتى تصدقه: ستي. ستي. رجعت جبينة.
فلم تصدقه...
فعاد إلى هودج جبينة مغلوبا على أمره. فأعطته الخرزة الزرقاء، بعقدها الذي كان يطوق معصمها الصغير. وقالت: قل لأم جبينة هذه من جبينة.
فوضعها بي يديها. فشمت رائحتها. فمسحتها بعينيها، ففاضت دموعها. فرجع النور اليهما.
ثم كان اللقاء.
ولكنني قلت لضيفتنا:
-الهودج الآلي يدخل القرية الآن. فهل تفيض الماء في العين؟
فابتسمت ضيفتنا ابتسامة غير مسموعة وغير مرئية.
ودخلنا أزقة القرية. فسألتها أن ترشدني إلى بيت والدتها، اذا كانت لا تزال تتذكر.
وقد فعلت.
وكنت أصعد بالسيارة في زقاق ضيق وهي ترشدني. ثم سمرتني في مكاني حين هتفت فجأة:
-احذر الحفرة إلى يسارك في أول الزقاق التالي.
لأن الحفرة كانت هناك، في المكان الذي توقعته جبينة.
وانتبهت إلى دهشتي فقالت:
-لا، لم يبق كل شيء على حاله. ها نحن شخنا، والعقود شاخت ولكن الأولاد يملأون السهل والجبل. لا أعرفهم ولا يعرفونني. ولكنني أعتقد أنهم يعرفون أن أمي المقعدة لها بنت في الخارج.
وهذا أيضاً كان صحيحا. فما أن وصلنا أمام دكان تحته بيت والدتها. وكان شاب يهم باقفال الدكان, ورانا، غرباء، وامرأة غريبة، في ثياب مدنية عصرية. تنزل، في هذه الساعة المتأخرة في هذا الزقاق المخنوق. حتى اندفع نحونا. ولا أعتقد أنني أخبرته بهوية السيدة الغريبة. فانه بمفرده بدأ يدور على نفسه وينادي جيرانه: رجعت بنت فلانة، رجعت بنت فلانة.
وتراكضت الجارات يستقبلنها. ورأيت العجوز المقعدة، في أسفل الدرج، تقف على رجليها. وكانت تحاول أن تسمع، وتحاول أن ترى، وتحاول أن تفهم، وقالوا: هذه والدتها. وكان الظلام دامسا، وكان الرجال يتصايحون يطلبون من النسوة احضار اللوكس.
وكانت العجوز الواقفة على رجليها في أسفل الدرج تبتسم ابتسامة لم أر مثلها في حياتي، أشبه بآثار موج على رمل شاطئ في ساعة الجزر
وبين الضوضاء تناهت الينا زغرودة، مع "آيبها"، أوقفت كل حركة، وكتمت كل صوت.
كانت الأم العجوز تزغرد.
ولكننا لم نفهم من أبياتها شيئا. وقد لا نكون سمعنا من زغرودتها غير حفيف الشفتين. وكلنني رأيت فوق شفتيها صمدة عروس وهي تتجلى.
ثم كان اللقاء.
وكنا لا نزال نعيد الأم العجوز إلى فراشها، حين دفعتنا جانبا. واندفعت كاللبوة نحو صندوق خشبي عتيق. وفتحت غطاءه ونبشت فيه، ثم أخذت تخرج ثيابا قديمة لطفلة في السابعة أو الثامنة من عمرها، وتهمس بصوت مبحوح:
-هذه ثيابك حفظتها لابنتك. فلماذا لم تحضريها معك؟
وأخرجت خرزة زرقاء معلقة بقلادة ذهبية:
-أبوك ، الله يرحمه، كان دائما يقول أنه لو احتفظت بهذه الخرزة لما حدث ما حدث. البسيها ولا تخلعيها ابدا.
وحين ودعت ضيفتنا، وقد عادت إلى والدتها، قالت لي في استحياء
-أما جبينة الجديدة فلم تكن هي التي احتفظت بالخرزة الزرقاء.
فقلت لها:
-طريقي على عين الماء، في الطرف الآخر من القرية. سأمر عليها، لعلها الآن فاضت بالماء.
وعبرت على عين الماء ورفعت يدي محييا. ما كان أحد يراني، فلم لا أحيي عين الماء؟
أما الوقوف على عين الماء حتى أرى هل عادت الحياة تدب فيه، فأجلته إلى يوم آخر.
 
6- الحب في قلبي

عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان
ويأتي أهله النائي الغريب!

"أغنية لم تنشدها فيروز"

"أغنية لم تنشدها فيروز كلاما ولكنها تنشدها دفئا
وهذه القصة التي بين أيديكم الآن، أيضاً، لم أكن أنا واضعها، ولكنني أعدت كتابتها مرة، وأعدت كتابتها مرتين وثلاث مرات، حتى أخفي معالمها عن أصحابها فلا أشقيهم، فشقيت، وحتى أخفي معالمها عن حابسيهم فلا أثيرهم، فثرت. ولولا خوفي من أن تخونني بقية العمر لآثرت الابقاء عليها، طي الدفاتر حتى تتغير الحال، فأطلقتها بغير كحل الخيال على جفون كحلاء.
ولولا خوفي. أيضاً، من أن يطول تلكوء الحال على حاله...
ما أصعب ميلاد الخيال في قصة تعيش.
فلفحة الألم تعتمل في صدر الكاتب تسعة أشهر، تسعة أعوام، العمر كله، حتى تعصف به آلام المخاض فيلدها قصة، اذا تنفست هواء أرضنا عاشت، وأما اذا هبطت علينا من كوكب آخر لا يتنفسون فيه هواء كوكبنا اختنقت وولدت ميتة.
وأصعب منه ميلاد الحقيقة في قصة ملتفحة بالخيال يقيها لسع البرد.
مثل وميض البرق، لا تستطيع أن تحضنه في صدرك شهرا، ولا تستطيع أن تحضنه لحظة. أما أن يمزق حجب الظلام أمامك، فترى ما هو أمامك، وتهتف: اني أرى ما هو أمامي. وأما أن يمزق أحشاء صدرك تمزيقاً، فلا تعود ترى ما هو أمامك، وتتأوه.
وحين كنت في ليننجراد هذا الصيف انشقت سماؤها الصافية عن وميض برق.
كان النهار صحوا. وكانت طلعة الصبح مبرقة. وأما الغيوم فتلبدت في عيوننا حين دخلنا الساحة الرحبة، المزهرة بالورد وبشقائق النعمان، الفواحة بعطر الريحان والقرنفل وزهور "لا تنسيني"، التي احتوت مدافن ما يزيد على ستمائة ألف من أهالي ليننجراد، الذين مات أكثرهم جوعا أثناء حصار ليننجراد في الحرب العالمية الثانية، تسعمائة يوم، من سبتمبر 1941 حتى فبراير 1944.
وانتصب أمامنا، في صدر الساحة الرحبة على بعد كيلومتر من مدخلها، تمثال جرانيتي داكن، هائل، لامرأة نصف، ملتفحة، وقد فتحت ذراعيها لوعة – تمثال آلام الوطن.
وسرنا بين القبور النضرة، آصاص كبرة زرعت فيها الرياحين، كل قبر يحتضن ألوف الضحايا، شهرا شهرا وسنة سنة. والموسيقى المهيبة تملأ الفراغ في الجو وفي القلوب.
ومن جوف النغم الحزين العميق كان ينطلق ألوف الناس يؤمون هذا المكان في تؤدة، رجال ونساء وأطفال، صبايا وعجائز، جنود وأطفال، ينثرون على هذه الباقة من القبور باقة من الزهور، ويقفون أمام هذا الأصيص ويسقونه دمعة.
وانتبهنا إلى امرأة عجوز تمسك بيد طفلة. وكانت الطفلة تندفع أمامها وتجر جدتها المتثاقلة. وكانت الطفلة تحمل باقة من الزنابق الحمراء. وكانت الطفلة تقف أمام مجموعة قبور فتلقي عليها زنبقة، ثم تجر جدتها نحو مجموعة ثانية فتلقي عليها زنبقة. وكانت الجدة تخف متثاقلة وراءها. وكانت الجدة تمسح بيدها المغلقة دمعة عن هذه العين ودمعة عن هذه العين، لعل زنبقة حمراء من هذه الزنابق أن تعلق بعروة ما بقي من السترة التي أسجت فيها زوجها قبل عشرين عاماً وخمسة أعوام، فيشرق مبتسماً لها، فتشرق بالدموع.
ووضعنا على عيوننا نظارات الشمس السوداء مخافة أن يلحظ الليننجراديون أننا تعدينا على ما ليس لنا فيه قسط.
وكانت السجائر مشتعلة في أيدينا، فأطفأناها في أيدينا، وألقينا ببقاياها في جيوبنا، فما أرذل احتراق الجيوب حين تحترق القلوب.
ولما اقتربنا من تمثال آلام الوطن، ترجموا لنا أبياتا من الشعر المنقوش على قاعدة التمثال:
"هنا ترقد ألوف مؤلفة...
"من الرجال والنساء والجنود والأطفال..
"يخلدهم الجرانيت..
"ولكننا نريدكم أن تعلموا..
"أننا لن ننسى أي واحد منهم..
"وإلى الأبد..."
الجرانيت ميت، لا حياة فيه. وكذلك ميت هذا الوصف، لا حياة فيه. لا أدري اذا كان من الممكن التقاط صورة فوتوغرافية للبرق. وحتى لو كان ذلك ممكنا فلن تسجل وميضه. ألم تلاحظ، حين يومض البرق أمام عينيك، انك تنتبه إلى ما يريك مما حجب الظلام عنك أكثر من انتباهك إلى رؤية البرق نفسه.
ولكننا رأينا صورة فوتوغرافية للبرق.
ففي جانب من ساحة المدافن الرحبة، على الطرف الأيمن من مدخلها، قام بناء متواضع جمعت فيه بعض آثار الضحايا التي تدل عليهم وعلى ما قاسوه.
وحين دخلنا هذا البناء المتواضع بحلقت في عيوننا عينا طفل ممزق الثياب، ضامر العود، مثل شجرة تين منسية في حقل منهوب من حقول بلادنا، في الخامسة أو في السادسة من عمره، في شارع عام، بين أطلال وخرائب، ودخان ، وموت، في صورة فوتوغرافية كبيرة. كانت عيناه ذابلتين في ذهول . ما هذا ؟ لماذا؟ أين أذهب؟...
عيناه فقط مفتوحتان. وأما كل شيء آخر فيه فمقفل، من فمه حتى قبضتيه النحيلتين.
ما كاد هذا الصبي يتفتح على رعاية أمه، ويعرف أنه اذا ناداها مسحت بحنان كفها أوجاعه، حتى جاء هذا الشيء، الذي لا يعرف ان اسمه الحرب. فأقفل فمه عن مناداة أمه، الظالمة، التي تأبى أن تسمع، والتي تأبى أن تتحرك، والتي تأبى أن تجيب. وفي صدره سؤال أقفل فمه عليه: لماذا لا تردين يا أماه؟
واندفعت زوجتي خارج البناء المتواضع وهي تنشج. فلحقت بها: ما هذا؟ فقالت: ألا يشبه ولدنا؟
لا،لا، هؤلاء لا يشبهون أحدا. فما من أحد تحمل ما تحملوه. ولا يزالون يتحملون. ولا نزال نطلب منهم أن يتحملوا.
ولكن مرافقينا اللينينجراديين نادوا علينا أن نعود. وقالوا: انه لا يمكن أن نذهب دون أن نرى المفكرة.
أية مفكرة؟
ودخلنا البناء المتواضع ورأينا المفكرة مصونة تحت غطاء من الزجاج، حتى تبقى المفكرة.
هذه مفكرة طفلة ليننجرادية كانت في السابعة من عمرها حين كتبت هذه المفكرة الأولى على حصار ليننجراد، واسم هذه الطفلة هو تانيا سافتشيفا.
على دفتر مدرسي بال كتبت يومياتها.
كتبت؟..
تستطيعون أن تتخيلوا ما تستطيع طفلة في السابعة من عمرها أن تخط بقلمها.
على صفحة الدفتر الواحد ثلاث كلمات أو أربع كلمات، مائلة إلى أسفل، غير مستقيمة الأحرف. ولذلك تمتلئ الصفحة.
وترجموا لنا ما جاء في هذه الصفحات. ولم أجسر على تدوين ما ترجموا . ان للمكان رهبة، وان في اليد رجفة. ولكن هذه اليوميات جرت، صفحه صفحة، على ما يشبه المنوال التالي:
"اليوم ماتت جدتي"...
"في الصباح لم يستيقظ أخي الصغير"...
"اليوم حملوا صديقتي الصغيرة على زحافة"...
"علمت اليوم أن جارتنا ماتت"...
"اليوم ذهبوا بأمي النائمة ولم تعد"...
وكان آخر سطر، في آخر صفحة ، في المفكرة:
"اليوم بقيت لوحدي"...
لقد وجدوا هذه المفكرة بين الخرائب. وقالوا انهم وجدوا صاحبتها الطفلة تانيا. وحاولوا انقاذها من الجوع. ولكنها لم تعش بعد ذلك طويلا.
ولم أنتبه إلى نفسي إلا بعد أن قلت لهم: سأكتب عما شاهدت.
ولكنني في تلك الليلة لم أنم من غصات الندم. سأكتب؟ ما شاء الله! وهل أحملهم جميلة؟ وهل يقوى هذا القلم، الذي يراه صوان الجرائد، وضيقت أفقه سجون الهموم اليومية، على ترجمة ما انطفأ في العينين المشدوهتين، وما ومض في الأسطر العاتبة؟
حتى وقعت في يدي رسائل فتاة مقدسية، صبية في الثامنة عشرة من سنيها، رهينة في سجن الرملة، شبه يوميات، أو مفكرة، بعثت بها إلى والدتها، في غفلة عين.
وكانت ، في غفلة عين، كتبتها على ورق سجائر "ديجل". التي يسمح بارسالها إلى السجناء. وتوزع عليهم أربع سجائر في اليوم الواحد. ولا تنتظروا مني تفاصيل أخرى.
ان الخيال، هنا، يمتزج بالواقع حتى لا تستطيع أن تفرق الحقيقة عن الخيال. مثلما أمسينا، بعد أن أوغلنا في العمر، لا نميز بين ما وقع لنا في شبابنا وما كنا نحلم ، آنذاك، بأن يقع لنا.
وعليك أن تفترض أن حادث الفتيات المقدسيات الثلاث، اللواتي اعتقلن بتهمة تهريب السلاح أو التستر على تهريبه، وما ثار حول اعتقالهن وتعذيبهن من ضجة في الصحف وفي الرأي العام وما نشر عن حشرهن مع نسوة ساقطات، وعن اطفاء السجائر المشتعلة في أجسامهن البضة. وغير ذلك من الاهانات ومحاولات الحط من الكرامة. وما أستطيع أن أتصوره. وما أعرفه. عن أوضاع السجون، وجوع السجين في السجون إلى الحرية وإلى الكرامة الانسانية والى الطمأنينة وإلى الأصدقاء وإلى الطعام وإلى الشمس وإلى العطف، وقلق السجين في السجون على قلق الأهل عليه وخوفه عليهم من أن يقلقوا. ذلك ما أوحى إلي بفكرة هذه الرسائل، اليومياتـ المفكرة.
ولنعط الفتاة، صاحبة الرسائل اسم فيروز. ولنبدل في أسماء أحبائها الذي تذكرهم في رسائلها تبديلا.
لماذا اخترنا لها هذا الاسم ولم نختر لها اسم تانيا، مثلا؟ لأن تانيا أصغر منها سنا. ولأننا نعتقد انها ستعيش بعد ذلك طويلا. ولأن تانيا، بالذي عبر عليها أكبر منها.
واخترنا لها اسم فيروز لأن هذا الاسم يؤثر فينا، بهدأة صوته وبهدهدة ما احتواه هذا الصوت، مثل تأثير والدة على ولدها، وقد احتضنت رأسه المصدوع، وأخذت تمسح على جبينه رتيبا رتيبا، خفيفا خفيفا، حتى يذهب صداعه.
ولن أطلعكم على هذه الرسائل كاملة بل سأختار ما يحلو لي مما احتوته، وما يحز في نفسي، وما يحز في نفوسكم، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

الرسالة الأولى
"ماما الحبيبة:
لك ولكل الأهل أجمل الأماني وأطيب الدعوات. سنلتقي مرة أخرى بخير وبسرور وبانشراح وباشراق جديد.
أرجو أيتها الحبيبة أن تحافظي على صحتك وأن تهدئي من أعصابك، فقد كبرنا وصار علينا أن نتحمل مشاكلنا بأنفسنا.
ربنا يعوض تعبك علينا خيرا وسعادة فقد حملت عنا الكثير. واليوم آن الأوان أن نتحمل أفراحنا وأتراحنا.
أستحلفك بالله العزيز أن تهدئي نفسك وأعصابك. وأن تصلي لنا دونما قلق.
لا تقلقي علي ولا على وظيفتي، فهي مضمونة. اكتبوا لحسن دوما (هذا خطيبها وهو معتقل أيضا – ا . ح )
وأنت يا أختي الحبيبة اكتبي لحسن ولزوجك أيضا (وزوج أختها معتقل ايضا – ا.ح)
أنا الآن أعيش في غرفة جيدة مع بقية الفتيات العربيات ونتسلى مع بعض.
أنتم طبعا لا تعرفون أي شيء. ولكن لا تقلقوا، أرجو ارسال الأغراض التالية مع أي شخص أو مع المحامي.
1-مجلات عربية وانجليزية موجودة تحت الطاولة بجانب سريري.
2-فرشاة الشعر وشبشب بلاستيك وصابون نابلسي ومعجون أسنان.
3-الشلحات والبلوزات وكم تنورة مرتبة فيجب أن نكون في منظر جيد أمام اليهود.
4-زيت زيتون في علبة صغيرة حديد لأن الزجاج ممنوع. كل المسؤولين عنا أخلاقهم جيدة لا تخافي.
5-بطيخة صغيرة + 2 كيلو ليمون حامض + تفاح من الجيد + موز وخوخ + عنب أسود وأبيض + مخلل خيار من مطعم نظيف + زيتون في كيس.
6-دجاجة أو اثنتين مع بصل + كباب مثل الذي أحضرته الأخت وقد اشتقت اليه كثيرا. فتاة معي تريد ديك. ها. ها. ها. أرجو يا أخت أم الوليد عدم نسيان أي شيء. كل الأغراض تدخل. ولا تفهموا من هذا أننا جياع. لا تقلقوا. فنحن نقضي الوقت في الغناء وفي سرد النكت والأحاديث الحلوة.
وكثيراً ما أنظم الشعر.
وصديقة أخرى تقول ما أحلى هواء السجن، سجن الرملة، ليس مثله هواء نتانيا. فلا تقلقوا.
على فكرة كل الفتيات العربيات اللواتي معي علمتهن الصلاة وكثيرا ما نصلي للمحامي فهو يبذل مجهودا كبيرا.
أرسلوا لي رسائل حسن حتى أقرأها. نحن نصلي ونقرأ القرآن، وكثيرا ما أصلي من أجل روح والدي. كذلك أدعو لكم جميعا.
أهديكم أغنية طول ما أملي معايا والحب في قلبي.
وإلى اللقاء قريبا.
"ابنتكم"

الرسالة الثانية
"ماما الحبيبة:
الحمد لله انكم في صحة جيدة. وفرحت كثيرا حين أخبرني المحامي أنكم ستزورونني في الأسبوع القادم وتحملون الينا المآكل الفاخرة التي طلبتها. معناه رسالتي وصلت، ومعناه أن هذه الرسالة ستصل أيضا. الله يكتر من الناس الطيبين. صديقتي تقول لي أنه يوجد ملائكة حتى في جهنم.
وهي صديقة جديدة أحب أن أحدثك يا ماما عنها. فهي ليست من عندنا بل من حيفا. يعني عربية من اسرائيل. وهي معتقلة منذ حرب حزيران بدون محاكمة أيضاً وبتهمة الاتصال بالعدو. وفي هذا الأسبوع نقلوها إلى غرفتنا، التي تسمى قاووشا. فرحبنا بها وأصبحت واحدة منا كأنما نعرف بعضنا منذ الصغر.
وهي من عائلة الساري من حيفا وكانوا يسكنون في وادي الصليب أي حيث كانت عائلتك تسكن يا ماما. وتقول أن مامتها ولا شك تذكركم.
وهذه الصديقة الحيفاوية هي شاعرة مثلي – احم، احم – وصاحبة نكتة برضه – وتشاركنا في الغناء. ولكن بينما أنا أحب عبد الوهاب هي لا تفضل على فيروز أحدا. وخصوصا "راجعون، راجعون".
ونجلس حولها ونتعجب من أفكارها. فلما سألتها: ماذا يحركك في أغنية "راجعون، راجعون" وأنت لم تنزجي ولم ترجعي بل بقيت في وطنك؟ أجابتنا: وطني؟ إنني أشعر أنني لاجئة في بلاد غريبة. أنتم تحلمون بالعودة وتعيشون على هذا الحلم. أما أنا فإلى أين أعود؟
ويا حبيبتي أم الوليد هذه الصديقة الحيفاوية تعشق، مثلك. المتنبي وشعره. وحين تتحدث عن فردوسها المفقود، وعن وطنها الذي تعيش فيه ولا تشعر بوجوده، تردد أبيات المتنبي التي تعلمناها منها، وصرنا نغنيها على أنغام حوليات أم كلثوم:
مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
هل تعرفينها يا أم الوليد؟
وتقول هذه الصديقة الحيفاوية أنها لا تشعر بالوطن الا حين تجلس في الليل قبل النوم إلى جانب والدتها على الفراش، وتحدثها والدتها عما مضى من أيام حين كان اخوتها الستة في البيت. وينامون على الأرض. ويتضاحكون ويتشاجرون. وفي الصباح تصر الأم لهم الزواويد. هذا يذهب إلى عمله وهذا يذهب إلى مدرسته. واخوتها الستة تفرقوا الآن في أنحاء الدنيا، في الكويت وفي السعودية، وفي أبي ظبي، وفي بيروت، وواحد في القبر.
ولديها أيضا عن فراق أخوتها بيتا شعر، لشاعر قديم، وها هي تكتبهما الآن في هذه الرسالة بخط يدها:
قد كنت سابع سبعة لي اخوة ... لو أن شيئا يا دريم يدوم
ذهبوا بنفسي أنفسا اذا ودعوا ... فالعيش بعد مقتم مذموم
أليست أفصح منك يا أم الوليد؟
وهي تنتصر علينا جميعا حين نتبارى بالشعر مع أنني في بعض المرات، حين أعجز ، أنظم البيت المناسب. فتقول لي: مكسور، ولكن لا بأس، من أجل خاطر والدتك الحيفاوية!
وسألناها: بما أنك تعيشين في هذه البلاد، وتعرفين أكثر مما نعرف، كيف ترين المستقبل؟
فأجابتنا بلوعة: ما أن أفكر بالمستقبل حتى يتراءى لي الماضي. ماذا أقول لكن؟ ان المستقبل الذي احلم فيه هو الماضي؟ وهل هذا ممكن؟
الآن فهمت يا ماما لماذا ترفضين أن تزوري حيفا. ماما الحنونة: ألم تخافي من أن تشعري بما تشعر به هذه الفتاة الحيفاوية؟
ما كنا نعرف مشاعر اخواننا الذين بقوا.. ولا مأساتهم.. فهل هي أكبر من مأساتنا؟
على فكرة. اذا وصلت هذه الرسالة اليكم قبل أن تأتوا لزيارتنا فأرجوا أن تطبخوا الدجاج مسخنا وليس محمرا بطلب خاص من شاعرتنا الحيفاوية التي تقول أنها معنا، حتى في هذا القاووش، تشعر الآن أنها في وطنها.
ولا تنسي يا ماما الشكولاته والبسكويت المحشو العربي وملبس من صناعة نابلس في كيس نايلون من الجنس الجيد.
وأرجوا ارسال كعك بسمسم حوالي ست، وضعيهن في كيس نايلون، حتى لا يجفوا.
انتبهوا كي تكون الفواكه صلبة حتى تدوم طويلا خاصة البندورة ولأن الأكل كثيرا ما يكون جافا. ولكن لا تقلقوا.
اطلبوا من لميا أن تصنع لي حلبة وقبلاتي وقبلات الصديقة الحيفاوية لها.
أرجوا ارسال فلافل من عند عبده بعشرة قروش ومخلل وفلفل. أرسلوا بزر وقضامة، يعني مخلوطة من الحمص أوقيتين. وبرمة بفستق حلبي كيلو ضروري جدا. فنحن نفتقد الطعام والحلويات كثيرا. ولكن لا تحزنوا.
اياك يا أم الوليد أن تنسي شيئا فالنقود مع امي. خذي منها واشتري لي. أوصي عمتي وعمي بشأن زيارة حسن.
سلامي لكل السمر. سلامي لنونة الحلوة الصغيرة. وإلى حماتي وحماي الأعزاء.
هل أهديتكم في الرسالة السابقة أغنية؟ لا بأس من أن اهديكم اياها حتى ولو كان الاهداء للمرة الثانية.
أهديكم أغنية طول ما أملي معايا والحب في قلبي.
هذا ما أحاول أن أزرعه في قلب صاحبتي الحيفاوية.
وإلى اللقاء قريبا.
"ابنتكم"

الرسالة الثالثة
"ماما الحبيبة:
ولكنكم قرأتم هذه الرسالة ، كما قرأتها، في الصحف. لقد نشروها أثناء محاكمة الشرطية اليهودية التي طردوها من وظيفتها وحكموا عليها بسنة حسن سلوك حين وجدوا أنها هي التي تهرب رسائل فيروز إلى والدتها. ان الملائكة موجودون حتى في جهنم!
غير اني متأكدة أن ما نشروه مليء بالتشويهات. ان كل ما ورد في الصحف، على انه من هذه الرسالة حول "الاتفاق مع الفتاة الحيفاوية على تنظيم خلية سرية داخل اسرائيل" هو محض تشويه لصداقة بريئة بين فتاتين من شعب واحد. اجتمعتا بعد فراق طويل، تحت سقف واحد، سقف القاووش.
 
أرجو أن أكون محل ترحيب من خلال إضافتي هذه أخي الشاذلي

دمت بعز يا أغلى الناس

سأحاول أن أبحث عن بعض الإبداعات الأخرى لإميل حبيبي, و أضيفها لموضوعك يا غالي

:kiss:
 
مرثية السلطعون

ليس آت ببعيد
بل قريب ما سياتي

(عبد الله بن عبد الاعلى)

منذ أن جاورته، على المقعد الذي أكلته أسنان من سبقنا في المدرسة الابتدائية. لا أعرفه إلا بهذا اللقب – السلطعون. أما هو فكان يدعي أنه حمله معه من قريته. وأما أهله فقالوا أنه عاد به من المدينة. والحقيقة هي أن القاب ولدنتنا، مثل النكتة، لا يعرف مصدرها، ولكنها تلصق، وهمي فيها أكبر من همه. فكنت ألاحق هذه القضية. فلاحظت، فيما بعد، أن أم الولد كثيرا ما تكون البادئة باطلاقه على ولدها. فألقابنا تشف عن طباعنا. وأمهاتنا أدرى بنا.
وكنت أحسب أن لقب سرطان البحر علق به على مظهره الخارجة. فان مشيته غريبة – الكتف اليمين مندفعة إلى أمام، والقدمان منفرجتان مثل البركار المفتوح، اليمين تؤشر على اليمين، والشمال على الشمال في اصرار البوصلة، واذا أضفت إلى ذلك قامته الطويلة النحيلة، وعنقه الممطوط، لا تحتاج إلى معرفة سابقة بهذا اللقب حتى تبادره به.
ولكنني كنت مخطئاً. فلما أغرمت بصيد السمك، وتعرفت على طباع سرطان البحر، وعرفت صديقي المرحوم حريز اليقظان كما يعر السر كاتمه الأمين، أدركت أن الألقاب تتناول ما هو أعمق من المظهر الخارجي، وتعرينا. كان المرحوم، في طيبة قلبه وفي سذاجته، أشبه بسرطان البحر في سذاجته التي لا نظير لها. ولو كان العرب أهل شواطئ لاستعاضوا به عن النعامة في أمثالهم – يكون يجري مندفعا، فما أن يرى ظلاً غريباً في طريقه حتى ينقلب على ظهره وينصب فكيه استعداد للقتال، فيؤسر على أهون سبيل. ولو ظل يجري لنجا. رحمهما الله، صاحبي وسرطان البحر، ورحم كل أصحاب القلوب الطيبة، المحاربين المنقلبين على ظهورهم، الذين يزيد عددهم على عدد رمل البحر!
وفكرت مليا في العنوان الملائم لهذه المرثية، التي طلبتها مني في الأربعين على وفاة المرحوم حريز اليقظان، صديق العمر، حتى عدت إلي وأنت تقول أنك تريد مني فيها، بالاضافة إلى تعداد مناقبه، أن أفسر لأصدقائه الكثيرين كيف كنت أبتسم بل، كما اتهتموني، كنت أضحك، من دون المشيعين جميعا، وانا أسير معكم وراء جثمانه.
أما والله ما ضحكت يا أخي، وشر البلية لا يضحك. ولكنني ابتسمت لأنني وجدت، على حين غرة الجواب على السؤال الذي أقضه طول حياته. ولو كنت وجدت هذا الجواب وهو على قيد الحياة، واخبرته به لابتسم معي. وفطنت إلى طيبة سرطان البحر. فجعلته عنوانا. وستبتسم أنت أيضا، حبا وحسرة، حين تعلم عنه ما علمت.
ما هي النهاية؟ هذا هو السؤال الذي ألح عليه طول الوقت. أنتم لا تعرفونه إلا "أبا فلان". وكان لهذا الاسم هيبة في زمن الانتداب. ومن الأسماء له هيبة. وبقيتم وقتا طويلا ترجعون صدى صوته الذي انقطع. فقد أذهلته النكبة الأولى فانطوى على نفسه. ولم يبرأ كليا من هذا الذهول حتى ساعته الأخيرة. وأعجب ما في أمره أن صدمة حزيران قد ردت إليه بعض أنفاسه، مثلما تفعل الصدمة الكهربائية بمرضى الأعصاب.
وكنت أتردد عليه في بيته. فلم أقطع ما تعودنا عليه، في زمن الانتداب، من تبادل الرأي والمساره. فجلسنا ننظر حوالينا إلى شعب، بقضه وقضيته، وقد هام على وجهه في ليلة غبراء. حدثته عن البيوت التي دخلناها في حيفا فوجدنا القهوة مصبوبة في أكوابها وما وجد أصحابها وقتاً لشربها قبل الرحيل. فحدثني كيف رحل جيرانه، كأنما وباء خبيث انتشر في حارته. بدأ بالجار فانتقل إلى جاره. خلا بيت فأخلى ما حوله. وخرجت سيارة محملة بمتاع دار، فاكترى الآخرون دواب، وآخرون استدبوا أرجلهم. وبادرني بالسؤال: ما هي النهاية؟
واذكر يوماً حين عاد من زفاف أحد أقربائه في قرية بيت صفافا، في ضواحي القدس التي شقتها اتفاقية رودوس، بالأسلاك الشائكة، إلى شقين، اسرائيلي وأردني. عاد وقد استبد به هذا السؤال. قال أنهم شرفوه بأن اختاروه ليتأبط ذراع العريس، "فلا تزال في هيبة هذا الاسم بقية". وكانوا يزفون العريس في شارع القرية الوحيد. وعلى يسارهم الأسلاك الشائكة التي تحز القرية إلى قسمين. وسار العريس وحوله أقرباؤه واصحابه في القسم الاسرائيلي، بينما سار بقية أقربائه وأصحابه، يهزجون ويزفونه، إلى جانبهم من وراء الأسلاك الشائكة في القسم الاردني. وقد حافظ كل فريق على مقتضيات الامتناع الكلي عن تبادل الحديث فيما بينهما لما في ذلك من اتصال ممنوع بالعدو، هذا القريب بعدوه القريب، وذاك القريب بعدوه القريب، سوى الزغاريد التي تشق كل ما خلقه الله من أسلاك شائكة، ولا يفهمها الرقيب على القريب. فصاح: ما هي النهاية؟
في يوم آخر، حين استيقظنا على الخبر الداهم عن اعتقال عائلة الابراهيمي المعروفة، بجميع رجالها ونسائها. وهم جيرانه. فأخبرني همساً بأن ابنهم اللاجئ في الأردن عاد متسللا، واختبأ في الدغل، وأرسل في طلب أخيه، فجاءه. ثم جاءه والده. ثم جاءته أمه على رأسها طبق محمل بالدجاج المحمر. ثم جاءه أخوته واخواته، وأبناء عمه، وأخواله. فاعتقلوا جميعا. لقد أتم سرد الحكاية همساً ثم صاح: ما هي النهاية. ومط عنقه الممطوط: أريد أن أعيش حتى أرى كيف تكون النهاية.
والواقع أن سؤاله الدوام هذا كان يهز خواطري. فأبسط أمامه رؤيانا السياسية عن المستقبل الممكن الوقوع، حيث تزول أسباب الكراهية والريبة بين الشعبين فلا تبقى قضية اقليمية أو قومية الا وتنفرج عقدتها. ولا شك في أنني كنت أردد على مسامعه حقيقة الفارق ما بين مسلكه ومسلكنا. فينما هو يريد أن يعيش حتى يرى كيف تكون النهاية، نحن نريد أن نعمل من أجلها.
حتى ارتطمنا بحرب حزيران، وما بعدها. وعاد من زيارته الأولى إلى مدينة نابلس وهو أشد اقتناعا بحيرته - ما هي النهاية؟
قال: حتى أصحابك هناك لم تحتو رؤيتهم السياسية ما حدث. فهل حسبتم أنتم له أي حساب؟ لقد ناموا على حكم واستيقظوا على حكم آخر، فما هي النهاية؟
وحين عدت من زيارة رام الله للمرة الأولى بعد حزيران، والتقيت أقربائي هناك. هتف: هل دخلتها بسيارتك الاسرائيلية؟ قلت: نعم. فصاح: في سنة 1948 اضطررت إلى ترك بيتك في رام الله والمجيء إلينا، فهل تصورت، حتى في أضغاث أحلامك، هذه العودة إلى بيتك في رام الله؟ ما هي النهاية، ما هي النهاية؟
ولم أشأ أن أخبره بأنني وجدت البيت الذي سكنته في رام الله مهجورا منذ أن أخليته. وبأنني لففت حوله، وطلعت على عتبته. ونظرت من إحدى النوافذ فرأيت عنكوباً قد نسج خيوطا احتوت السقف كله. فتأملت أن يكون من بقايانا. فسألته: هل تذكرني؟ فظل ينسج خيوطه.
وقلت لصاحبي مواسيا: أتدري؟ نحن لا نتساءل عن النهاية منذ سنة 1948 فقط، بل منذ بدأنا نشترك في المظاهرات والاضرابات.
فقال: ما أبعد ما قطعنا، ولا نزال نسير فتتلوى الطريق أمامنا، وفي كل عطفة مفاجئة، وفي كل مفاجئة عثار. فما هي النهاية؟
ومنذ ذلك اليوم، في أواخر سنة 1948، حين اقتادوه مع الألوف من رجال بلده إلى الساحة العامة مستنطقينهم عن السلاح المخبوء، ولتعريف الرجال غير المرغوب فيهم، ومر مع غيره أمام رجال غطوا رؤوسهم بأكياس خيش مثقوبة للرؤية، فأشار رجال الخيش عليه وعلى المكان الذي خبأ فيه البندقية، وكان يحسب أن أحدا سواه لا يعرف مكانها، وسجنوه، وهو يرفض الاشتراك في أي عمل جماهيري. وكان يقول لي، حين كنت أجيئه مستحثا: لا يصلح العمل المجدي إلا مع ناس تأتمنهم. الحذر ضرورة، والثقة طيش. حزبك على الرأس والعين، ولكنه مفتوح، فلا أستطيع أن أبذر حياتي فيه هباء.
الآن جاء الدور على تعداد مناقب الفقيد. لقد كانت منقبته الوحيدة أنه رفض أن يكون علينا حين تهاوى الرجال مثل ذباب على جيفة، ينهشون لحومنا الطرية وهم يعتذرون: نريد أن نعيش! لقد أحجم عن العمل معنا، ولكنه رفض التفريط بما كان لاسمه من هيبة، فعاش محترما – هذه هي منقبة المرحوم حريز اليقظان التي دفعت إلى السير وراء جثمانه مئات عارفي فضله، حاملينه إلى مثواه الأخير.
وبمرور الأيام أثقلت اليقظة على صاحبنا المرحوم حريز اليقظان. وحين تبين لنا أن واحدا من جماعتنا إنما هو عميل مأجور زرع في صفوفنا، وجئته لأخفف من وقع الانكشاف عليه، بادرني مهتاجا: أرأيت؟ قلت: ففي أي مكان رأيت غير هذا، وهل استطاع المزارعون، في يوم من الأيام، أن يحرقوا ما زرعه الشعب بأكفه؟
ثم جاء ذلك اليوم الحاسم، حين زرته فلم يلقني بقهقهته المسموعة، التي لم يبق مسموعا عنه سواها. كان متجهما ويحدثني بتحفظ. وكان ساخطا ومتأففا. وما أن بادرته بحديثنا العادي، عن السياسة وما اليها، حتى أطلق جهاز الراديوم على عقيرته، وقارب أذني هامساً أنهم استدعوه أمس، وحققوا معه في حديث جرى بيني وبينه في بيته، وان ما نقلوه عنه صحيح، وأنه متأكد من أنهم زرعوا، في هذه الغرفة من بيته، آلة التقاط للصوت، فلا يصلح الكلام هنا. قلت: ولا في أي مكان آخر؟ قال: ولا في أي مكان آخر. قلت: بل يصلح الكلام الصحيح في كل مكان. قال: الحذر الحذر!
ومنذ ذلك اليوم لم يعد حديثه معي سوى همهمة. فاذا سألته رأيه في أمر أطلق من فمه حشرجة، تارة مبحوحة وتارة خشنة، على حسب المدلول الذي يريده لهذه الحشرجة. فاذا ألححت عليه رفع حاجبيه تارة، وأغمض عينيه أو فتحهما تارة أخرى. وكان علي أن أفهم من هذه الحركات والهمهمات والحشرجات رأيه في الأمر.
وفي احدى هذه الجلسات نسيت أنني حيوان ناطق فجاريته في لغة السر العميق التي اختارها امعانا في الاحتراس. فصرت أهمهم رداً على همهمته، وأرفع حاجبي فيخفض حاجبيه، فأخرج الحشرجة من فمي فيرد علي بأحسن منها. وبقينا على هذه الحال حتى اديرت القهوة، فانصرفت.
وما ناديته، بيني وبينه ، مرة إلا بلقب الطفولة – السلطعون. وكان يناديني، هو أيضاً، بلقبي. ولن أطلعك عليه لأن هذا الأمر هو مهمة من سيكتب في رثائي، اذا ما وجد. غير أنني، في زياراتي الأخيرة له أصبحت أناديه برهين المحبسين: بيته وصدره. فكان يجبني بكحة مصدورة تستغرق أكثر الوقت الذي أقضيه معه.
فالمرحوم حريز اليقظان، في أيامه الأخيرة، استعان بالخمرة على احتمال الكتمان، حتى أدمن عليها. وكان لا يخرج من بيته إلا لقضاء هذه الحاجة أو ليحملها معه إلى بيته محترسا.
حتى كان ذلك اليوم المشؤوم حين فاجأنا بحضور الاجتماع الانتخابي الأخير الذي عقدناه. وتصدر القاعة وقد نصب عنقه استعدادا للقتال. وكان واضحا أن صاحبنا قد أثمل.
وبينما كان خطيبنا في عنفوان خطابه، والتصفيق له يتابع التصفيق، وأمل الحياة يدفع إلى العمل، اذا بصوت يعلو على صوت الأكف، وعلى صوت الهتافات، يقطع كل نأمة ويذهل الحضور. كان صاحبنا المرحوم حريز اليقظان يهتف، بأعلى ما في حنجرته التي حبسها دهراً، بهتافات قومية متطرفة.
تجمعنا حوله، وأخذناه بأقصى ما استطعنا من هدوء، خارج القاعة. وذهبت معه إلى بيته حيث وضعته في الفراش وقد غاب وعيه، وكان يردد دونما رابط سؤاله المقيم: ما هي النهاية، ما هي النهاية؟ ولم أتركه حتى سمعت شخيره.
ولكنهم لم يتركوه. وتعرف كيف اعتقل في الليلة نفسها. وخرج بعد أسبوع وقد ضرب وأهين. فوقع في الفراش. ولم يخرج من بيته بعدها إلا محمولا على الخشبة.
وحين سرت مع أصحابه الكثيرين وراء جثمانه، وتطلعت إلى فوق حيث كان محمولا على الأكف، سقطت على رأسي تفاحة نيوتن فوجدت الجواب على السؤال الذي أقضه طول عمره: ما هي النهاية؟ فتبسمت.
هذه هي النهاية، يا صاحبي. نهاية الذي لا يتلفت حوله بل يتلفت إلى داخله. فلا يرى حوله سوى الظلال الغريبة، فينقلب على ظهره وينصب فكيه للقتال. أيهما تفاتل: نفسك أم ظلالك؟
وبعد أن وارينا جثمانه في مثواه الأخير، وترحمنا على نفسه الطاهرة، عدنا إلى أعمالنا نجمع الرجال مع الرجال لنوسع في الظلال التي يتفيأ بها حاثو الخطو نحو ما سيأتي.
 
أعلى