الحكم العطائية شرح الشيخ سعيد رمضان البوطي

s.sabry

كبار الشخصيات
إنضم
3 أفريل 2008
المشاركات
6.183
مستوى التفاعل
23.778
" الحكم العطائية، شرح و تحليل" لشيخنا الجليل المتواضع إلى ربه، محمد سعيد رمضان البوطي، غفر الله له، و أبقاه نبراسا للأمة، و جعل كل علمه خالصا، في ميزان حسناته، و رزقه الله الفردوس الأعلى، آمين، و هذا الكتاب هو شرح لحكم قمة في البلاغة، قمة في وصول هدفها، صغيرة، و لكن معبرة، و فيها ما يحتاجه القلب للحياة، و النفس للسمو.

التعريف بابن عطاء الله
السكندري، هو الإمام تاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري المالكي، المتوفى سنة 709 للهجرة و كان إذا جلس للوعظ سرى كلامه في النفوس و أثر فيها تأثيرا، أما حكمه فقد قيل عنها " لو جازت الصلاة بشيء غير القرآن، لجازت بحكم ابن عطاء الله

و الحكم هي مجموعة من الكلام البليغ الجامع مستقاة
من الكتاب و السنة وما تحصلت عليه ثلاثة عشر حكمة فقط .


الحكمةالأولى: من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند وجود الزلل

الحكمةالثانية: إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة
الخفية، و إرادتكالأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية

الحكمةالثالثة: سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار

الحكمةالرابعة: أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك

الحكمةالخامسة: اجتهادك فيما ضُمن لك، و تقصيرك فيما طُلب منك، دليل على انطماس البصيرةمنك

الحكمةالسادسة:لا يكن أمد تأخر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك، فهو ضمن لكالاستجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، و في الوقت الذي يريد لا في الوقتالذي تريد

الحكمةالسابعة: لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود و إن تعين زمنه، لئلا يكون ذلك قدحاًفي بصيرتك و إخماداً لنور سريرتك

الحكمةالثامنة: إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها إن قل عملك. فإنه ما فتحها لكإلا و هو يريد أن يتعرف عليك. ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك و الأعمال أنتمهديها إليه، و أين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك

الحكمةالتاسعة: تنوعت أجناس الأعمال بتنوع واردات الأحوال

الحكمةالعاشرة: الأعمال صور قائمة، و أرواحها وجود سر الإخلاص فيها

الحكمةالحادية عشر: ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتمنتاجه

الحكمةالثانية عشر: ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة

الحكمةالثالثة عشر: كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ ‏أم كيف يرحل إلى الله وهومكبل بشهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته‏؟ ‏أمكيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته‏؟

كيفية عرض الموضوع سيكون متسلسل يعني في كل مرة نعرض حكمة وبالله التوفيق.
طبعا الموضوع منقول

الحكمة الأولى
من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند وجود الزلل
شرح الحكمة:

يقول ابن
عطاء الله: "إياك أن تعتمد في رضا الله عنك و في الجزاء الذي وعدك على عمل قد فعلته، بل اعتمد على لطف الله و فضله و كرمه" وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري ( " لن ُيدخل أحدكم الجنةَ عمله" قالوا: و لا أنت يا رسول الله، قال " و لا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته"). فالحديث يبين أنالعمل ليس ثمنا للجنة. و من بين أبرز دلائل اعتمادنا على أعمالنا هو نقصان رجائنا في عفوه تعالى لما يقل عملنا و تكثر ذنوبنا.

هنا نطرح
سؤالا: هل نستحق الجنة بعرق جبيننا أي بالعبادات و الطاعات التي نقوم بها ؟
الجواب هو لا، ذلك أننا إن قلنا كذلك كأننا نقول أن الله رصد ثمن الجنة
عباداتنا و طاعاتنا، و من ثم إن قمت بواجبي على أحسن ما يرام أكون مستحقا لقبضالمبلغ...و هذا مما لا يجوز ذلك أنه منطقتعامل العبدمع أخيه العبد، أما تعامل العبد مع ربه، فلا يصح أبدا،لأن الله هو مالك كلشيء و هو من وفقنا لأداء تلك العبادات و الطاعات، قال تعالى(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّواعَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِإِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)الحجرات:17.

فالعمل ليس بقدرة ذاتية، فقط تذكر حين تقول " لا حول و لا قوة
إلا بالله" فلا حول من المعاصي و لا قوة على الطاعات إلا بالله عز و جل.

إذن فما معنى قوله تعالى
(ادْخُلُواْالْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)النحل:32؟
و الجواب على ذلك:
1- أن الكلام هو من طرف واحد هو الله و ليس من طرفين متعاقدين
2- جعل اللهالعمل سببا لدخول الجنة تفضلا منه و إحسانا
فالواجب أن نقوم بما أمرنا الله به و نطمع في كرمه عز و جل و عفوه

و قد يسأل سائل
: لماذا إذن نعبد الله مادامت رحمته هي ما تدخل الجنة؟

و الجواب أن
العبادة حق الله على عبيده، و الجنة منحة و عطية منه عز و جل، قال تعالى(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِين َيَتَّقُونَ)الأعراف:156. و هذا مغزى العبودية، أن تؤدي العبادة على حقها ثم تتقمص دور المتسول الذي يسأل الجود و الإحسان من أهله.

و عودة إلى
الحكمة...
فالمغزى العام منها ألا تعتمد على العمل حينما توفق إليه و ألا يقلالرجاء عند التقصير، ففي كلتي الحالتين نتطلع إلى جود الله و كرمه بقدر ما نخاف مقته و عقابه، و من ثم ينبغي أن يكون شعوران يتجاذبان أبدا، شعور الأمل في فضل اللهو عفوه و هو الرجاء، و شعور الخجل و الخوف من غضبه.

إذن، كيف لا ينقص رجائي؟

ادخل باب التوبة، فلا رجاء و أنت مصر على المعصية. والتوبة تجعل الرجاء في نفس العاصي مزدهرا...

و
احذر أخيرا...
أن يزداد رجاؤك كلما زدت إقبالا على الله، فذلك كذلك منعلامة اعتمادك على عملك، فإنك إن فعلت قد يصل بك ذلك إلى أن تزداد ثقة بمثوبة اللهعز و جل فيأتي يوم و تجزم أنك من أصحاب الجنة، و السبيل للابتعاد عن هذا المنزلق أنتتذكر أن حقوق الله على العباد لا تؤدى بالطاعات مهما كثرت، بل هي باقية.

و
خلاصة الحكمة، أن المسلم يجب أن يعبد الله لأنه عبده و لأن الله ربه، و لا ينتظرمقابل عبادته الجنة فإنما هي منحة و تفضل منه عز و جل و نقول كما قال الشاعر:
فإن يثبنا فبمحض الفضل....و إن يعذب فبمحض العدل

يتبع
 
الحكمةالثانية:
إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، و إرادتكالأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية


شرح الحكمة
:

هذه الحكمة تدور
على شيئين: الأسباب و التجريد
فالإنسان هو بين الحالتين:

1- حالة الأسباب:فيجد الإنسان نفسه متقلبا في سلطان الأسباب لا مناص له من التعامل مع أسباب يتعامل معها و يتحرك فيها
2- حالة التجريد: أي أنالإنسان يجد نفسه معزولا عن سلطة الأسباب، فتكون بعيدة منه و عن المناخ الذي أقامه الله فيه.

و من ثم فالإنسان يجب أن يتعرف على حالته، و يتعامل معها، فلا
يعمل هواه !

و لنأخذ أمثلة لفهم الحكمة
:
1- رب أسرة:فهو في حالة الأسباب، و هيالبحث عن الرزق لأولاده، فإن قال أنا لي اليقين في قوله تعالى(فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ)العنكبوت: 17، وأن الأسباب المادية هي من الله، و من ثم أنقطع للعبادة و التسبيح و لا أبحث عنالرزق، فذاك من الشهوة الخفية الغير معلنة، و هو في ذلك يتعامل مع الأسباب لا معالمسبب، و ذلك من سوء الأدب مع الله عز و جل ! فالعمل الصالح لا يقتصر على العبادة،فمثل حال رب الأسرة، التبسم في وجه زوجته و أولاده، و تربيتهم و البحث عن الرزق من أجلهم هو من العبادة إن استقامت النية و أريد بها وجه الله.
2- طالب علم:فهو في عالم التجريد،فالله قد أقام له من بتكلف برزقه، فإن كان يركن إلى الدعة و الكسل و يشرب و يأكل وينام فهو بعيش عيشة البهائم، و إن كان القصد دراسة دين الله و خدمة شرائعه، فهذا نهج سليم و علامة النفوس العلية و الهمم السامية.

3- الحج:ناس توجهوا حجاجا إلى بيت اللهالحرام، فمنهم المتحررون من كل القيود، المتفرغون للعبادة فقط فهؤلاء قد أقامهم الله في عالم التجريد، و آخرون يسهرون على راحة الطائفة الأولى كالأطباء مثلا فهم في حالة الأسباب أقامهم الله فيها في فترة الحج، فإن أهمل طبيب مهمته الأساسية فقد أهمل الوضع الذي أقامه الله فيه و كان إنسانا عابثا بنظام هديه عز و جل.
4- رجل يعمل و يكد في البحث عن رزقه طوال اليوم، فهو في عالم الأسباب، و عندما يرجعإلى بيته في المساء، فهو يقبل على الاستزادة من العلم، و على الطاعات، فهو في عالم التجريد.

و هكذا من الحكمة نستنتج أن
العملالصالح هو:

-لمن أقيم في عالم التجريد، طلب
علم، و طاعات و دراسة دين الله.
-لمن أقيم في عالم الأسباب، يتمثل في خدمة أمته، و الإخلاص في أداء مهمته.

لكن
...
لا ننسى أن هناك طاعات يشترك فيها كل الفئات

يتبع
 
الحكمةالثالثة:
سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار

شرح الحكمة
:

هذه حكمة تتمم الحكمة التي قبلها
...

الهمم هي العزائم التي يمتع الله بها في مجال الإقبال على
شؤونهم الحياتية، و مهما اشتدت و قويت هذه العزائم فإنها لا تخرق أسوار الأقدار...

هذه الحكمة تثير
مسألة القضاء و القدر.

و لنعرف بدءا القضاء و القدر
:
فالقضاء هو علم الله الأزلي بكل ما يجري في المستقبل.
والقدر هو وقوع الأشياء طبقا لهذا العلم الأزلي.

و هذان المعنيان (أي
القضاء و القدر) منها ما يقعدون أن يكون للإرادةالإنسانية دخلكالموت و المصائب و الأمراض و العاهات،و منها ما يقع على إثر إرادة و قصد من الإنسانكالدراسةو التجارة و الزراعة.

و كلا النوعين هما في علم الله، و يخضعان لقضاء الله
و قدره، و هذه الحكمة تجيب على من يعكف على سبب من أسباب الرزق في عمل غير مشروع، ويحتج أن الله أقامه في عالم الأسباب و أن عليه السعي للبحث عن الرزق، فتأتي هذهالحكمة لتقول لهذا الشخص أن رزقه كثيرا كان أم قليلا، فإنه مكتوب في علم الله، قالتعالى(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِالْمَتِينُ)الذاريات: 58 و في آية أخرى(فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ)العنكبوت:17، وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه(إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكونعلقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمربأربع كلمات: بكتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد(…

و هنا قد يسأل سائل: إن كان الرزق مسطرا في علم الله ففيم السعي
وراءه إذن و لماذا نتعامل مع الأسباب؟؟
و الجواب لأن الله عز و جلأقامنا في خضم الأسباب و أمرنا بالتعامل معها مع اليقين أن الفاعلية (النتيجة) هيتبع لإرادة الله و حكمه، و كل القوانين و الأنظمة الكونية إنما هي من تدبير الله عزو جل، فانظر إلى الآيات التالية)اللّهُ لاَ إِلَـهَإِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)البقرة: 255، و قوله عز و جل(وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُبِأَمْرِهِ)الروم: 25، و قوله أيضا )إِنَّاللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْأَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)فاطر:41.
فهذه الآيات تبين أن الأسباب إنما تستمد فاعليتها و نتيجتها من الله
عز و جل.

ثم قد يسأل السائل، ففيم إذن التعامل مع
الأسباب؟ لماذا نجلس فننتظر حكم الله و سلطانه؟؟
و الجواب أن التعامل معالله يكون بالانسجام مع أوامره و التعامل مع نظامه، فإن جعنا نأكل، و إن مرضنانتداوى، و إن ظمئنا نشرب، و مع كل هذا لا فاعلية إلا لله، و لا تأثير إلا بحكم الله . و انظر إلى قصة السيدة مريم العذراء حين أنبت الله لها التمر في غير ميعاده وأسقطها في حجرها لكن الله سبحانه أمرها بهز جذع النخلة (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِالنَّخْلَةِ) مريم:25، فقد أمرها بالقيام بوظيفة التعامل مع الأسباب، و هي هز جذعالنخلة، و تكلف الله برزقها.

أما
الأثرالتربويحين تتعامل شرعيا مع الأسباب، فهواليقينالذي يملأ قليك، و لسانك الذي سيكون دائما في حالة شكر و حمد و ثناء عليه عزو جل، و تزداد ثقتك بالله و الطمأنينة إلى قضائه و قدره.
هكذا إذن يكون المسلم، يتعامل مع الأسباب مع اليقين التام في الله و قضائه و قدره، تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم (...استعن بالله و لا تعجز، و إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، و لكن قل قدر الله و ما شاء فعل)

يتبع



 
موضوع رائع أخي و أرجو من الاخوة قرائته و الاستفادة منه
انشاء الله
 
:besmellah1:

السلام عليكم ورحمت الله وبركات
وفق الله
كل من همه الاسلام والمسلمين
بارك الله فيك
و
جزاك الخير كله
ونفع بك
الاسلام والمسلمين

170583_o.jpg
 
الحكمةالرابعة:
أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك


شرح الحكمة
:

هذه حكمة متممة
للحكمتين السابقتين و تصب كذلك في مسائل القضاء و القدر.

إن رجعنا إلى
الحكمة الثانية التي تدعو إلى التعامل مع الأسباب، إن نحن أٌقمنا في عالم الأسباب،فإن هذه الحكمة توحي في البدء أنها تدعو إلى عكس ذلك، حين تدعو إلى إراحة النفس من هم التدبير...

و الواقع أن لا فرق بينهما
فالتعامل مع الأسباب هوجهد عضلي مادي يبذله المتعامل معها، والتدبير هو عمل فكري و قرار عقلي و معناه أن الإنسان يتعامل مع الأسباب بالخطط و النتائج و العمليات الحسابية، و أن عقله هو مفتاح النجاح...و هذا هو نهج المسلم يتعامل مع الأسباب و يقبل إليها إقبالا شديدا و لايأل جهدا في ذلك و في نفس الوقت يستسلم موقنا بقضاء الله و يرضى بحكمه...

و انظر إلى قدوتنا سيد الخلق أجمعين و حبيبنا
محمد صلى الله عليه و سلم في الهجرة النبوية و قد أعد كل الأسباب المادية لنجاح هجرته (خرج متخفيا، و أمر عليا كرم الله وجهه أن يبيت في فراشه، و سلك طريقا مخالفا، و أمر راعي أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن يسير بغنمه كي تمحو الآثار، واختار دليلا خبيرا ) ثم كان هناك تدبير الله عز و جل لما وصل المشركون إلى غار ثورو حينها همس النبي صلى الله عليه و سلم إلى صاحبه "ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، وكذا لما أدركهما سراقة، فحماه الله منه، و انغرست حوافر الخيل في رمال الصحراء. فالنبي صلى الله عليه و سلم مارس الأسباب و تعامل خضوعا لأمر الله و انسجاما معالنظام الكوني الذي أقامه الله عز و جل، ثم نسي الأسباب و قيمنها، و ربط النتائج في يقينه الاعتقادي بحكم الله و لطفه مع ثقته التامة بحكمته و رحمته و توفيقه.

لكن، و هذا هو مربط الفرس
...
هلنستطيع أن نخضع شعورنا و سلوكنا لهذه الحكمة ؟؟
و الجواب أنه ليس من اليسير فعل ذلك، لأن الإنسان بطبعه ميال إلى وضع نفسه وضع المدبر و الذي ينتظرنتائجه وفقا لما خطط له، فإن فشل في ذلك أصابه القلق و ضعف إيمانه و أثر ذلك علىعبادته لله عز و جل...

فما علاج ذلك، و ما السبيل
إلى التفاعل العملي مع هذه الحكمة؟؟

إليكم هذه النقاط المعالجة إن شاء
الله:
- الاكثار من ذكر الله
- ربط النعم بالمنعم عز و جل
- التزام ورد من القرآن بتدبر و تأمل
- البعد عن الفواحش والمعاصي

و هذا العلاج ينمي إن شاء الله في المرء محبة الله و يزيده ثقة في حكمة الله و رحمته و لطفه.


يتبع
 
:besmellah1:

أولا أشكرك أخي الكريم على هذه الباقة الحكمية (بكسر الحاء) الزكية والمباركة.. ثم اسمح لي ثانيا أن أبدي تأثري الشديد بها كيف لا ومصدرها الكتاب والسنة والهدف منها انساني فهي تضرب الأمثال وتنبه الانسان وتنير له طريقه وتدله على ما فيه صلاح نفسه.. نسأل الله أن ينفعنا بها..
 
الحكمةالخامسة:
اجتهادك فيما ضُمن لك، و تقصيرك فيما طُلب منك،
دليل على انطماس البصيرةمنك


شرح الحكمة
:

نبدأ في شرح الحكمة
بقول الله تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَإِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنيُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)الذاريات: 56-58
ثم قوله تعالى
(وَأْمُرْ أَهْلَكَبِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَوَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)طه: 132

تبين الآيتان نقطتين مهمتين
:
1-الإنسان مطالب بممارسة العبودية لله عز و جل بسلوك اختياري لأنه خُلق عبداً بالواقع الاضطراري.
2- الله ضمن للعبد مقوماتحياته و رغد عيشه.

فابن عطاء الله السكندري يقول أنه إذا انصرف
الإنسان إلى إرهاق نفسه فيما ضمن الله له من رزق، فذاك يدل علىعدم الثقة بوعد الله.
إن مما يجبعلمه هو أنه ما من مخلوق إلا و أقامه الله تعالى على وظيفة(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّهَدَى)طه:50.

و الإنسان ليس استثناء من هذه القاعدة، لكن الفرق
بينه و بين سائر المخلوقات أنها تمارس وظيفتها بالقهر و الاضطرار و الغريزة، أما هوحر ذو إرادة، لكنه قد يستعمل حريته للتمرد على الله عز و جل، و على الوظيفة التي أقامه الله فيها، فيشرد عنها و لا يقوم بها.

لكن
أي وظيفة أقام الله فيها الإنسان؟
و الجواب هو عمارة الأرض التي أحياه الله فيها على النحو الذي بينه الله له، و ذلك بتحقيق شيئين اثنين:
-ممارسة العبودية لله.
-عمارة الأرض على وجه سليم بإسعادالناس.

و لتحقيق ذلك فإن الله ضمن للإنسان مقومات عيشه و أدار الكون
لخدمته، لكن الإنسان يعرض عن هذه الوظيفة و يتمرد عليها، و من مظاهر هذا التمرد مثلا:
-أن يهمل المرء أسرته مدعيا ألا وقت له لرعايتهم و تربيتهم(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَانَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)طه: 132
-أن ينصرف إلى اللهو و يعرض عن العمل الصالح، و ينسى قوله تعالى(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَاكَانُواْ يَعْمَلُونَ)النحل: 97
-أن يطلب النصرة من أسباب خارجية غيرالله و ينسى قوله تعالى(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَآمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِكَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُالَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناًيَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَفَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)النور: 55

فما عاقبة تخلي المسلمين عن وظيفتهم؟

النتيجة بكل بساطة، ذل و هوان...هكذا نطقها سيدنا عمر رضي الله عنه:"نحنقوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العز بغير ما أعزنا الله به أذلناالله". فالرعيل الأول حين صدق الله و قام بوظيفته على أحسن حال، أنجز الله وعده و نصرهم على قوتين كبيرتين آنذاك عما الروم والفرس. لقد نطق عمر رضي الله عنه كلمته و هو فاتح بيت المقدس و هم لا يكادون يعرفونه و هو لابس خرقة بها 12 رقعة، فأراد بذلك أن يقول أن المسلمين و إن كانوا مفتقرين إلى أدنى مقومات النصر المادية، فإن الوعد الإلهي أُنجز لأنهم صدقوا الله وقاموا بوظيفتهم على أكمل وجه.

وقد يسأل سائل: ألا
يتعارض ما قيل مع الحكمة الثانية التي تدعو إلى التعامل مع الأسباب؟؟
والجواب أن التعامل مع الأسباب ضروري شرط ألا يصرفه ذلك عن القيام بواجباته الدينية من صلاة جماعة و ورد و تربية الأولاد. فالفرد عليه الإقبال على الواجبات الدينية التي كلفه الله بها، و في نفس الوقت يقبل على دنياه و يكسب رزقه تلبية لأمر الله بالسعي إليه، فهو مُثاب على ذلك، تحقيقا لقول الله تعالى(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِيمَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)الملك: 15

بقيت الإشارة أخيراً إلى أن هذه الضمانة و الوعد الإلهي لمن أقام بوظيفته على أحسن وجه، هو صالح كذلك للمجتمعات، و التاريخ خير شاهد لما تمسك الرعيل الأول بدينه، ثم لا يسع إلا أن ينظر المرء إلى خال أمته لما أخلن بوظيفتها
(فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)إبراهيم: 13-14
 
الحكمةالسادسة:
لا يكن أمد تأخر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك،
فهو ضمن لكالاستجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك،
و في الوقت الذي يريد لا في الوقتالذي تريد

شرح الحكمة
:

ما هو الدعاء؟ و ما الفرق بينه و بين الطلب؟


الطلب هو وصف للفظ ينطق به الطالب،
أما الدعاء فهي حالة نفسية تعتري الطالب، فيسمى طلبه دعاء، و هذه الحالة النفسية تتحقق بشيئين:
1- يقظة القلب و المشاعر:و ذلك بإظهار مظاهر التذلل والانكسار، فالدعاء يجب أن يُفهم أنه ليس بطقس ديني يُمارس بشكل اعتيادي، و إنما يجب إظهار مشاعر الافتقار إلى الله عز و جل، و هذا هو المقصود. و ليست العبرة بحفظ ورقات من "الأدعية المستجابة " و سردها، فإن لم يُستجب له، أبدى العتاب بقوله أنه دعا و لم يستجب الله له و قد قال رب العزة(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)غافر:60
2- التوبة إلى الله:و هي توبة من المعاصي و تكون نصوحة،متجددة، و يقدمها شفيعا بين يدي دعائه. و لنضرب في ذلك مثلا، و لله المثل الأعلى:
- تخيل نفسك أمام مديرك في العمل، و طلبت منه علاوة أو إذنا بالخروج، أو شيئا من هذا القبيل، مع أنه يعلم أنك لا تقوم بعملك على أحسن حال و تغش فيه و تأتي متأخرا إلى عملك، فهل سيستجيب لطلباتك؟
- ثم إننا في بعض المرات ندعو مع أنفسنا فيستجيب لنا الله بفضله، و ندعو مع غيرنا أو الأمة فلا يُستجاب لنا. ذلك أن هذاالشرط مفقودٌ في الأمة، أمة تائهة، ملأى بالعصاة و المستكبرين، فأنى يُستجاب لها وهذا مصداق قوله صلى الله عليه و سلم(إن الله تعالىطيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا " و قالتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَارَزَقْنَاكُمْ"ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يارب. ومطعمه ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب له)رواه مسلم
فإن حققت شرطي الدعاء، كانت استجابة دعائك محققة بإذن الله.

لكن ما معنى الاستجابة؟

الاستجابة تكون للهدف و ليس بالوسيلة التي تراها أنت أو كما قال ابن عطاء الله "فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك " فالله هو عالم غيب السماوات والأرض و يعلم مكمن الخير، فقد يكون ما طلبته و إن ظننت أن به الخير، فهو ينطوي علىشر و هذا معنى قوله تعالى(وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْشَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّلَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)البقرة:216. وهذا هو خطأ الإنسان الأول في الدعاء حين يظن الخير فقط فيما يدعو إليه بالحرف.

أما
الخطأ الثاني في الدعاء فهو الاستعجال فيه، و مرد هذا الخطأ أننا نعتقد أن الدعاء هو وسيلة و ليست غاية في حد ذاته. فالدعاء هو أصلا عبادة، وبالتالي فهو غاية، و هي مظهر لاحتياجنا لربنا، فالإنسان عبد مملوك لربه، و هو محتاج في أي لحظة لسيده، و الأصل في الأمر أن يبقى هذا التذلل و الانكسار مظهرا دائما ملازما لنا نجدد به عبوديتنا لله عز و جل.
و هنا قد يسأل سائل: ما معنى قوله تعالى(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)غافر:60 ؟
و الجواب أن كلمة(ادعوني)هو أمر مطلق غير مرتبط بحالة معينة، بل هي حالة دائمة رخاء أو شدة، و ليست مرتبطة بشرط، أما الإجابة إنما هي تفضل من الله و كرم منه، و ليست ثمنا لدعائه، و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم(يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول قد دعوتُ فلم يستجبلي)رواه الشيخان و أبو داود و الترمذي و ابن ماجه. و لعل ذلك من حكمة الله عز و جل أن يتأخر في الاستجابة كي يرى تذلل عبده بين يديه، و هذا مصداق قوله صلىالله عليه و سلم(الدعاء هو العبادة)رواهالبخاري و أحمد و ابن حبان و الحاكم

و من ثم فهذا السلوك، أي سلوك الافتقار
و إعلان الذل و الانكسار يجب أن يلتزم به المسلم دائما مع ثقته طبعا في كرمه عز وجل

يتبع
 
أعلى