• كل المواضيع تعبّر عن رأي صاحبها فقط و ادارة المنتدى غير مسؤولة عن محتوياتها

ويبقى الكلب...كلبا

trouka5000

عضو مميز
عضو قيم
إنضم
3 أوت 2008
المشاركات
880
مستوى التفاعل
3.757

في ما مضى.
أيام كان النهب والسّلب, والغارات والغزوات.
قيل أن قبيلة كانت تحطّ في سفح خصب حيث المرعى الشاسع والكلأ الكثير. وكانت الخيام تنتشر في أرجاء المكان, تظلّل أصحابها وتحميهم حرّ الشمس وقرّ الشتاء. وكان لسيد القبيلة كلب تدعى" براقش", هي رمز للوفاء ومثل الحارس الأمين.
كانت" براقش" عزيزة على الكلّ. يحبها الجميع, ويضرب بها المثل في الفطنة. حتى أنها لا تترك شاة شاردة حتى ترجعها لقطيعها, ولا تضيع عنها آثار أقدام طفل ابتعد عن الديار ولم يعثروا عليه.
كانت تشارك الأطفال لعبهم, وتتبع الكبار في رحلاتهم, وترافق النساء إلى غدير الماء وعند جمع الحطب.
"براقش", لم تشتكي يوما من تعب أو مرض, لم تشكو لسيدها قسوة الصغار عليها في بعض الأحيان. لا تطلب الأكل ولو كانت تتضوّر جوعا حتى يوضع لها, لا تخذل أبدا من يناديها, ولا تغضب ممن ينهرها.
وقد قال أحدهم يوما لابنه يؤنّبه:
- كم تمنيت لو صادقت "براقش", وتعلمت منها.
وقال سيد القبيلة يمجّدها:
- لولاها لضاعت القبيلة من زمن.
وصارت " براقش" أشهر من نار على علم, حتى وصل صيتها القبائل القريبة, وحتى البعيدة منها, وأضحت مضرب الأمثال.
- علّم صغيرك على الصبر حتى يصير كـ" براقش".
- كن وفيّا كـ"براقش".
- ذاك فطن كـ"براقش".
وذات يوم سمعت القبيلة أن جيشا جرّارا من قاطعي الطريق يتجه صوبها لغزوها, ونهب كل ثمين, وسبي ذات الجمال.
ولما كان الرجال غير مستعدين للقتال, تشاوروا واتفقوا أن يبتعدوا عن ذلك المكان حتى يتّقوا شرّ القادمين.
ومن حينها اقتلعت الأوتاد وطُوِيت الخيام وأطفِئت النيران. وسيقت الإبل والأغنام, ورحلوا. غير أن الليل حين داهمهم لم يستطيعوا الإبتعاد كثيرا فقرروا أن يبيتوا حتى الصباح.
وبخبرة البدوي أطفؤوا كلّ نار حتى لا يكتشفهم العدوّ.
وقدم الغزاة فلم يجدوا أثرا للقبيلة. داروا في كل مكان فلم يعثروا إلا على بعض آثار قد محتها الرياح.
ولما يئسوا رحلوا خائبين.
اطمأن رجال القبيلة لما ابتعدت سنابك الخيل. لكن "براقش", الكلب الوفي, نبحت لم أحست باقتراب ذئب صوب الديار, وعلا نباحها حتى بدّد صمت الليل ووصل إلى فرسان الليل, فأداروا لجام خيولهم وتتبّعوا الصوت حتى وقعوا على الخيام منصوبة تحت كثيب من الرمل, فأعملوا سيوفهم في الرجال الغافلين, وأشعلوا النار في كل مكان, وغنموا وقتّلوا وسبوا, ودمّروا القبيلة بأكملها.
وقد تمتم سيد القبيلة والسيف يحزّ رقبته:
- ويبقى الكلب كلبا.
*** *** *** ***
في زمن ربما يأتي.
وفي يوم لم يصل بعد.
رأى عمار في منامه أنه اشترى كلبا من غريب رآه مرة ولم يره بعدها أبدا. ففرحت به الزوجة أيّما فرح, وسعد لوجوده ابنيه. حتى أنهما بقيا مدة يتنافسان في اختيار اسم له.
- فلنسمّه " فوكس".
صاحت البنت في سعادة, فمطّ أخوها شفته وسخر منها.
- "فوكس"؟! ما أبشع هذا الإسم وما أحقره.
- مارأيك إذن بـ"لاسي"؟
- اسم قديم لا معنى له.
ثم فكّر قليلا وهتف:
- "بوبي"..أليس جميلا يا أختاه هذا الإسم؟
نغنغت الأخت, وضربت برجليها الأرض معترضة.
-"بوبي" كلب ابن الجيران, ولا يجب أن نقلّده.
وهنا تدخّل الأب باسما وهو يهدّأ من روعيهما, وحاسما الخلاف.
- لقد رجاني صاحبه ألاّ أغيّر اسمه. وقد وعدته.
صاحا الإثنين:
- وما هو؟
- " برقش".
لوّح الإبن بيده في الهواء, وهمس متعجبا:
-" برقش"؟!
ثم غرق وأخته في ضحك طفولي, فأسكتهما الأب بحركة من يده, وقال:
- مهما كان الإسم غريبا ومضحكا, فقد وعدت ألاّ أناديه بغيره.
وعاش الكلب مدة مع العائلة كواحد منهم. يلعب مع الصغار نهارا ويحرس البيت ليلا. حتى كان ذلك اليوم الذي سمع فيه الأب عواء متقطّعا أمام الباب, فقفز من سريره يستوضح الأمر, فوجد "برقش" قابعا وهو يتألم. نظر عسى يكون هناك من اقتحم سور المنزل فلم يلحظ ما يثيره, فابتسم وهمّ بالدخول.
لكن صوت أجشّ استوقفه:
- لم أظنّ أنك ستتجاهلني, ولا تسأل عني وأنا حارسكم الأمين.
وقف شعر رأسه لما سمع الكلب يتحدث. ارتعشت فرائصه وخارت قواه.
- أتخاف كلبا نطق؟ ألا تسأل عما تركه يتكلّم؟
-.................................................
- قد خدمكم أجدادي العمر كله, حرسوا بيوتكم في برد الشتاء وحر الصيف وأنتم تهنؤون بالنوم والفراش الوثير. صدقوا معكم فلم يخدعوكم. احتملوا منكم الأذيّة والإهانة, وقابلوها بالوفاء والطاعة. وحين يشيخ الواحد منهم تلفظونه وترمون به إلى الشارع. ولأنه صاحب عشرة يعود إليكم ويرفض غيركم سيدا. ولأنكم أغبياء لا تعون ما يكنّه لكم من حبّ تدسّون له السمّ في الطعام, أو تعلموا عنه رجال الأمن ليفرغون في رأسه رصاصة أو رصاصتين.
-...............................................
- قد ولّى ذاك الوقت وحلّ هذا الزمان الذي لابدّ أن نتحرّر فيه من عبوديتنا منكم ونؤسّس لنا ذاتا تعي بأن البشر غير جديرين بنا, فطبعكم الغدر وطبعنا الوفاء.
ثم ابتعد الكلب عن سيده خطوات نحو الظلمة ثم تراجع وعاد إليه, وهمس له:
- قبل أن أرحل أحبّ أن أهمس لك بسرّ في أذنك.
تقدم منه الرجل والدهشة مازالت تغلّفه, وهو يردّد بصوت مرتجف:
- أيكون قد لبسه شيطان؟
أومأ له "برقش" أن ينزل قليلا حتى يصل له كلامه. فانحنى حتى صار في مستواه. فاقترب منه الكلب حتى وصله, وأطبق فكّيه على أذنه ونهشها, ثم فرّ هاربا وهو يعوي ويقول.
- اليوم سيبدأ جيل جديد من الكلاب, يكون سيد نفسه.
ورحل تاركا الرجل يتلوّى من الألم, ويصرّ على أسنانه ويصيح:
- ويبقى الكلب كلبا.
بقلمي: طـــــارق

 
يعطيك الصحة على هالقلم خويا طارق
ننتظر جديدك دائما
و شكرا لتواجدك معنا
 
أعلى