الـرقــاق

AlHawa

نجم المنتدى
إنضم
31 ديسمبر 2006
المشاركات
5.429
مستوى التفاعل
10.744
الرقاق

بقلم : عبدالله بارشيد

مفهوم الرقاق وأهميته التربوية



مفهوم الرقاق :

أولاً / معنى الرقاق في اللغة .

لغة : الرقاق و الرقائق جمع رقيقة ، و الرقيق نقيض الغليظ و الثخين و الرقة ضد الغلظة . كما جاء في الحديث (( أهل اليمن هم أرق أفئدة )) ([1])، أي ألين و أقبل للموعظة ([2]).

قال الراغب : " متى كانت الرقة في الجسم فضدها الصفاقة كثوب رقيق و ثوب صفيق و متى كانت في قلب فضدها القسوة كرقيق القلب و قاسي القلب " ([3])، و سميت هذه الأحاديث بأحاديث الرقاق لأن في كل منها ما يحدث في القلب رقة ([4]).

ثانياً / معنى الرقاق في الاصطلاح .

اصطلاحاً : يطلق الرقاق في الاصطلاح على كل ما يرقق القلوب و يؤدي إلى تأثرها بما يلقى عليها و ما تسمعه و ما تطلع عليه من المواعظ الربانية و النبوية ، فتصبح لينة رقيقة رحيمة لنفسها وبغيرها .



أهـمية الرقاق التربوية :

تمهيد :

للرقائق أهمية بالغة الأثر في حياة الأفراد و المجتمعات المسلمة و تربيتهم عليها لترق القلوب و تخضع و تخشع لعلام الغيوب ، لأننا في عصر طغت فيه الماديات و المغريات و الملهيات بأشكالها و ألوانها ، و عمت فيه الفتن و الشهوات حتى أصبح المجتمع المسلم يشكو من خواء الروح و قسوة القلب و تحجر الفؤاد ، و ضعف التمسك بالمبادئ و القيم الإسلامية و من أهم الأسباب المؤدية إلى ذلك التخلي عن قيم الرقائق ، و البعد عن كل ما يرقق القلوب و يقربها إلى مولاها .

و انطلاقاً من هذه الأهمية و الحاجة إلى الرقاق في هذا العصر تتأكد أهمية التربية على الرقاق للفرد و المجتمع و تربية النشء و تعظيمها و تعميقها في النفوس ، لما تحدثه هذه التربية من آثار عظيمة و أعمال جليلة و هاك بعض الجوانب التي تبرز فيها هذه الأهمية :

(1) تطهير النفس و تزكيتها .

إن التربية على الرقائق له أثر بالغ في تطهير القلوب من أدران المعاصي و أوساخ الرذائل و الذنوب فصلاح القلوب و عمارتها قائم على التطهير و التزكية فالتطهير مقدم على التزكية من باب التخلية قبل التحلية ، فالتطهير إخراج دغل القلب و فساده فيكون القلب مهيأ للتزكية و استقبال الخير و غرس الفضائل و الترقي فيه ، قال ابن القيم رحمه الله : " و المقصود أن زكاة القلب موقوفة على طهارته كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة " ([5])، فالرقائق تطهر النفس الإنسانية من الشرور و الآثام ثم تزكيها بالفضائل و الخيرات و قد مدح الله تعالى في محكم تنزيله من زكى نفسه و أبعدها عن الأوساخ و الرذائل قال تعالى : ( قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) ([6])، و قال تعالى : ( قد افلح من تزكى ) ([7])، قال السعدي رحمه الله تعالى : " أي طهر نفسه من الذنوب و نقاها من العيوب و رقاها بطاعة الله و علاها بالعلم النافع والعمل الصالح " ([8])، فربط الله تعالى الفلاح و النجاة بتطهير النفس و تزكيتها بالرقائق و الإيمان و الأعمال الصالحة و جعل الخيبة و الخسران لمن دنس نفسه بالكفر والعصيان ، فالتربية على أعمال الرقائق من شأنه أن يطهر النفس و يعلو بها عن سفاسف الأمور ويزكيها بالفضائل ، كما كانت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم التربوية في تزكية نفوس أصحابه وترقيتها قال تعالى : ( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ([9]).

(2) الراحـــة النفســية .

التربية على الرقاق و ممارسة الأعمال و الأفعال التي ترقق القلوب يريح نفس المؤمن و يزيده أمناً و طمأنينة و انشراحاً في الصدر فهي تملأ نفس المؤمن سعادة و راحة نفسية " و تملأها بالنور و التسامي و تبعدها عن السفاسف وتحفظها من كل شر و تدفعها إلى كل خير " ([10])، " و سر ذلك أن الطاعة توجب القرب من الرب سبحانه و كلما اشتد القرب قوي الأنس بالله تعالى ، قال تعالى : ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ([11]) ، فدلت الآية الكريمة على أن أعمال الرقاق تطمئن القلب و تسعده وتشرحه و تزيده نورًا وإيماناً " ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله و فيه و حشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته ، و فيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه و الفرار منه إليه وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته و الإنابة إليه و دوام ذكره و صدق الإخلاص له " ([12])، فقيم الرقاق و مبادئه هي الأسباب الوحيدة لطمأنينة القلوب و شفائها من أمراضها و زوال قلقها و وحشتها و حصول الأنس و الراحة و الأمن النفسي للمؤمن .

(3) القدرة على مواجهة الشهوات و الفتن .

إن المؤمن الحق الذي ربى نفسه على قيم الرقاق و سعى إلى أعمال الرقائق حرصاً منه على تليين قلبه و ترقيق جنانه ، فيكتسب بذلك القدرة على مواجهة الفتن والشهوات ومغريات الحياة الدنيا وزخرفتها ، فيقف صامداً في مواجهة الشهوات و الملهيات و يأمن الوقوع في المزالق والانحرافات السلوكية بأشكالها وألوانها ، و هي تحمي الإنسان من الزيغ و الضلال وتقيه من الوقوع في الرذائل والمعاصي والذنوب فيصلح شأنه و يقوم سلوكه وتصبغه الصبغة الإسلامية الصحيحة ، أما الإنسان المبتعد عن قيم الرقاق ومبادئه فإنه تتناوشه الآفات و يكون قريباً من الأعطاب و المهالك و الرذائل السلوكية ضعيفاً أمام الفتن و المغريات و الشهوات لا يستطيع مقاومتها ولا التغلب عليها ولا السيطرة عليها فصاحبها ضعيف مستكين أمامها ، أما القلب المليء بأعمال الرقائق فهو يستعلي على الشهوات و الفواحش و يزدريها ويحتقرها فقلبه مملؤ بنور الله وباليقين الذي ينجيه من ظلمات الهوى و الشهوات .

(4) التحريك و الدفع لأعمال الجوارح .

لاشك أن التربية على الرقاق و قيمها هو من أعظم العبادات القلبية التي لها صلة مباشرة بأعمال القلوب فكلما عظمت أعمال القلوب و عظمت محبة الله في القلوب كان ذلـك دافعاً و محركاً لأعمال الجوارح لعبادة الله و طاعته و السير على رضاه ، ومن عرف الله أحبه و من أحبه أطاعه . فيتبين لنا أن الرقائق هي من خاصية أعمال القلوب فالمؤمن الذي يربي نفسه على أعمال الرقائق يزيل عن قلبه الوحشة و الران و كل ما صدئ بالقلب من المعاصي ، فصلاح القلب و عمارته هو صلاح للجوارح و أعمالها و فساد القلب و خرابه فساد للجوارح و أعمالها المنوطة بها كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : (( ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب )) ([13])، قال ابن حجر : " و فيه تنبيه على تعظيم قدر القلب و خصه بذلك لأنه أمير البدن و بصلاح الأمير تصلح الرعية و بفساده تفسد " ([14])، فصلاح الفرد منوط بصلاح قلبه الذي يتبعه حسن القيام بحقوقه و واجباته وحقوق الله تعالى و واجباته وهذا يجده المرء من نفسه أنه إذا صلح قلبه ورق فؤاده و لان لله تعالى اجتهد بطاعة وحسن قيامه على الصلاة و الصيام و غيرها من أعمال الخير و البر ، و إذا فسد قلبه و ضعف وقسا ضعفت عبادته و كلت جوارحه و أصابها الارتخاء و الكسل فدل ذلك أن الاهتمام بأعمال القلوب و ترقيقها بقيم الرقائق مما تعين و تقوي على طاعة الله و عبادته و يدفع و يحرك العبد إلى الأعمال الصالحات التي تسعده و ترضي خالقه .

(5) تثبيت المؤمن على دين الله .

مما لاشك فيه أن الفتن في هذا الزمان قد كثرت و تنوعت أساليب الشر و الفساد في تزيين الشهوات و الملذات و كثرت فيه المحن و المصائب ، و صار يخشى على المؤمنين الصادقين العاملين لدين الله تعالى من التذبذب و التراجع و التدهور و عدم الثبات و الصبر فالثبات على دين الله تعالى وصية الأولين و الآخرين فهذا يعقوب _ عليه السلام _ يوصي به بنيه ، قال تعالى : ( يا بَنِيَّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ([15]) ، و كان صلى الله عليه وسلم يكثر في سجوده في الصلاة يقول : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )) ([16])، و إن مما يعين على الثبات و يقويه و يجعل صاحبه قوياً شامخاً صامداً هو العناية بترقيق القلوب و الإكثار من المرققات التي تقوي اليقين بالله و تعظم الأمل به فذلك خير معين على الثبات حتى الممات .

(6) أساس النجاة من النار و الفوز بالجنة .

إن الاهتمام بترقيق القلوب و السير و العمل بالقيم التي تهذب القلوب و تخلصها من الشوائب العالقة بها ، لهو من نهج المؤمنين الصالحين الذين يسعون لكسب الأعمال الصالحة و نيل رضوان الله تعالى ، و العناية بالرقائق و إصلاح القلوب هو من الأسس التي تخلص العبد المؤمن و تنجيه من النار و تقربه من الفوز بالجنة و نيلها كما وعد الله تعالى في كتابه الكريم في آيات كثيرة ، قال تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً * خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً ) ([17]) ، وقال تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون *الذين يقيمون الصلاة ومما زقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) ([18]) فهذه الآيات تبين و تؤكد عظم أجر العبادات القلبية و علو مرتبة أصحابها المتعبدين بها في أعالي الجنة و الفوز برضوان الله و مغفرته و رحمته الواسعة .

طرق ترسيخ الرقاق و تنميتها :


إن القيم و المبادئ التي تغذي و تنمي القلوب و تزرع الخير و البر في الفؤاد لهي قيم الرقائق التي اشتملت عليها أحاديث صحيح البخاري _ رحمه الله _ في كتاب الرقاق ، و سوف يتناول الباحث بمشيئة الله _ تعالى _ في هذا المبحث طرق ترسيخ و تنمية الرقاق في القلوب و ذلك من خلال القيم و المبادئ و العبادات القلبية التي تشع بالخير و النور والهدى في جميع جوارح الإنسان و هي كالتالي :

(1) ذكر الموت .

عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال : (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )) .

وكان ابن عمر يقول : (( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح و إذا أصبحت فلا تنتظر المساء و خذ من صحتك لمرضك و من حياتك لموتك )) الفتح ، كتاب الرقاق ح ( 6416 ) .

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه )) قالت عائشة أو بعض أزواجه : إنا لنكره الموت ، قال : (( ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته ، فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه ، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه )) الفتح ، كتاب الرقاق ، ح (6507) .

لاشك أن ذكر الموت و الاستعداد له وقصر الأمل و العلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء مدة الحياة ، هو من أنفع الأمور للقلب فإنه يبعث في النفس الرغبة في انتهاز فرص الحياة ، ويثير ساكن عزماتها إلى دار البقاء ويحثها على تدارك ما فاتها وحسن استغلال الأوقات فيما يزهدها في الدنيا ويرغبها في الآخرة قال تعالى : ( فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً ) ([1]) .

و قال صلى الله عليه وسلم : (( أكثروا ذكر هاذم اللذات )) ([2]).

فالإكثار من ذكر الموت و التفكير فيه مما يؤدي بالعبد إلى الاستقامة و الهداية ويحسن سلوكه وعمله فيواصل ويواظب على فعل الصالحات والأعمال الخيرة ، فالتفكير فيه ينغص لذات الدنيا حتى ينقطع الركون إليها و الرغبة بما فيها ، لتقبل القلوب والنفوس على الله _ تعالى _ ، قال العلماء : " تذكر الموت يردع عن المعاصي ، ويلين القلب القاسي ، ويذهب الفرح بالدنيا ، ويهون المصائب فيها "([3])، و قال بعضهم : " من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة : تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، و النشاط في العبادة "([4])، فدل ذلك على أن الإكثار من ذكر الموت مما يرقق القلوب ويقربها إلى علام الغيوب ويذيب القلوب القاسية .

يروى أن امرأة شكت إلى عائشة _ رضي الله عنها _ قساوة قلبها ، فقالت لها : " أكثري من ذكر الموت يرق قلبك ، ففعلت ذلك فرق قلبها " ([5])، فذكر الموت والاستعداد له وعدم الاسترسال في الأماني والآمال يكسب المؤمن خيرات عظيمة ويجعله دائماً من المقربين ومن أصحاب القلوب الحية اليقظة السابقة للخير والبر والهدى واستغلال واغتنام الأعمال الصالحة ، قبل أن تأتي المنية فتحول بينه و بين اغتنام الخيرات .

(2) زيارة القبور و إتباع الجنائز .

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط )). الفتح ، كتاب الرقاق ، ح ( 47 ) .

فزيارة القبور و إتباع الجنائز من الأعمال التي ترقق القلوب و تلين و تذيب القلوب القاسية " فليس للقلوب أنفع من زيارة القبور ، و بخاصة إن كانت قاسية ، فعلى أصحابها معالجتها بزيارة القبور " ([6])، و قد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور ، لما تحدثه من أثر تربوي في العبد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : (( استأذنت ربي أن استغفر لها فلم يؤذن لي و استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزورا القبور فإنها تذكر الموت )) ([7]).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورو القبور ، فإنها تزهد في الدنيا و تذكر الآخرة )) ([8]) .

وعن البراء قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى و أبكى حتى بل الثرى ثم قال : (( يا إخواني لمثل هذا فأعدوا )) ([9]).

فالناظر والمتأمل في هذه الأحاديث الداعية إلى زيارة القبور بين الفترة و الفترة يجد أنه حري بالمؤمن أن يزورها ، لما لها من أثر على إيقاظ الضمير وترقيق القلوب و الرجوع إلى الحياة بنفسية أفضل ، وعمل أكمل في التسديد والإتقان ، و مداومة الطاعات والاستمرار عليها ، كما كان أسلافنا رضي الله عنهم ، قال سليمان الطائي * : " شهدت عبد الواحد بن زيد* في جنازة حوشب فلما دفن قال : " أما و الله لئن استطعت لا تحملني رجلي بعد مصرعك قال : ثم شمر بعد و اجتهد " ([10]).

وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له : تذكر الجنة و النار و لا تبكي و تبكي من هذا ، قال : إن رسول صلى الله عليه وسلم قال : (( إن القبر أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه أحد فما بعده أيسر منه و إن لم ينج منه فما بعده أشد منه )) ([11]) .

فزيارة القبور تزهد المرء في الدنيا و ترغبه في الآخرة والعمل لها ، فيرجع نشيطاً في عبادة ربه تائباً منيباً مستغفراً .

(3) الزهد في الدنيا و التعلق بالآخرة .

عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال : (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )) الفتح ، كتاب الرقاق ، ح ( 6416 ) .

الزهد في الدنيا و التعلق بالآخرة من أعظم الخصال التي ترقق القلوب و تسعدها وتزيل ما علق بها من هموم وغموم وأحزان ، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى ابن عمر والأمة من بعده بعدم الركون إلى الدنيا والاستعداد والعمل للآخرة ومن هذا المقام يقول أحد العلماء : " فكن أيها المؤمن في الدنيا مثل الغريب الذي لا يعلق قلبه إلا بوطنه وأعلم أن وطنك الحقيقي هو الدار الآخرة فلا تغتر بالدنيا لأنها ليست دار خلود وبقاء ، وإنما هي دار زوال وفناء ، أو تكون كعابر سبيل ، وهو مسافر فما أنت في دنياك إلا مسافر إلى وطنك الحقيقي وهو الدار الآخرة " ([12])، فينبغي للمؤمن ألا يشغل في سفره إلا بما يوصله إلى هدفه وهو الدار الآخرة ، وقد حذرنا الله _ تعالى _ من التعلق بالدنيا والاغترار بها ومدح _ جل وعلا _ الزهد فيها والتعلق بالآخرة في مواضع كثيرة قال تعالى : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خيرُ وأبقى ) ([13]) ، وقال تعالى : ( يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار ) ([14]) ، وقال تعالى : ( كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة ) ([15]) ، وقال تعالى : ( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) ([16]) ، وزهد فيها وحقرها رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ليبرهن لنا على تفاهة و حقارة الدنيا و أنها لا تساوي شيئاً فهي دار معبر و ممر لا دار مقر فتعلق القلوب و تصرف الأعمال للدار الآخرة إذ هي موطننا و مسكننا الحقيقي .

قال صلى الله عليه وسلم : (( و الله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع )) ([17]).

وقال صلى الله عليه وسلم : (( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء )) ([18]).

فالزاهد في الدنيا يترك ما لا ينفعه في الآخرة ، ولو فكر العاقل في هذه الدنيا و تأمل و نظر لعرف أنها زائلة و ليس لها أمان و الباقيات الصالحات خير عند الله _ تعالى _ ، والرضى بالقليل والانقطاع للعبادة يحرر الإنسان من عبودية الماديات والشهوات والملذات إلى عبودية رب الكائنات ، فيرق قلبه لله ويسلم زمام نفسه لطاعة الله _ سبحانه وتعالى _ ، فعلى المؤمن أن يقوي ارتباطه بالله _ تعالى _ ولا يختل توازنه في هذه الحياة فالتمسك الزائد بالدنيا يقوي الجانب المادي ، والانقطاع للعبادة وترك الدنيا للخراب والدمار وسعي أهل الفساد فيها بالهلاك يفسد إعمار الأرض بطاعة الله ، فالتوازن مطلوب لإعمار هذه الأرض بطاعة الله و عبادته ورفع الهمم والعزائم للعمل للآخرة والتعلق بها .

(4) ذكر الجنة و النار .

عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله _ تبارك وتعالى _ يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك وسعديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : أن أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقولون : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً )) الفتح ، كتاب الرقاق ، ح ( 6549 ) .

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل يوضع على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل* بالقمقم* )) الفتح ، كتاب الرقاق ، ح ( 6562 ) .

لا شك أن ذكر أهل الجنة وصفتهم وما أعد الله لهم من النعيم المقيم ، وذكر أهل النار وصفتهم وما أعد الله لهم من العذاب الأليم ، يحرك القلوب لله رب العالمين فترق القلوب و تدمع العيون رغبة في الجنة وخوفاً من النار ، فالمؤمن دائماً يجول بفكره وينظر ويتأمل ما أعده الله لأهل الجنة حيث فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، قال تعالى : ( فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون ) ([19]) ، وقال تعالى : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) ([20])، و قال تعالى : ( فيها عينٌ جاريةٌ * فيها سررٌ مرفوعةٌ * وأكوابٌ موضوعةٌ * ونمارق مصفوفةٌ * وزرابي مبثوثةٌ ) ([21])، و قال تعالى : ( في سدرٍ مخضودٍ * وطلحٍ منضودٍ * وظلٍ ممدودٍ * ومآءٍ مسكوبٍ * وفاكهةٍ كثيرةٍ * لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ * وفرشٍ مرفوعةٍ * إنا انشأناهن إنشاءً * فجعلناهن أبكاراً * عرباً أتراباً * لأصحاب اليمين ) ([22]) . فهذه الآيات وغيرها تحفز المؤمن وتدفعه وتحركه نحو العمل والجد والاجتهاد في طاعة الله لينال رضوانه وجنته ويشمر لها كما كان الصحابة _ رضي الله عنهم _ يفعلون .

فعن أسامة بن زيد _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه : (( ألا مشمر للجنة ؟ فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وفاكهة كثيرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة في مقام أبدا في حبرة ونضرة في دور عالية سليمة بهية )) قالوا : نحن المشمرون لها يا رسول الله ، قال : (( قولوا : إن شاء الله )) ([23]) .

وعلى المؤمن كذلك أن يجول بفكره ويتأمل ما أعده الله لأهل النار ويستشعر بقلبه هول الموقف والنار وكيف يعذب أصحابها " بين مقطعات النيران ، وسرابيل القطران ، وضرب المقامع ، وثقل السلاسل ، فهم يتجلجلون في مضايقها ويتخطون في دركاتها ويضربون بين غواشيها تغلي بهم كغلي القدور ويهتفون بالويل والعويل وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون " ([24]) ، قال تعالى : ( وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبوابٍ لكل بابٍ منهم جزءٌ مقسومٌ ) ([25]) ، وقال تعالى : ( إن لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصةٍ وعذاباً أليماً ) ([26])، فهذه الآيات والعبر والعظات تعطي المؤمن رقة في قلبه وخوفاً وهلعاً من ربه وفراراً وهرباً من معصيته ، فتبعث في نفسه الهمة للعمل والمثابرة للسعي في الخير ، خوفاً من الوقوع في النار عياذاً بالله .

(5) ذكر أهوال يوم القيامة .

عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي )) قال سهل أو غيره : ليس فيها معلم لأحد . الفتح كتاب الرقاق ، ح ( 6521 ) .

وعن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تحشرون حفاة عراة غرلاً )) ، قالت : فقـلت يا رسول الله الرجــال والنسـاء وينظر بعضهم إلى بعض فقال : (( الأمر أشد من أن يهمهم ذاك )) الفتح ، كتاب الرقاق ، ح ( 6527 ) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم )) الفتح ، كتاب الرقاق ح (6532) .

أن التفكر ومعرفة أهوال يوم القيامة وتدارسها وتذاكرها يرقق القلوب ويجعلها تثوب إلى فاطرها وخالقها وتنكسر وتنطرح بين يديه خاشعة خاضعة ذليلة له _ سبحانه _ وإن إطالة الفكر والتأمل في ذلك والإيمان بأهوال يوم القيامة ومراحلها كما ذكرها الله في كتابه قال تعالى : ( إذا السمآء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت * وإذا البحار فجِّرت * وإذا القبور بعثرت ) ([27]) ، و قال تعالى : ( إذا الشمس كوِّرت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سُيِّرت * وإذا العشار عُطِّلت * وإذا الوحوش حُشرت * وإذا البحار سُجِّرت * وإذا النفوس زُوِّجت * وإذا الموؤدة سُئلت * بأي ذنبٍ قتلت * وإذا الصحف نُشرت * وإذا السمآء كُشطت * وإذا الجحيم سُعرت * وإذا الجنة أُزلفت * علمت نفسٌ مآ أحضرت ) ([28]) ، فكل آخذ كتابه ويناقش الحساب في أرض المحشر فمعرفة هذه والإيمان بها يبعث في قلب المؤمن دواعي الاستعداد والانطلاق للأعمال الصالحة .

" وقد وصف الله تعالى أهوال يوم القيامة وأكثر من أسمائه لتقف بكثرة أساميه على كثرة معانيه فيوم القيامة ويوم الحشر ويوم الزلزلة ويوم الواقعة ويوم القارعة ويوم الغاشية ويوم الراجفة ويوم الطامة ويوم الصاخة ويوم التلاق ويوم الوعيد ويوم الجزاء ويوم العرض والفصل ويوم الدين والنشور " ([29])، فهذا الوصف من دواعيه وحكمه أنه يذكر العبد المؤمن بذلك اليوم وأهواله فيكون في أحواله كلها مقبلاً على الله بالخيرات مرققاً لقلبه بأعمال القلوب الصالحات ، ويكون كذلك التفاتاً وانتباهة للعبد الغافل بأن يرجع ويتوب وينوب إلى ربه قبل يوم الفصل والجزاء والحساب .

(6) الخوف و الرجاء .

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار )). الفتح ، كتاب الرقاق ، ح ( 6469 ) .

وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله فقال لأهله : إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا به فجمعه الله ثم قال : ما حملك على الذي صنعت ؟ قال : ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له )) . الفتح ، كتاب الرقاق ح ( 6480 ) .

فالرجاء والخوف من أعظم العبادات القلبية التي تلين وترقق قلب المؤمن وتؤثر فيه " وهما جناحان يطير بهما المقربون إلى كل مقام محمود ، ومطيتان بهما يقطع من طريق الآخرة على عقبة كؤود " ([30]) ، وهما من أنفع العبادات لما تحدثه من أثر في سلوك المسلم وتصحيحه نحو الأحسن والأفضل فهما تقمعان الشهوات والغرائز المحرمة والذميمة والمشينة ويصيران المعاصي المحبوبة عنده مكروهة ، فتحترق الشهوات بالخوف وتتأدب الجوارح ويذل القلب ويستكين به ، " فقوة المراقبه والمحاسبة بحسب قوة الخوف ، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله _ تعالى _ وصفاته " ([31])، " فالعبد الصالح يخاف على نفسه من سوء الخاتمة ، ويخاف على نفسه من المعاصي ، ويخاف الموت قبل التوبة ، ويخاف نقض التوبة ونكث العهد مع الله ويخاف الاستدراج بتواتر النعم وكثرتها " ([32]) ، فالخوف الصادق هو الخوف الذي يحول بين صاحبه و المعاصي وارتكاب ما حرم الله _ عز وجل _ على نفسه ، وإلزام النفس بالطاعات تلافياً لما مضى في التفريط واستعداداً للمستقبل .

والرجاء حاد يحدو القلوب إلا بلاد المحبوب ، وهو الله و الدار الآخرة ويطيب لها السير والاستبشار بجود وفضل الرب _ تبارك وتعالى _ والارتياح لمطالعة الله وكرمه _سبحانه_ .

ومن ذلك يتضح أن العلاقة بين الخوف والرجاء قوية " فالخوف سوط يؤدب الله _ تبارك وتعالى _ به عبده ، والرجاء مخفف للخوف حتى لا يخرج بالمؤمن إلى اليأس والقنوط " ([33]) ، فالأفضل عند المتقي اعتدال الخوف والرجاء و لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ، " وقد استحب السلف للمسلم أن يقوي الخوف على الرجاء في حالة الصحة حتى تستقـيم أموره ويبتعد عن المعاصي ، لكن إذا نزل به الموت فعليه أن يقوي جانب الرجاء في رحمة الله _ تعالى _ وعفوه " ([34]).

(7) التوكـل .

عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون )). الفتح ، كتاب الرقاق ح ( 6472 ) .

إن التوكل على الله من أعظم وأنفع العبادات القلبية " وحاجة المسلم السالك لطريق الله إلى التوكل حاجة شديدة وخصوصاً في قضية الرزق الذي شغل عقول الناس وقلوبهم وأورث كثيراً منهم تعب البدن وهمَّ النفس وأرق الليل وعناء النهار " ([35]) وحقيقة التوكل هو " صدق اعتماد القلب على الله _ عز وجل _ في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه " ([36]) ، فالتوكل صفة من صفات المؤمنين بالله تعالى ، قال تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ([37]) ، و قد حثت آيات القرآن على التوكل بالله تعالى وإحسانه وإكماله فقال تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ([38])، و قال تعالى : ( فإذا عزمت فتوكل على الله )([39]) .

قال تعالى : ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ) ([40])، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته من بعده على التوكل فيقول لهم عند الخروج من البيت : (( من قال بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له : كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان )) ([41])، و قال صلى الله عليه وسلم : (( لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً )) ([42])، " فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجهاد أهل الباطل ، فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم " ([43])، فالتوكل على الله يرسخ في قلب المؤمن الثقة بالله _ تعالى _ ويفوض أمره كله إليه فيستعين بالله ويلجأ إليه ويتيقن بأن أمره نافذ في مخلوقاته وأنه يعين من يتوكل عليه صادقاً عازماً مخلصاً موقناً بعونه ، " والتوكل يشيع في نفس المؤمن السكينة والطمأنينة وراحة البال وهو ما ترتبط به صحته النفسية والعقلية وعافيته البدنية وذلك لأن التوكل على الله يحفظ المؤمن من المخاوف والآلام النفسية والصراع والتوتر والانفعالات والأمراض العقلية والعلل العصبية " ([44])، فحري بالمسلم أن يلجأ إليه في كل أموره وأن يعتصم بركنه الوثيق والمتين ، فالمخرج من جميع الأمراض بأنواعها هو الاعتصام بالله و التوكل عليه .

(8) الشكـر .

عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم أو تنتفخ قدماه فيقال له فيقول : (( أفلا أكون عبداً شكوراً )). الفتح ، كتاب الرقاق ، ح ( 6371 ) .

منزلة الشكر لله _ تعالى _ من المنازل العظيمة والمسالك الرفيعة " فقد أمر الله _ تعالى _ به ونهى عن ضده وأثنى على أهله ووصف به خواص خلقه وجعله غاية خلقه وأمره ووعد أهله بأحسن جزائه وجعله سبباً للمزيد من فضله وحارساً وحافظاً لنعمته وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته " ([45])، قال تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) ([46]) ، وقال تعالى : ( ذرية من حملنا مع نوحٍ إنه كان عبداً شكوراً ) ([47])، و قال تعالى : ( إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ ) ([48])، وقال تعالى : ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) ([49])، وقال تعالى : ( وسجزي الله الشاكرين ) ([50]).

" فالشكر هو الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة لله تعالى فمن كثر ذلك منه سمي شكوراً " ([51]) ، وقد وصف الله _ تعالى _ عباده الشاكرين بأنهم قليل فقال تعالى : ( وقليلٌ من عبادي الشكور ) ([52]) الذين يطبقون أركان الشكر الثلاثة على أكمل وجه وأفضل اهتداء واقتداء بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم فالشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح ، أما القلب فهو أن يقصد الخير ويضمره للخلق كافة ، وأما اللسان فهو أن يظهر الشكر لله بالتحميد ، وأما بالجوارح فهو استعمال نعم الله في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته ، ففي شكر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم ، ومن ستر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه فهذا يدخل في جملة شكر هذه الأعضاء " ([53])، وكذلك البعد عن كل ما يعصي الله في هذه الجوارح حتى تكون كلها مسخرة لمرضاته ونيل ثوابه .

وإن من أقوى الأمور المعينة على شكر الله هو تذكر العبد فضل الله عليه ونعمه المدرارة عليه فإنها باعث ومحرك قوي على الشكر قال تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ([54]) ، فالشكر من العبادات التي تؤثر على قلب المؤمن وتجعله خاضعاً وخاشعاً لله _ تعالى _ .

(9) التواضـع .

عن أنس رضي الله عنه قال : كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين ، وقالوا : سُبقت العضباء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه )). الفتح ، كتاب الرقاق ، ح ( 6501 ) .

فالتواضع من صفات المؤمنين الصادقين ، ومن العبادات القلبية التي تنبئ عن عظيم إيمان العبد ورقة قلبه وطبعه وما اتصف به أحد إلا زاده الله عزاً ورفعة وشرفاً وأعلى ذكره في البشر ، وما فارقه أحد وتجنبه إلا أصابه الذل والهوان وأبغضه الناس وكرهوه . والتواضع يعلي من شأن المسلم ويرفعه من رذيلة الكبر والغطرسة من جهة ، وعن رذيلة الخنوع والمذلة من جهة أخرى ، فهو خلق التوسط بين الكبر والذلة والخسة .

" وقد أمر الله _ عز وجل _ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالتحلي بصفة التواضع لأنه مصدر رضا الله _ تعالى _ وثوابه ورفعته ، ولأنه منبع الخير والفلاح في العلاقات بين الناس بما يربط قلوبهم بالمحبة والمودة والتعاطف ويجنبهم التنافر والتباغض والشحناء " ([55]) ، قال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) ([56]) ، وقال صلى الله عليه وسلم في مدح التواضع ومن اتصف به : (( وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )) ([57]) ، وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله أوصى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد )) ([58]) ، فهذه الشواهد والأدلة فيها الحث على عدم التكبر والحث على التواضع والتنبيه على ترك التكبر والمباهاة والمفاخرة " ففي التواضع مصلحة الدين والدنيا ، فإن الناس لوا استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة " ([59])، وغايته أن لا تلقى أحداً إلا رأيت له الفضل عليك وأنه أفضل منك ، فهذا النظرة تثمر في قلب المؤمن الصادق تواضعاً ، وليناً في الجانب ، وعزة ورفعة من البشر يقذفه الله _ تعالى _ في قلوب عباده ، وهذا لا يتأتى إلا لمن مرن نفسه ودربها على كسر النفس من شهواتها القلبية من داء العجب والكبر والغرور وأرضخ نفسه وأذعن للحق وقبوله ، حتى رسخ في قلبه التواضع وأصبح سجية ومطية له واحتسب كل تواضعه لله رب العالمين .



--------------------------------------------------------------------------------

([1]‏) – ‏صحيح مسلم : 1 / 73 : كتاب الإيمان : باب تفاضل أهل الإيمان فيه و رجحان أهل اليمن فيه : ح ( 52 ) .

([2]‏) – ‏ابن منظور : لسان العرب : 10 / 121 – 122 .

([3]‏) – ‏الراغب الأصفهاني : مفردات ألفاظ القرآن : ص 361 .

([4]‏) – ‏ابن حجر : فتح الباري : 11 / 229 .

([5]‏) – ‏ابن القيم : إغاثة اللهفان : 1 / 49 .

([6]‏) – سورة الشمس : آية ( 9 ، 10 ) .

([7]‏) – سورة الأعلى : آية ( 14 ) .

([8]‏) – عبد الرحمن السعدي : تيسير الكريم الرحمن : ص 926 .

([9]‏) – سورة البقرة : آية ( 151 ) .

([10]‏) – محمد زنجير : أهمية الإيمان : ص 81 .

([11]‏) – سورة الرعد : آية ( 28 ) .

([12]‏) – ابن القيم : مدارج السالكين : 3 / 172 .

([13]‏) – ‏ابن حجر :‏ المصدر السابق :‏ 1 / 126 : كتاب الإيمان : باب فضل من استبرأ لدينه : ح ( 52 ) .

([14]‏) – ‏المصدر نفسه : 1 / 128 .

([15]‏) – سورة البقرة : آية ( 132 ) .

([16]‏) – سنن الترمذي : 4 / 390 – 391 : كتاب القدر : باب ما جاء أن القلوب بين اصبعي الرحمن : ح ( 2140 ) حسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5 / 126 .

([17]‏) – سورة الكهف : آية ( 107 – 108 ) .

([18]‏) – سورة الأنفال : آية ( 2 – 4 ) .

--------------------------------------------------------------------------------

([1]‏) – سورة المائدة : آية ( 48 ) .

([2]‏) – سنن الترمذي : 4 / 479 : كتاب الزهد : باب ما جاء في ذكر الموت : ح ( 2307 ) قال الألباني حسن صحيح ، انظر صحيح ابن ماجه 2 / 419 .

([3]‏) – القرطبي : التذكرة : ص 13 – 14 .

([4]‏) – حمزة قاسم : منار القارئ : 5 / 292 .

([5]‏) – القرطبي : المصدر السابق : ص 13 .
 
أعلى