• كل المواضيع تعبّر عن رأي صاحبها فقط و ادارة المنتدى غير مسؤولة عن محتوياتها

حكايات نفزاوية.

ختان في قرية نفزاويّة
-------------------------

تعالت الزّغاريد من منزل سي المنجي وتصاعدت سحب البخور لتبلغ عنان السّماء بينما كان صالح الجزّار يذبح كبشا أقرن وسط حشد غفير من الأقارب والجيران....إنّه يوم مشهود في حياة معلّم القرية "سي المنجي" وعائلته الصّغيرة والكبيرة... يوم ختان إبنه البكر أحمد...
إرتدت أمّ أحمد "حولي عربي" بتوابعه من "خلال" و "ربع الدّنيا" ووضعت حول رقبتها قلادة ذهبيّة تخطف الأبصار بينما أحاط الكحل العربي عينيها السوداوين ليلمع بياضهما كالبدر في ليلة من ليالي الصّيف...خطفت أمّ أحمد الأبصار وأدارت رقاب النّساء "بجمالها العربي" الذّى طالما جلب لها حسد الكثيرات في القرية الواحيّة الهادئة... بينما كان طفلها سعيدا باهتمام الجميع به وبجبّته البيضاء الجميلة وشايته الحمراء المزدانة بنقوش حريريّة ساحرة... لم يضايقه إلاّ ذلك الكحل الّذي وضعته جدّته في عينيه الصّغيرتين...حيث كان يحاول إزالته بيديه وهو يركض في أرجاء الحوش العربي بينما جدّه الحاج علي يراقبه بعيون ضاحكة وابتسامة تعبق حبّا وحنانا مُلحّا على إبنته "أمّ أحمد" أن تتركه يلعب مع أترابه...

ماهي إلاّ لحظات حتّى حلّت فرقة "حمّادي الزكّار" مصحوبا بصالح الطبّال و سعيد "الدرابكي" لينقلب المشهد إلى عرس حقيقي...تراقصت النّسوة بلباسهنّ التّقليدي بينما كانت الحاجة مباركة تطوف الحوش العربي "بكانونها" الّذي ملأته بتشكيلة من البخور الحامدي الأصيل، على الجانب الآخر كان رجال القرية يفترشون الأرض ويترشّفون كؤوس الشّاي المعتّق مستمعين إلى قصص الحاج علي ومغامرات من زمن ولّى ومضى في أرض "فريڨة" و "السّڨي" ...زمن قوافل الجمال و مقايضة التمور بالشّعير والقمح وأهوال الطّريق من قطّاع طرق وزواحف و"غول وأشباح..."

دخل أخيرا جواد الصادڨ "الفحل" بلونه الأبيض القمري و بسرجه الجميل و أشرطة القماش الملوّنة التي زادته بهاءً وإبهارا ليتجّمع حوله الصّبية يتضاحكون ويقفزون محاولين ملامسة سرج الجواد وذيله النّاعم بينما كان الصّادڨ يحاول إبعادهم بلطف...
سرعان ما ركب أحمد ابن المنجي ظهر الجواد وسط زغاريد النّسوة وضحكات الأطفال وسعادة وانبهار ينضحان من عيني أحمد المكتحلتين... مشهد الطفل بجبته البيضاء وشاشيته المزركشة فوق الحصان وصوت الزّكرة والطبل الذّي يملأ المكان وسحب البخور الصّاعدة إلى عنان السّماء ..أسال دموع والدة الطّفل بينما كتم جدّه الحاج بصعوبة مشاعره التي كادت تنساب من عينيه...

سار موكب "الختان" يتقدّمه الطّفل فوق جواده كعريس ليلة زفافه، عابرا أزقّة القرية نحو مسجدها ثمّ إلى مقام الوليّ الصّالح سيدي حامد للزّيارة وهي عادة دأب عليها أهل القرية منذ عقود... لعلّها تذكير بوحدة السكّان وانتمائهم إلى أصل شريف كان دوما رمزا للجود والكرم ولأخلاق الإسلام السّمحة...

إنتهت الزّيارة ورجع الموكب إلى منزل المنجي حيث كان مبارك "الطهّار" يشحذ مقصّه "الحدّادي" إنتظارا لفريسته الجديدة... كان مبارك مصدر رعب لكل صبية القرية ورمزا يذكر شبابها بلحظات لا تُنسى...لم يكن الصبيّ يدرك ما يدور حوله... بل كان في قمّة السّعادة والنّشوة يشعر بأنّه مركز الكون وأمير القرية و سيّدها... لم يفق من حلمه إلاّ عندما حمله عمّه ورجل آخر لم يتبيّن ملامحه إلى سجّاد يتوسّطه رجل بشارب ضخم وملامح قاسية ممسكا بعنف مقصاّ أسود كبير الحجم...حاول الإفلات من قبضة مُمْسِكِيه فلم يستطع إلى ذلك سبيلا طلب منه عمّه أن ينظر إلى طير في سقف الدّار "تلك الجملة الشّهيرة التي توارثها التّونسيون جيلا بعد جيل...شوف أكا الطّير الفوڨ"...سرعان ما أطبق المقصّ على فريسته ليتدفّق دم غزير من الطّفل الّذي ملأ صياحه أرجاء الدّار ليبلغ مسامع أمّه فتنهار باكية في حضن والدتها...

سارع مبارك الطهّار إلى وضع ضمّادة على الجرح مع سائل مطهّر مصافحا المنجي ومهنّئا ... ليتوافد الحاضرون تباعا على والد الطّفل مصافحين و حاضنين...تعالت أصوات "التّبريكات" من الجميع بينما كان الحاج علي يغالب دمعة تسرّبت من عينيه... سرعان ما حُمل الطّفل إلى غرفة مجاورة وحاولت النّسوة إسكاته بقطعة لحم كبيرة بينما نُصبت "قصاع الكسكسي" المغطّاة بقطع كبيرة من لحم الخروف وسط "الحوش" ليأكل الجميع فرحا بختان طفل جديد من أطفال قرية نائمة منذ قرون بين الجبال وتحت ظلال النّخيل...

20292668_10210532939860006_1542958767320879335_n.jpg
شباب تونس كلهم ظلوا يبحثون عن العصفور المحلق في سقف البيت ولم يلمحوه في الان ، لعله الحلم الذي يبحثون عنه ، ليفيقوا على الم المقص الذي يؤشر لالم الواقع ،
 
رسالة "حارق" إلى أمّه. (قصّة من الواقع)
------------------------------
بيد مرتعشة أشعل عبد الله سيجارته بين أصابعه ولم يكد يضعها بين شفتيه حتّى رماها أرضا وقد سرى صقيع موحش في أطرافه واهتزّ جسده وتصبّب جبينه عرقا، لمح وجهه في المرآة... وجه عبثت به سنين غربته الثّمانية... خطوط عميقة على جبينه وهالات سود تحت عينيه الغائرتين وشعر ابيضّ بعضه وتساقط بعضه الآخر... لقد علم للتوّ أنّ والدته مريضة ترقد بين الحياة والموت في قسم الإنعاش في مستشفى ڨبلّى بعد تعرّضها إلى أزمة قلبيّة...

رمى جسده على فراشه كميّت في كفنه وحيدا بين جدران غرفته الفرنسيّة الباردة، مرّ شريط حياته أمام عينيه صغيرا بين أحضان والدته ووسط أترابه في السّاحات وتحت النّخيل، تذكّر فرحه الطّفولي حين تصطحبه أمّه إلى أعراس الحيّ, تذكّر عروض الفروسيّة التي طالما أبهرته طفلا حتى خُيّل إليه أنه يصغي إلى صهيل الخيول ويرى غبار سنابكها و يشتم رائحة البخور و يسمع أصوات "المكاحل والڨاربيلا"...تذكّر كيف "حرق" منذ سنين تاركا أمّه حُطاما... لا يزال نحيبها يوم رحيله يتردد صداه في أذنيه..تذكّر حياته في "الواد" بمدينة نيس هاربا من الجندرمة وعذابه اليومي بحثا عن عمل...

لا يعلم كيف نهض وأمسك بقلمه وبدأ يخطّ رسالة إلى أمّه من الرّوح إلى الرّوح...

"أمّي الحبيبة، كنت على وشك أن أبشّرك بأنّي سأحصل أخيرا على أوراق الإقامة الرّسميّة في فرنسا ولكن مكالمة أخي كانت الأسبق لتعلمني بأنّك على فراش المرض... كفاك دلالا يا "فطَيْمة" وانهضي، سأعود قريبا ولن آكل "خبز الطابونة" إلا من يديك ولن أشرب "التاي الأحمر المنعنع" إلا من "برّادك وكانونك" ...أمّي اشتقت كثيرا لضفائر سعف النّخيل المتدلّية من "فولارتك" وإلى "ڨصْتك" التي تغطي نصف جبينك.. "جبين الجُمّار" وغُرّة الفرس...اشتقت إلى "وشمك" الأخضر الّذى طالما حيّرني صغيرا..."توحّشت" حُضْنك وكلامك المشحون حبّا وحنانا..."توحّشت" رعشة صوتك خوفا عليَّ صغيرا ولضحكتك حين أرميك بالوسائد وأجذب ضفيرتيك بمكر طُفولي..
أُمّى الحبيبة فلتعلمي أنّي راجعٌ فقط لأجل حضن منك، لأبكي سنين عذابي الثّمانية بعيدا عنك، راجعٌ فقط لأشُمَّ رِيحَكِ وأرتاح في "حجرك" وأبثّ إليكِ ما عانيته من جوع وتعب وخوف ... مُطاردٌ من خيال الجندرمة ومن طيفك الّذي يأبى أن يُغادرني.
أُمّاه انهضي فلا قدرة لي على فراقك, لا تتركي صغيرك وحيدا...أعِدك أن لا أدخّن بعد اليوم وأن أُصلّي كما كنت تطلبين مني دوما...أعِدك أن أبحث عن "بنت الحلال" وأن تحملي صغيري بين يديك، فقط لا ترحلي أُمّاه وابقي... لأجلي..."

لم ينهِ رسالته لأنّ مكالمة من أخيه أخرست قلمه وأماتت كُلّ أمل... لقد ماتت أمّه لتتركه وحيدا بين جدران غرفته الباردة وشوارع نيس الموحشة... بعيدا عن قريته النفزاوية لا يزال عبد الله يرسم وجه أمّه على كل جدار ويرى طيفها في غيوم مدينته الغريبة بعد سبع سنوات من رحيلها... دون أن تطأ رجله تراب البلاد...
 
التعديل الأخير:
أصابتني قشعريرة مما كتبت أخي
لامستني شخصيا و أحسستها لأن قريبا لي عانى ما عاناه عبد الله لكن هذا الأول فقد أمه و أباه في غربة لم يجني منها سوى الحرمان
مؤلم أن تفقد أملا في وطن تنفره بأمل وحيد فيه هما الوالدان
 
رسالة "حارق" إلى أمّه. (قصّة من الواقع)
------------------------------
بيد مرتعشة أشعل عبد الله سيجارته بين أصابعه ولم يكد يضعها بين شفتيه حتّى رماها أرضا وقد سرى صقيع موحش في أطرافه واهتزّ جسده وتصبّب جبينه عرقا، لمح وجهه في المرآة... وجه عبثت به سنين غربته الثّمانية... خطوط عميقة على جبينه وهالات سود تحت عينيه الغائرتين وشعر ابيضّ بعضه وتساقط بعضه الآخر... لقد علم للتوّ أنّ والدته مريضة ترقد بين الحياة والموت في قسم الإنعاش في مستشفى ڨبلّى بعد تعرّضها إلى أزمة قلبيّة...

رمى جسده على فراشه كميّت في كفنه وحيدا بين جدران غرفته الفرنسيّة الباردة، مرّ شريط حياته أمام عينيه صغيرا بين أحضان والدته ووسط أترابه في السّاحات وتحت النّخيل، تذكّر فرحه الطّفولي حين تصطحبه أمّه إلى أعراس الحيّ, تذكّر عروض الفروسيّة التي طالما أبهرته طفلا حتى خُيّل إليه أنه يصغي إلى صهيل الخيول ويرى غبار سنابكها و يشتم رائحة البخور و يسمع أصوات "المكاحل والڨاربيلا"...تذكّر كيف "حرق" منذ سنين تاركا أمّه حُطاما... لا يزال نحيبها يوم رحيله يتردد صداه في أذنيه..تذكّر حياته في "الواد" بمدينة نيس هاربا من الجندرمة وعذابه اليومي بحثا عن عمل...

لا يعلم كيف نهض وأمسك بقلمه وبدأ يخطّ رسالة إلى أمّه من الرّوح إلى الرّوح...

"أمّي الحبيبة، كنت على وشك أن أبشّرك بأنّي سأحصل أخيرا على أوراق الإقامة الرّسميّة في فرنسا ولكن مكالمة أخي كانت الأسبق لتعلمني بأنّك على فراش المرض... كفاك دلالا يا "فطَيْمة" وانهضي، سأعود قريبا ولن آكل "خبز الطابونة" إلا من يديك ولن أشرب "التاي الأحمر المنعنع" إلا من "برّادك وكانونك" ...أمّي اشتقت كثيرا لضفائر سعف النّخيل المتدلّية من "فولارتك" وإلى "ڨصْتك" التي تغطي نصف جبينك.. "جبين الجُمّار" وغُرّة الفرس...اشتقت إلى "وشمك" الأخضر الّذى طالما حيّرني صغيرا..."توحّشت" حُضْنك وكلامك المشحون حبّا وحنانا..."توحّشت" رعشة صوتك خوفا عليَّ صغيرا ولضحكتك حين أرميك بالوسائد وأجذب ضفيرتيك بمكر طُفولي..
أُمّى الحبيبة فلتعلمي أنّي راجعٌ فقط لأجل حضن منك، لأبكي سنين عذابي الثّمانية بعيدا عنك، راجعٌ فقط لأشُمَّ رِيحَكِ وأرتاح في "حجرك" وأبثّ إليكِ ما عانيته من جوع وتعب وخوف ... مُطاردٌ من خيال الجندرمة ومن طيفك الّذي يأبى أن يُغادرني.
أُمّاه انهضي فلا قدرة لي على فراقك, لا تتركي صغيرك وحيدا...أعِدك أن لا أدخّن بعد اليوم وأن أُصلّي كما كنت تطلبين مني دوما...أعِدك أن أبحث عن "بنت الحلال" وأن تحملي صغيري بين يديك، فقط لا ترحلي أُمّاه وابقي... لأجلي..."

لم ينهِ رسالته لأنّ مكالمة من أخيه أخرست قلمه وأماتت كُلّ أمل... لقد ماتت أمّه لتتركه وحيدا بين جدران غرفته الباردة وشوارع نيس الموحشة... بعيدا عن قريته النفزاوية لا يزال عبد الله يرسم وجه أمّه على كل جدار ويرى طيفها في غيوم مدينته الغريبة بعد سبع سنوات من رحيلها... دون أن تطأ رجله تراب البلاد...
نضطر احيانا لفراق اعز الناس جريا وراء سراب مجهول نبتعد عن من نحب في سبيل لقمة العيش المغموسة براءحة الخوف ، تأخذنا الحياة فلا نستفيق الا عند الاصطدام بحقيقة الواقع المرير ، لقد رحل اعزاؤنا ولا تزال احلامنا تطارد السحاب ، كن متألقا دائما صديقي ، واكتب لنا قصصا عن الفرح لننسى سوداوية هذه الايام
 
أصابتني قشعريرة مما كتبت أخي
لامستني شخصيا و أحسستها لأن قريبا لي عانى ما عاناه عبد الله لكن هذا الأول فقد أمه و أباه في غربة لم يجني منها سوى الحرمان
مؤلم أن تفقد أملا في وطن تنفره بأمل وحيد فيه هما الوالدان
لا ننفر الوطن فهو غالي دائما ، من لا وطن له فهو بلا هوية ، في الغربة نشتاق لهذا الوطن الذي ضحت من أجله اجيال ، قد تضلمنا الظروف ولكننا نظل دائما عشاق لهذا الوطن وأسألي من افتكوا منه الوطن وهم كثر ....
 
ڨبلي - باب عليوة
--------------------
إنطلقت "الدّابة الخضراء" تطوي الأرض طيّا كأنّها هاربة من أرض كاد إسفلتها يذيب عجلاتها ويُسقط محرّكها بالضّربة القاضية...
من خلال بلور نافذته تأمّل أنوار ڨبلي الباهتة والحزينة وهي تبتعد عن ناظريه رويدا رويدا...بدا له للحظة أن الحافلة تطير به كعفريت علاء الدّين...لتحطّ به على مشارف مركز "سعيدان" الشّهير...حيث صعد بعض أعوان الأمن مُحملقين في وجوه الركّاب وهم يقلّبون بطاقات هُويّاتهم... همس بينه وبين نفسه "لما يتصنّع هؤلاء الشّباب الجدّية المبالغ فيها واللّهجة الحادّة أحيانا والنّظرة القاسية؟ هل لأنّ التّونسي كما يقول البعض لا يحترم الأمني البشوش ويغريه بتجاوز القانون وعدم احترام زيّه الرّسمي، أم أنّ الأمر ثقافة موروثة لدى فئة معيّنة من المهن... كرجال التعليم مع تلامذتهم والمديرين مع منظوريهم...؟"


استأنف العفريت الأخضر مسيره نحو الشّمال...بدى له أنّ السّماء فقدت تلك "الغيمة" من الغبار الدّائم الجاثم فوق نفزاوة... تسرّبت نسائم البحر من شقوق سقف الحافلة وتلألأت النّجوم بنور أكثر صفاء كأنّها "غيّرت" ملابسها الباهتة...

أخذته غفوة خفيفة ليستفيق على صوت السائق المبحوح "هيّا ڨابس ڨابس"... سرعان ما نزل بعض الركّاب وصعد آخرون... جلست حذوه فتاة ضخمة حشرت رجلاها بصعوبة في سروال من "الجينز" خيّل إليه أنّه يئنّ و يتعذّب في صمت، "فرشت" شعرها على مسند كرسيها وتسربت خصلات منه إلى كرسيّه...أحسّ بالاختناق وهو يحاول الابتعاد عن شعرها الهائج والنتوءات البارزة من جسمها الّتي اعتدت على "حرمة" الحدود المشتركة...لم يستطع أن ينبس ببنت شفة وتحمّل الجلوس على شطر كرسيّ...

وصلت الحافلة مع منتصف اللّيل إلى مشارف مدينة الصّخيرة، حيث تصاعدت روائح الشّواء واصطفّت الحافلات والسيّارات بلوحات منجميّة تونسيّة وليبية وجزائرية وأوروبيّة... سارع الشباب النازلون من الحافلة بإشعال سجائرهم وانطلق عدد آخر من الركّاب مسرعين إلى "بيوت الرّاحة" بينما اصطفّ آخرون لشراء "القهوة" و"العصير" و"سندويتشات التّن والسكالوب"...

تنفّس الصّعداء بعد أن تخلّص من حصار تلك الفتاة...ترشّف قهوته على مهل وهو يتأمّل وجوه النّاس التي تنوّعت ألوانها وأعمارها، بعضهم بدا عليهم النّعاس وآخرون اختلوا بتلفوناتهم يثاءبون ويهمسون بكلام لا يكاد يُسمع...
ما لبثت أن أكملت الناقلة الخضراء مسيرها نحو العاصمة شاقّة مدينة صفاقس فسوسة في الأثناء كان يغالب النّعاس خوفا من تجاوز حدوده والارتماء في "حضن العدو"... حيث بدت له تلك الفتاة بملامحها العصبيّة ونظرتها القلقة...بدت له كأنّها لا تُطيقه لسبب لا يعلمه...


مع الثّالثة صباحا دخلت الحافلة الطّريق السّريعة...ألقى نظرة خفيفة على الركّاب، كان أكثرهم قد استسلم لنوم خفيف على نغمات أمّ كلثوم المنبعثة بلطف من مضخم صوت مثبت في سقف الحافلة...استطاع أن يتبين من خلال نافذته مساحات واسعة من الخضرة على جانبي الطّريق...أحسّ براحة وارتخاء والحافلة تُجاوز "برّاكة السّاحل" لتنساب برشاقة نحو تخوم العاصمة...

استطاع تبيّن أضواء "جبل بوڨرنين" الّذي طالما أثار فضوله صغيرا...ما أجمل العاصمة وهي خالية من السيّارات والشّاحنات ومن ضجيج النّاس وأصواتهم المزعجة...لا تكاد ترى إلا سيّارت التاكسي وبعض العمّال المُبكرين وهم يمشون مسرعين في الشّوارع الخالية كانت معظم المقاهي فتحت أبوابها وانبعث صوت القرآن الكريم من أغلبها بينما كان العملة ينظّفون أرضيّاتها بالماء والصّابون.

كان المؤذّن ينادي إلى صلاة الصّبح حين توقّف محرّك الحافلة في محطّة باب عليوة لتنتهي مسيرة ساعات طويلة شقت فيها الدّابّة الخضراء عشرات المدن والقرى قادمة من أعماق مدينة النّسيان وأرض الملح والغبار.
 
ڨبلي - باب عليوة
--------------------
إنطلقت "الدّابة الخضراء" تطوي الأرض طيّا كأنّها هاربة من أرض كاد إسفلتها يذيب عجلاتها ويُسقط محرّكها بالضّربة القاضية...
من خلال بلور نافذته تأمّل أنوار ڨبلي الباهتة والحزينة وهي تبتعد عن ناظريه رويدا رويدا...بدا له للحظة أن الحافلة تطير به كعفريت علاء الدّين...لتحطّ به على مشارف مركز "سعيدان" الشّهير...حيث صعد بعض أعوان الأمن مُحملقين في وجوه الركّاب وهم يقلّبون بطاقات هُويّاتهم... همس بينه وبين نفسه "لما يتصنّع هؤلاء الشّباب الجدّية المبالغ فيها واللّهجة الحادّة أحيانا والنّظرة القاسية؟ هل لأنّ التّونسي كما يقول البعض لا يحترم الأمني البشوش ويغريه بتجاوز القانون وعدم احترام زيّه الرّسمي، أم أنّ الأمر ثقافة موروثة لدى فئة معيّنة من المهن... كرجال التعليم مع تلامذتهم والمديرين مع منظوريهم...؟"

استأنف العفريت الأخضر مسيره نحو الشّمال...بدى له أنّ السّماء فقدت تلك "الغيمة" من الغبار الدّائم الجاثم فوق نفزاوة... تسرّبت نسائم البحر من شقوق سقف الحافلة وتلألأت النّجوم بنور أكثر صفاء كأنّها "غيّرت" ملابسها الباهتة...

أخذته غفوة خفيفة ليستفيق على صوت السائق المبحوح "هيّا ڨابس ڨابس"... سرعان ما نزل بعض الركّاب وصعد آخرون... جلست حذوه فتاة ضخمة حشرت رجلاها بصعوبة في سروال من "الجينز" خيّل إليه أنّه يئنّ و يتعذّب في صمت، "فرشت" شعرها على مسند كرسيها وتسربت خصلات منه إلى كرسيّه...أحسّ بالاختناق وهو يحاول الابتعاد عن شعرها الهائج والنتوءات البارزة من جسمها الّتي اعتدت على "حرمة" الحدود المشتركة...لم يستطع أن ينبس ببنت شفة وتحمّل الجلوس على شطر كرسيّ...

وصلت الحافلة مع منتصف اللّيل إلى مشارف مدينة الصّخيرة، حيث تصاعدت روائح الشّواء واصطفّت الحافلات والسيّارات بلوحات منجميّة تونسيّة وليبية وجزائرية وأوروبيّة... سارع الشباب النازلون من الحافلة بإشعال سجائرهم وانطلق عدد آخر من الركّاب مسرعين إلى "بيوت الرّاحة" بينما اصطفّ آخرون لشراء "القهوة" و"العصير" و"سندويتشات التّن والسكالوب"...

تنفّس الصّعداء بعد أن تخلّص من حصار تلك الفتاة...ترشّف قهوته على مهل وهو يتأمّل وجوه النّاس التي تنوّعت ألوانها وأعمارها، بعضهم بدا عليهم النّعاس وآخرون اختلوا بتلفوناتهم يثاءبون ويهمسون بكلام لا يكاد يُسمع...
ما لبثت أن أكملت الناقلة الخضراء مسيرها نحو العاصمة شاقّة مدينة صفاقس فسوسة في الأثناء كان يغالب النّعاس خوفا من تجاوز حدوده والارتماء في "حضن العدو"... حيث بدت له تلك الفتاة بملامحها العصبيّة ونظرتها القلقة...بدت له كأنّها لا تُطيقه لسبب لا يعلمه...

مع الثّالثة صباحا دخلت الحافلة الطّريق السّريعة...ألقى نظرة خفيفة على الركّاب، كان أكثرهم قد استسلم لنوم خفيف على نغمات أمّ كلثوم المنبعثة بلطف من مضخم صوت مثبت في سقف الحافلة...استطاع أن يتبين من خلال نافذته مساحات واسعة من الخضرة على جانبي الطّريق...أحسّ براحة وارتخاء والحافلة تُجاوز "برّاكة السّاحل" لتنساب برشاقة نحو تخوم العاصمة...

استطاع تبيّن أضواء "جبل بوڨرنين" الّذي طالما أثار فضوله صغيرا...ما أجمل العاصمة وهي خالية من السيّارات والشّاحنات ومن ضجيج النّاس وأصواتهم المزعجة...لا تكاد ترى إلا سيّارت التاكسي وبعض العمّال المُبكرين وهم يمشون مسرعين في الشّوارع الخالية كانت معظم المقاهي فتحت أبوابها وانبعث صوت القرآن الكريم من أغلبها بينما كان العملة ينظّفون أرضيّاتها بالماء والصّابون.

كان المؤذّن ينادي إلى صلاة الصّبح حين توقّف محرّك الحافلة في محطّة باب عليوة لتنتهي مسيرة ساعات طويلة شقت فيها الدّابّة الخضراء عشرات المدن والقرى قادمة من أعماق مدينة النّسيان وأرض الملح والغبار.
معاناة لا تنتهي مع وسائل النقل ، كل ذلك في سبيل اهداف قد تحقق أو تضيع بين الدخان المتصاعد الى السماء ، احيانا تدقق في التفاصيل الوصفية وهو ما يضفي بعض الرتابة على القصة ، ولكن يبقى اسلوبك شيق في الكتابة
 
عيد الإضحى في قرية نفزاوية
-----------------------------

تعالت التكبيرات المنبعثة من مسجد القرية فجر يوم عيد الإضحى المبارك بينما كان الحاج منصور يعدل "شاشيته" و "عمامته" النّاصعة البياض ويخرج صحبة أبنائه وأحفاده وقد ارتدوا أجمل الثّياب تضوع منهم رائحة العطر وتفيض وجوههم بشرا وفرحا, وكان المسير نحو المسجد في موكب يدير الأعناق.. كان الحاج وسط أبنائه بجبته "القمراية" كالشمس تحيطه الأقمار يمينا وشمالا بينما أحفاده يجرون ويقفزون فرحين بأحذيتهم الجديدة...
وصل موكب الحاج إلى المسجد وانخرطوا مع الحضور في التكبير والتهليل...زادت أصوات الأطفال الملائكية من عذوبة الصّوت الذي حملته نسائم الصّبح النّديّة إلى كل بيت في القرية.
دخل الإمام واستوى الحضور خلفه مستحضرين هيبة هذا اليوم ومشهد حجّاج بيت الله الحرام وصورة سيدنا إبراهيم الخالدة وهو يهم بذبح ابنه إسماعيل مصدّقا لرؤياه...
انتهت الصّلاة واستوى الإمام فوق المنبر مكبّرا وواعظا ومهنّئا وقد دمعت عيناه بينما ترقرقت العبرات قي عيني الحاج منصور وهو يذكر ما شهده من صور عيدا بعد عيد خلال سنوات عمره السبعين.
وما إن أنهى الإمام خطبته حتّى تعانق الحضور مهنئين بعضهم بعضا، وليغادروا المسجد تحفّهم الفرحة والأمل بفرج من الله لكل مكروب وشفاء لكل مريض وصبر واحتساب لكل مبتلى، لقد غسل العيد قلوبهم من الأدران والأحقاد وجدد أملهم وخفف ألمهم...

وصل موكب الحاج إلى بيت العائلة حيث تجمع أولاده الثلاثة مع زوجاتهم وأحفادهم كدأبهم كل سنة...رائحة البخور المنبعثة من كانون الحاجة مبروكة زوجة منصور كانت قد بلغت عنان السماء بينما كان صوت المدائح والأذكار المتسرب من المذياع المعلق في ركن من أركان "الحوش العربي" يملؤ المكان...

تقدّم الجميع مهنئين الحاج بداية وبعضهم بعضا نهاية قبل أن تُشحذ السّكاكين وتُخرج "معدّات الذّبح والسّلخ"...
أُخرج الكبش الأوّل ليفتتح الحاج مشهد النّحر حيث لم تنل سنوات عمره السبعون من قوة عضده صلابة قلبه وتماسكه، ليخر الكبش الأقرن صريع سكين الحاج التي لا ترحم، ثم يتكرر المشهد مع خرفان أبنائه وسط صياح النّساء وتحذير أبنائهن من النّظر إلى مشهد الدّم المتدفّق..بينما كانت الحاجّة مبروكة تخرج الأواني استعدادا لاستقبال "أحشاء الخرفان" أو ما يسمى "بالدواوير"...

علّقت الأضاحي بينما كان الحاج جالسا يترشّف كأسا من الشاي الأحمر المعتّق واضعا رجلا على رجل وموجّها لأبنائه وهم يقومون بسلخ الأضاحي الواحد تلو الآخر...في الأثناء كان أحد أحفاده يصوّر المشهد بجهاز تلفون محمول وسط تذمّر جدّته التي لا تطيق تصويرها وهي على تلك الحال...ضحك الحاج منصور وهو يشاهد زوجته وقد تلطّخت يداها بفضلات الخرفان وبعضا من دمائها وهي تحاول الفرار من كاميرا حفيدها "الملعونة" بينما كانت زوجات أبناء منصور منهمكات في غسل "الدواوير" بأكبادها وأمعائها وكروشها... عمل مضن وشاق يحرم النسوة من "صباح" العيد ويجعلهن أسيرات "الدواوير" وتنظيفها...

استلمت الحاجة مبروكة أكباد الخرفان ونثرت عليها "البهارات الدّياري" وبعضا من الملح ووضعتها في المقلاة وسط صياح الأطفال الذين أحاطوا بها من كل جانب انتظارا لنصيبهم من "الكبدة المشويّة"... وفي الأثناء توافد الجيران والأقارب مهنّئين العائلة بالعيد بينما كانت الحاجة تطاردهم بأجزاء من الكبدة المشوية وسط استعجالهم الخروج لتهنئة من تبقى في الحيّ...

مع انتصاف النّهار كانت "الدواوير" نظيفة والحاجة مبروكة تطبخ مرقتها الشّهيرة بأحشاء الخروف "الشمنكة" بينما كانت زوجات أبنائها تعجن "الفارينة" لاعداد الخبز العربي "الخصاص"....في الأثناء أفضت مفاوضات الحاج مع أبنائه على "تقطيع الأضاحي" بعد صلاة العصر عوض تأجيلها إلى يوم الغد نظرا لحرارة الطقس...
مع مغيب شمس يوم عيد الإضحى "قُطّعت" الأضاحي وأُهدى منها وتُصدّق طلبا للأجر من اللّه تعالى كدأب الحاج منذ عقود... لتُطوى صفحة أخرى من أعياد القرية حوت كثيرا من الفرح والأمل...
 
يوميّات جامعي "بطّال".
----------------------


بصعوبة فرك عينيه وفتحهما ببطء ليتسرّب نور الشّمس إلى عينيه المتورّمتين، كان صوت المؤذّن العجوز المتسرّب من شقوق الباب الخشبيّ ينادي النّاس ببحّة واضحة إلى صلاة الظّهر...لا يعلم كيف تذكّر جدّه الرّاحل حين كان يحمله معه إلى المسجد... لقد تعلّم الصّلاة على يديه صبياّ في التّاسعة من عمره، همّ بالنّهوض فأحسّ كأنّ مركز الجاذبيّة انزاح إلى رأسه...صداع العادة اللّعين يجثم فوق صدغيه ويكاد يشقّ رأسه نصفين...

حاول تذكّر آخر صلاة له...منذ سنة أو لعلّها سنة ونصف...تأمّل سقف غرفته وهمّ بالحديث إليه.."لا أعلم لما أبحث عنك في الأعلى وأنت تملأ الكون كما يقال... صغيرا كنت أجدك في كل مكان..في أحجار مسجد القرية القديم وفي أخشاب سقفه، كنت أجدك في صوت جدّي وهو يناديك في ركن المسجد حتى تتبلل لحيته البيضاء بدمعه المنسكب، مراهقا كنت أحسّ بسكينتك تملأ ذاتي...كانت روحي ترفرف راضية مرضية ومسجد الحيّ تهتزّ أركانه على صوت الإمام... كنت سعيدا...سنة مضت منذ أنهيت دراستي الجامعية وولجت عالم البطالة، بتّ لا أجدك في أي مكان... مثقل أنا بأحمالي أجوب كل السّبل إليك ولا أجدك... مثقل أنا بذكورتي الجامحة وبصحراء قلبي ومكبّل بأصفاد العجز والبطالة، بحثت عنك حتى انتهى دمعي واستحال جسمي تمثالا من الشّمع وعيني نافذة سجن يضيق حتى يكاد يستحيل ظلاما..."

يقطع نحيبه الصّامت طرق عنيف على الباب "انهض كفاك نوما" إنّه صوت أمّه الّتي تحرص كل يوم على "إزعاجه" وحثّه على الخروج...ثلاثة أيّام بلياليها لم يخرج ولم يقابل النّاس،... النّاس... لقد كره جلّهم وبدا له أنّه مركز نظراتهم حين يمشي في الشّارع، بل كان يُخيّل إليه أنّه مركز حديثهم وكرههم... كان يجترّ إجاباته "الثّقيلة" لبعضهم حول العمل والزّواج وحوّل جسمه الشّبحي الضّامر... لقد أضحى المرور في الشّارع "حفلة تعذيب فضيع" لم يعد به جلد لتحمّلها... زادت ظروف عائتله الصّعبة طينه بلّة.. خُيّل إليه مؤخّرا أنّ والديه يكرهانه ويتمنيان "اختفاءه" ، كان يردّد ذلك بينه وبين نفسه عاجزا عن إيجاد بديل عن جدران غرفته المظلمة...

وضع رأسه بين يديه وقد أطبقت عليه "ذكورته الجائعة" وجراح عجزه الغائرة و"بحثه اليائس" بينما كانت الحياة تحمله بين يديها وتعبر به البحر الهائج غير عابئة بحرب تستعر داخل ضلوع يائسة.
 
وادڨلتاه ! ... واعراجيناه !

------------------------


تلبّدت سماء نفزاوة بسحب سوداء وهبّ نسيم بارد منذر بمطر وشيك بينما كانت عينا "الميداني" ترمقان السّماء بقلق بادٍ... حاول إقناع نفسه بأنّها سحب عابرة لأرض النّخيل نحو الشّمال..شمال القمح والزياتين... في الأثناء ارتفع صوت أذان المغرب من مسجد القرية، تذكّر إمام المسجد و"جريمته النّكراء" حين أقنع النّاس بأداء صلاة الإستسقاء منذ مدّة... "أيوجد صلاة جفاف حتّى أؤدّيها ولو وحدي؟! " تساءل بينه وبين نفسه... مردفا "الشيخ غلّف عراجينه ولا يهمّه إن تعفّنت تمورنا..." لتقطع زوجته حواره الذّاتي قائلة "الصلاة يا ميداني... سلّم أمرك لله"... ليجيبها بحدّة "صلّي أنت... لقد تركت الصّلاة !" لتضرب زوجته كفّا بكفّ متمتمة "جُنّ الرّجل !".

بدأت حبّات المطر في النّزول وبدا أنّ الميداني يستسلم للأمر الواقع ممنّيا نفسه..بل محاولا إقناعها بأنّ الأمر يسير وستعبر السّحب سريعا لتتلألأ النّجوم ثانية في سماء نفزاوة... فكميّة قليلة من الأمطار لن تنال من عراجينه العارية المعلّقة بين السّماء والأرض...

لم تكفّ المطر على الهطول بل بدا أنّ حبّاتها أثقل وأكبر والبرق يكاد يضيء السّماء ليكشف عن سحب ركاميّة ثقيلة خُيّل للميداني أنّها "تُخرج" إليه لسانها شامتة... أفكار شيطانية بدأت تدور في رأسه الذي نال منه الصّداع "يبدو أنّ ملك المطر أخطأ الهدف... هذه نفزاوة وليست عين دراهم...احمل سحبك و"اقصد ربّي" !" يردّد الميداني بينه وبين نفسه قبل أن يستغفر ويحوقل...ظلّ الرّجل حتّى الفجر منتظرا ولم يغمض له جفن... كانت الحصيلة "المطريّة" ثقيلة على قلب الرّجل وعلى عراجينه التي سيكتشف صباحا أنّ عراءها كلّفه الكثير...

انبلج نور الصّبح لتعانق جدائل شمس الخريف النّاعمة جبال نفزاوة الحمراء ونخيلها الممتدّة عرضا وارتفاعا شامخة نحو سماء صافية تتردّد في أجوائها أصوات عصافير "الزرزور والزعيفري والشعيري والبحبيبي..." خرج الميداني منتفخ الجفنين ومحمرّ العينين نحو السّوق ليجلس كعادته مع بعض مشائخ وكهول القرية تحت سور محلّ "النّوري" لبيع المواد الغذائّية... سلّم بفتور قبل أن يطلب من أحدهم رقم هاتف "المنجي الضّبّ" وهو متخصص في تسلّق النّخيل وقطع عراجينها أو كما يُسمّى في نفزاوة "رڨاي" ليردّ عليه "عمر بوتلّيس" الّذي يعشق استفزاز سريعي الغضب من أمثال الميداني "عظّم اللّه أجرك في التميرات" ليردف كلامه بضحكة شيطانيّة أشبه بفحيح الأفاعي... لم يتمالك الميداني نفسه وفتل لسانه وأرسله كالسّهم نحو الرّجل صابّا عليه حمما من الكلام البذيء لينفجر "بوتلّيس" ضاحكا ..بل حتّى "العم علي" الشيخ الثمانيني الذي كان يراقب المشهد خلف نظاراته المقعّرة غلبه الضّحك حتى أصابه سعال حادّ ختمه "بقذيفة نُخاميّة" كادت تصيب جبّة الميداني...

غادر الميداني المكان بعد أن لامه سعيد مؤذّن القرية على ما تفوّه به وهمّ بأن يلقي عليه درسا في الأخلاق وفي الرّضا بالقضاء والقدر... و بعد جهد كبير حصل على رقم "المنجي الضّب" واتّفق معه على قطع العراجين بعد أيّام قليلة تجفّ أثناءها جذوع النّخيل وما تحمله من عراجين الدڨلة...

في اليوم الموعود كان "الضّب" في الواحة صحبة عدد من العمّال لتعبئة "شماريخ الدڨلة" في الصناديق... وهؤلاء العمّال يطلق عليه في نفزاوة "عبّاية".... فُرش الغطاء البلاستيكي "الباش" واستلّت "المِحاش" من أغمادها والحبال من أكياسها وابتدأ "الضبّ" في تسلّق النّخيل بخفّة ورشاقة تبرّر "الكنية" الّتى يحملها... كان الميداني يرقب المشهد بنظرة منكسرة وبصمت جنائزي... لقد قضت المطر على جلّ محصوله حيث تعفّنت حبّات الدّڨلة واخضرّ لونها ومن سلمت منها كانت ذات نوعيّة لا تجلب التجّار ولون يعكس تعرّضها لقطرات المطر... لثلاثة أيّام استمرّ قطع العراجين ليرى الميداني ثمرة جهود سنة كاملة ترمى في التّراب وتلقى بعيدا... كانت المداخيل كارثيّة أصابت الرّجل في الصّميم...

خرج من محلّ بيع التّمور بعد أن استلم "ملاليمه" وقد اسودّت الدّنيا في ناظريه ليجد أمامه جاره "حمد التكتاك" وهو الذي نصحه بعدم تغليف عراجينه لأن السّنة لن تكون ممطرة حسب "تخمينه"... توجّس "التكتاك" خيفة من ملامح جاره العصبيّ الذي وقفت شُعيرات شاربه غضبا واحمرّ وجهه لرؤيته بل وبدا أنّ الزّبد يسيل من شفتيه وخُيّل إليه أنّه سمع صوتا أشبه بأصوات الكلاب وهي توشك على أن تهجم على فرائسها... سرعان ما غيّر وجهته مسرع الخطى قبل أن تناله "عضّة" أو "شتيمة" مصحوبة بقذيفة "لُعابيّة" ساخنة...

حزينا ويائسا عبر الميداني الشّارع نحو بيته بينما كان أذان الظّهر ينبعث من المئذنة المجاورة... لا أحد يعلم كيف نزلت السّكينة فجأة على الفلاّح النفزاوي المحبط ليمسح دمعتين نزلتا من عينيه المتورّمتين ويلج المسجد في هدوء مسلّما أمره لمن بيده الرّزق... الحيّ الذي لا يموت.

 
التعديل الأخير:
أعلى