@
HaythamCaspr
لو انك قرأت ردي جيدا لادركت انني عرجت على مسألة تنامي الخطر على النظام الاقتصادي العالمي بسبب تزايد العقوبات التجارية التي تفرضها بعض الدول على دول اخرى. في المقابل ولحسن الحظ هناك تراجع بارز في الاستراتيجية العسكرية كبديل لتسليط العقوبات (عادة الدول الجامحة كايران وكوريا الشمالية وفنزويلا والتي لا تتقيد بالمعاهدات الدولية
تجد نفسها لاحقا في وجه مدفع العقوبات الدولية). وان تسليط عقوبات اقتصادية اهون بسنوات ضوئية من الخيار العسكري ..
انت هنا توصلت لاستنتاجك بان البشرية تعيش في اسوء فترة بناءا على فرضيات مشكوك في حدوثها. وساعود لهذه النقطة لاحقا..
ما اريد ان اقوله الان هو انك توصلت الى استنتاج خاطئ او على الاقل مبالغ فيه لان المقارنة بحد ذاتها غير متكافئة والتهديد الاقتصادي الذي يحدق بنا والذي قد يعصف بالنظام العالمي في المستقبل لا يرتقي اطلاقا الى مستوى المخاطر التي كانت تهدد سلامة المجتمعات والدول و بالتالي بقاء الجنس البشري.
مجرد الحديث عن اعتماد الدولار كعملة دولية والادعاء انه تسبب في خراب مجتمعاتنا او تعقيد حياتنا يفضي بنا مرة اخرى الى مقارنة سخيفة وفاقدة المعنى ومعيبة بحق كفاح اسلافنا منذ عصر الانسان البدائي الى منتصف القرن الماضي. وهذه الفترة التي نتعايش فيها الان بسلام وطمانينة ما هي الا محصلة مآسي توالت على اجيال سبقتنا، بدءا بالحروب مرورا بالاوبئة و انتهاءا بالكوارث الطبيعية ..
دول كانت لعقود تحاصر وتجوّع حتى الموت دول اخرى ..غزوات كانت تمحي تراث واثار الشعوب السابقة لها ..حروب تبشيرية وفتوحات رافقتها مجازر دموية مروعة ابادت جماعات عرقية ودينية واستأصلت معها ثقافات ومعتقدات تلك الشعوب ..ببساطة حضارات اندثرت من الوجود.
فان اسعفهم الحظ وافلتوا من الحروب قد لايوجد مهرب لهم من الاوبئة الفتاكة ..وان كنا الان نخشى من فيروس قتل بضعة الآف من الناس حول العالم، مرة كل عقد، تستنفر على اثره منظمة الصحة الدولية وينتشر الذعر حول العالم خوفا من العدوى. فماذا يمكن ان نقول عن وباء مثل الانفلونزا الاسبانية الذي، وفي سنة واحدة (1918)، اصاب ثلث سكان العالم..ماذا عن الطاعون الاسود الذي خفّض عدد سكان الارض الى الثلثين من 450 الى 300 مليون نسمة في القرن الرابع عشر.
بكل تاكيد فيروسات العصر الحديث اكثر خطورة وتطور لكنها لا تبدو كذلك بفضل التقدم المتواصل في المجال الصحّي.
،
هل تصدق ان متوسط امل الحياة عند الولادة قبل 1945 كان لا يتخطى 35 سنة؟
في مصر القديمة كان اقل من 25 سنة وفي روما القديمة يعيش الانسان 30 سنة وبقي هذا المعدل على حاله حتى منتصف القرن العشرين. وفور توقف الحرب العالمية الثانية وبعد سنوات من السلم العالمي والذي تزامن مع نهضة علمية وطفرة تكنولوجية غير معهودة على جميع الاصعدة ارتفع بدوره معدل حياة البشر الى 75 سنة. فترة السلم هذه على قصرها سمحت لنا بتسليط اهتمامنا على البحث العلمي لفائدة تحسين ظروف العيش مساهمة بذلك في تقدم الخدمات وتطوير وسائل الوقاية من الامراض والكوارث وتسهيل النفاذ للعلاج ..
لم تكن الحروب والاوبئة وحدها المسؤولة عن محق مجتمعات باكملها، بل انظمت لها الكوارث الطبيعية كخطر رئيسي يهدد استمرار الحياة. المجتمعات آنذاك كانت هشة وغير حصينة، اما الان برسالة sms يصلك تحذير من قدوم عاصفة تضعك في قلب الحدث لمعرفة هل ان مدينتك معرضة لخطر مرور اعصار مدمر من عدمه، كل ذلك قبل عدة ايام من وقوع الكارثة.
الان ندرة المياه تتصدى لها الدول بانشاء السدود والانهار الصناعية والخزانات العملاقة لتخزين المياه او المحاصيل الزراعية تحسبا لمستقبل غامض. وهكذا تحفظ الدول حياة الناس والمواشي والاراضي الزراعية عند حلول القحط. التاريخ يذكر ان مجتمعات باسرها ابيدت بسبب مرور بضعة سنوات من الجفاف. وهذا لا يحصل الان ابدا بما في ذلك اشد الدول فقرا ..في اسوء الاحوال دائما هناك فرضية استيراد الماء من الدول المجاورة. وهذه كذلك نعمة لم تكن موجودة في السابق.
اما اليوم كل بلد في العالم يتوفر على قسم ادارة الطوارئ للتعامل مع الظروف الاستثنائية بهدف الحد من الاضرار المادية والبشرية. بينما قبل نشأة علم الارصاد الجوية وظهور الاقمار الصناعية لم يكن هناك ما يعرف باجلاء المناطق المهددة، ولا يدرك الناس حجم الكارثة الا عندما تضرب. حينها فقط وبعد فوات الاوان ووقوع الفاس على الراس، يستفيق الناس على وقع المأساة، هذا ان استفاقوا!
لهذا السبب كذلك اجد نفسي محظوظ اليوم لاني اعيش في عصر تتخذ فيه الدول تدابير واجراءات استباقية واحتياطية لحماية الشعوب وانقاذ الملايين من الارواح. ولا يزال العلم يسعى لفك شفرة الزلازل..
حاضرنا اليوم هو حصيلة الآف السنوات من القتل والسفك والتي تمخضت عنها مواثيق ومعاهدات كانت ثمرة عمل دولي.
البشرية تحولت الى مجتمعات مدنية بفضل تراكم الوعي الاجتماعي، واخيرا اصبح لدينا، ولاول مرة في تاريخ الحصارة البشرية، مناعة ازاء مختلف الازمات والكوارث. كما كان لابد من وضع قوانين تحدد الحقوق وتنظم العلاقات الدولية وهكذا قطعنا نهائيا مع قانون الغابة، اين كان البقاء للاقوى.
اليوم في عصرنا هذا المواثيق الدولية تضمن حق الضعيف في البقاء وتعتبر الحرب غير مقبولة وانتهاك سيادة الدول مسالة باتت محرمة. وفي هذا السياق لابد ان نثمن مساعي المنظمات الدولية والجمعيات الحقوقية، على راسها الامم المتحدة، من اجل تجريم كل اشكال العنف وادانة مرتكبيها، واخذت بعاتقها مسالة حفظ السلام ولم يعد هناك اي مجال للتعدي على الغير تحت راية اي قضية كانت ربما باستثناء مكافحة الارهاب.
وما نلمسه اليوم من تراجع مكانة القوى التقليدية العظمى والتي اجبرت ان تطيع المعاهدات الدولية، يبدو ان شهيتها للحروب على نطاق واسع انقطعت. منذ انهيار الاتحاد السوفييتي لم تبقى من القوى العظمى الا امريكا مهيمنة على العالم بمفردها آخذة بعاتقها مامورية صون السلام الدولي وتتدخل من حين لاخر كلما قضت الحاجة بهدف وقف زحف الارهاب او وضع حد للحروب الاهلية والنزاعات الداخلية طبعا رغم كل مؤاخداتنا على النظام الامريكي..
كل هذا يدل على ان هذه الفترة القصيرة جدا من عمر البشرية هي بلا شك الاكثر هدوءا واستقرارا على هذا الكوكب اكثر من اي وقت مضى.
وعليه لا يمكنني الا ان اعبر عن سعادتي لانني اعيش في هذه الفسحة اين تتظافر فيها الجهود لنشر التسامح والتعددية واحترام التنتوع وتقبل الاخر، وما كان يحصل سابقا ليس له مكان في مجتمعنا المعاصر. فمن حقنا ان نستمتع بهذه الحياة لانها قد تكون فسحة اولى واخيرة في تاريخ الانسانية. ويوما ما في المستقبل البعيد قد تشير اليها كتب التاريخ بانها كانت العصر الذهبي في الحضارة البشرية.
*انا اعتبر نفسي محظوظ لان الحرب لم تعد خيار.. وزهق ارواح الابرياء اصبح جريمة ووصمة عار .
*انا اعتبر نفسي محظوظ لان الامبريالية زالت وفكرة الاستعمار بغرض استنزاف ثروات البلدان بدون وجه حق ولّت بدون رجعة.
*انا محظوظ لان التلقيح ضد جميع الامراض اصبح سهل المنال واجباري ..كما انه وقائي ضد امراض لم نصب بها بعد ..للاحتياط فقط. اضافة الى التطعيم قبل السفر.
*نحن محظوظين لان هذه الفترة ارتبطت بالتقدم العلمي الحاصل في كل المجالات وكنتيجة حياتنا اسهل بكثير مما كانت عليه سابقا.
*انا محظوظ لاني اعيش في عالم لا صوت يعلو فيه فوق صوت الحقوق وكرامة الانسان والمساواة..
*ومحظوظ كذلك بهذه المواثيق الدولية التي تحمي الاقليات وتجرم كل اشكال التمييز العنصري والعبودية على اسس دينية وعرقية ولغوية..
*انا محظوظ لانها فترة اصبح فيها تحقيق السلام هاجس دولي.
*وحظي يزداد بفضل السياسة الدولية لمجابهة الكوارث الطبيعية: حظوظي عالية جدا في النجاة من عاصفة او تسونامي او جفاف او فيضان ..ومطمئن لانني لن اموت جوعا او عطشا حتى لو انقلبت عليا ظروف معيشتي.
*بكل تاكيد اباؤنا كانوا محظوظين بفترة آمنة يتمكن فيها اطفالهم من ان ينعموا بالرفاهية والتسلية واللهو، ببساطة يعيشون طفولة طبيعية ..مفهوم كان منقرض قبل الحرب العالمية.
*انا محظوظ لاننا لو عشنا كما عاش اسلافنا القدامى لربما كنا الان سلع تعرض في سوق العبيد الاسبوعي في احد الفورومات العامة للحضارات القديمة او:
-ماذا لو عشت في قرطاج القديمة؟ ربما لوقع جرّي بالقوة كقربان لاحد الالهة
-ماذا لو كنت سجين في روما القديمة ؟ ربما لالقي بي في حلبات مصارعة الـGladiators
-ماذا عن القرون الوسطى؟ طبعا ليست بافضل حال ..ربما لانتهيت جثة مرمية في الطريق العام على خلفية انتشار طاعون قاتل. او ربما لابيدت عائلتي بوباء لا ندري حتى اسمه
-لحظة ماذا لو كنت ملك او امبراطور ؟
..لا تفرح! الجميع سيكيد لي الدسائس لاغتيالي ..ربما تاتي طعنة الظهر، من عائلتي اقرب الناسلي، طمعا في السلطة والثروة
سمعت وانا اتابع احد المسلسلات ان 45 من اصل 250 بابا فاتيكان ماتوا موتة شنيعة .. حتى من رموز الديانات لم تسلم من الغدر والاغتيال!
*ماذا لو ضربنا جفاف ؟ لن نجد قطرة واحدة و سنموت عطشا..
*ماذا لو عشت في العصر البرونزي؟ ..ووجه زوجتي هذا لا يفارقني
..ساتمنى حينها حصول الفرضية السابقة
الخلاصة نحن اكثر اجيال العالم حظا باستثناء الفرضية الاخيرة
والثابت ايضا انها ليست فترة سلام مطلقة طبعا في ظل تفشي الارهاب وهي آفة العصر الان، لكن بكل ثقة اقول انها فسحة من السلم والراحة غير مسبوقة ولم تتذوقها البشرية من قبل وكم نحن محظوظين اننا من مواليدها.
سافسر لك لاحقا كيف ان خطر انهيار البلدان اقتصاديا وما قد يخلفه من تبعات تبدو جميعا شاحبة جدا مقارنة بالمخاطر التي كانت تحدق من كل صوب وجانب باسلافنا القدامى ..فلا سعر صرف الدولار ولا العقوبات الاقتصادية بامكانهما تهديد استمرارية الجنس البشري.