- إنضم
- 16 ماي 2008
- المشاركات
- 4.281
- مستوى التفاعل
- 16.676
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
------------------------
حدثنا الحارث ابن أبي عون
أتانا أعرابي , و نحن في حلقة الشيخ أبي سعيد النحوي فسلّم و استخبر عن الحال, و بادر الجمْع بالسّؤال: " حَسِبت أنكم تَكَأْكَأْتُمْ لإجتماع نوفمبري وهو على الأبواب , و إني لأشهد أنه إجْمَاعُ الأحْبَاب , و مُلْتَقَى الأصْحَاب , و إنّي أتَيْتُ مِن بعيد , و قطعت من أجله الفيافي و الأخاديد , و إني لهممت بالدخول , ظنّا مني أنه تآلف الفُلُول "
فرد الشيخ في غيض مكْتُوم و قَلْبٍ مَكْلُوم : لا أبَ لك لسْنَا من الفُلُول .. أتَرانا نلْعق الأدِيمَ بالألسُن, أنفض غُبَار السّفر عنْك و أجلس , فتوسّط الأعرابي المكان و إتّخذ مجْلِسهُ بيْن الخِلّانْ .
أكمل الشيخ خطابه : "ثم إننا لسنا على أبواب نوفمبر , و ليس هنالك من على الأسْوار يُزمّرْ , إلاّ تلك التّي يُقَال لها : "عبير بنت موسي" تراها تنْهَى كَمَا تُريد , كأنّهَا فِي حَضْوَةِ
الرَّشِيد , وهي ليست بأحسن حالا من " كُرْشِيدْ " . سبِيلهم في ذلك الهِيَاطُ و المِيَاط و تمزيق النّيَاطْ . تراهم جميعا و قلوبهم شتى , و لا يُعْلُون للشّرف الرّفِيع البَتّة . شأنهم في
ذلك شأن " إخوان الصفاء" أبعد الناس عن شِيَمِ الوفَاء .
فعَلِم الأعْرابي أن مُبتغاه ضَاع و ليسَ لهُ في المجلس بَاع , فإنْكَفَأ عَلِيْه الشّيخ و قال : ما الذي أصابك؟ , و قَلَبَ حَالَك ؟
هَمْهَم الأعرابي في أُذن الشّيْخ بِكلمات كأنّها الطّلامِسُ , بل هي أخْفَى مِنْ دبيب نَمْلٍ في الظّلام الدّامس
ثُم ضَحِكَ حتّى بدَتْ مِنْهُ النّوَاجِذ, ومَا مِنْ عَاذِلٍ عَلَيْه و لا مُؤاخذ , فضحك الشيخ هو الآخر حتى دَمِعَتْ عيناه , و فَارَق الحَياءُ مُحَيّاه .
ثم قال : لقد ذكّرتنا أخَ العِرْبَان بالذي مَضَى , وكَان و مَا جَرى لِمَجْلسي في الشّباب , إذْ كُنّا حَدِيثِي العَهْدِ بالغَاوِينَ و الأذْنَاب.
فَكَانَتْ تُنْصَبُ مَوَائِدُ الثّرِيدِ فَيُصِيبُ مِنْها كُلّ أَفّاقٍ مُرِيد, و يُحْمَلُ " العُمْدَةُ" عَلَى الأعْناق حتّى تُصاب بشيء مِن الإرْهَاق .
و كُنّا نَتَكلّمُ إلاّ كِفَافًا , و نمْشِي خِفَافًا , لاَ نَلْوِي عَلَى شيْء في ذاك البَرّ , إلا إتّقَاءَ الشّر .
فلا تُلْقِى للزّمن الغَابِرِ بَال , فالآن لسْنا بأفْضَلِ حَالْ , و أنْظُر إلى الرّعية , و مَا هُم فِيه من سُوءٍ و بَلِيَّة , حتّى مَوَائِدُ الثّرِيد , أضْحَتْ مِن نَصِيب الإخْوانِ و " الإخشيد ", وليْسَ فِي مَجْلِسِنا مَا يُطْحَنُ فِي المِدَقّ, أوْ يَسُدّ الرّمَق , فقد أصَابَنَا مَا
أصَابَكَ , وَ مَا ضَحِكْتُ إلاّ عَلى إِحْتِطَابِك , و خيْبَةِ رَجَائِكَ وَ مآبَك , و إنّا نَدْعُو الله السّلامَة مِمّا هُو آت , و نسْألُه زِيَادَة في الأقوات .علَى أن تتْرُكَنَا الفُلُول و الإخْوان و مَا لفّ لفِيفُهُم من نَمَّامٍ و خَوّان . ثُم قَطَعَتْ حَدِيث الشّيخ قَرْقَرَةُ مَعِدَتِه
مِن الجُوع , كأنّها بَقْبَقَةُ اليُنْبُوع , فأصْبَحَتْ حَدِيث المَجْلِس لسَاعة قضُّوهَا فِي حُبُور , و تَفَكُّهٍ و سُرُور , و نَسُوا مَا هُمْ فِيه مِن فَقْرٍ و قَتَرٍ .
ثم مضى الأعرابي ينشد :
وما الفقرُ عيباً ما تَجمَّلَ أهلُهُ
ولم يسألوا إلا مُداواة َ دائِهِ
ولا عيب إلا عيبُ من يملك الغِنى
ويمنعُ أهلَ الفقرِ فضلَ ثرائهِ