أبوفراس الحمداني (320 - 357هـ، 932 - 968م). الحارث بن سعيد الحمداني. من شعراء القرن الرابع الهجري. من قبيلة تغلب، وُلد على الأرجح بالموصل. قُتل أبوه وهو ابن ثلاث سنوات فاحتضنته أمه، ورعاه ابن عمه سيف الدولة، أمير حلب، وعاش في بلاطه بحلب يرعاه لما توسَّمه من ذكائه وشجاعته. وتخرج على أكبر العلماء الذين ضمهم بلاط سيف الدولة، تضلع في الشعر واللغة والرواية، ودربه سيف الدولة على أمور الفروسية، واصطحبه معه في غزواته للروم والقبائل العربية المتمردة. نازل الروم في عدة مواقع، وقهر قبائل كعب وكلاب ونُمير وقُشير التي ثارت على سيف الدولة، وقد نصّبه سيف الدولة أميرًا على منبج.
وأهم أحداث حياته أَسْر الروم له، وقد اختلفت الروايات في ذلك: فالثعالبي صاحب يتيمة الدهر يقول: إنه أُسِر مرة واحدة، فحُمل إلى خرشنة ومنها إلى القسطنطينية. وابن خلِّكان في وفيات الأعيان يقول: إن أبا فراس أُسِر مرتين: مرة بمغارة الكحل وسُجن في خرشنة، ومرة في منبج وهو وال عليها، وحُمِلَ إلى القسطنطينية وطال عليه الأَسْر، وتباطأ سيف الدولة في فكاكه، فأخذ أبو فراس يستعطفه ويلومه على هذا التباطؤ، ولم يفتك من الأسر إلا بعد سبع سنوات. في هذه الأثناء نظم رومياته المشهورة، ولا يعلم المرء أسباب تباطؤ سيف الدولة في فكاكه: أهو لحرص الروم على استبقائه في الأسر؟ أم لاعتزازه بشجاعته وخوف سيف الدولة من طموحه؟ أم لاعتبارات أخرى؟ وأخيرًا افتداه سنة 355هـ، 965م، وتوفي سيف الدولة سنة 356هـ، 966م . فلما حاول أبو فراس اقتطاع حمص من ابن أخته: سعد الدولة وهو ابن سيف الدولة وجّه إليه ابن أخته مولاه قرغويْه فتغلب على أبي فراس وقتله سنة 357هـ، 967م. لأبي فراس ديوان شعر مطبوع، وأجمل مافيه قصائده الروميات، وهي التي نظم قسمًا منها في خرشنة وآخر في القسطنطينية، ودفعه إلى نظمها تبرُّمه بطول أسره، وسخطه على القعود عن القتال، وغيظه من ابن عمه الذي تباطأ في فكاكه، وشعوره بذلّ الأسر، وحقده على آسريه، وشكواه من الزمان. وهو يصف فيها شخصيته وأخلاقه وحنينه إلى وطنه وحبه، وشوقه إلى أمه وبنته وأهله، ويظهر فيها عزة نفسه، ويذكر فيها حواره مع الدمستق. وأشهرته رومياته دون سائر شعره، لما فيها من عمق العاطفة وسمو الروح وقوة الأسلوب، وانطباعها بطابع القوة. ومن أشهر قصائدة التي ذاعت رائيته؛ يقول مطلعها: أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر** أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمر
فأبو فراس لا ينظم الشعر إلا حين يشعر بفيض العاطفة واهتزاز النفس طربًا وألمًا، ولم ينظم تكسبًا للمال، ولا تكلفًا لفنون شعرية لا تعجبه. فإذا أجاد في الفخر فلأنه يشعر بمكانته ويعتز برجولته، وإذا أجاد في الغزل فلأنه كان ذا نفس مرهفة حساسة تتأثر بآيات الجمال وتشعر بخوالج الحب، وإذا قصّر في المديح والهجاء فلأن له من مكانته ما يسمو به عن التكلف والتزلف والتكسب، وإذا قصّر في الرثاء فلأنه تعود رؤىة مشاهد الموت، لذا فإنه لم يقل الشعر إلا تلبية لدواعي النفس. وهذا ما حمل الصاحب بن عباد على أن يقول: ¸بدئ الشعر بملك وخُتم بملك·.
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى ،أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا بت ظمآنا فلا نزل القطر
حفظت وضيعت المودة بيننا
وأحسن من بعض الوفاء الغدر
وما هذه الأيام إلا صحائف
لأحرفها ، من كف كاتبها ، بشر
بنفسي من الغادين في الحي غادة
هواي لها ذنب ، وبهجتها عذر
تروغ إلى الواشين في ، وإن لي
لأذنابها عن كل واشية وقر
بدوت وأهلي حاضرون ، لأنني
أرى أن دارا لست من أهلها قفر
وحاربت قومي في هواك ، وإنهم
وإياي ، لولا حبك ، الماء والخمر
فإن يك ما قال الوشاة ولم يكن
فقد يهدم الإيمان ما شيد الكفر
وفيت وفي بعض الوفاء مذلة
لإنسانة في الحي شيمتها الغدر
وقور ، وريعان الصبا يستفزها
فتأرن أحيانا كما أرن المهر
تسائلني : من انت ؟ وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت لها : لو شئت لم تتعنتي
ولم تسألي عني ، وعندك بي الخبر
فقالت : لقد أزرى بك الدهر بعدنا
فقلت : معاذ الله ، بل انت لا الدهر
وما كان للأحزان لولاك مسلك
الى القلب ، لكن الهوى للبلى جسر
وتهلك بين الهزل والجد مهجة
إذا ما عداها البين عذبها الهجر
فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق
وأن يدي مما علقت به صفر
وقلبت أمري لا أرى لي راحة
اذا البين أنساني الح بي الهجر
فعدت إلى الزمان وحكمها
لها الذنب لا تجزي به ولي العذر
فلا تنكريني يا ابنة العم ، انه
ليعرف من انكرته البدو والحضر
ولا تنكريني ، إنني غير منكر
إذا زلت الأقدام ، واستنزل الذعر
وإني لجرار لكل كتيبة
معودة أن لا يخل بها النصر
وإني لنزال بكل مخوفة
كثير الى نزالها النظر الشزر
فاظمأ حتى ترتوي البيض والقنا
وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ولا أصبح الحي الخلوف بغارة
ولا الجيش ، ما لم تأته قبلي النذر
ويا رب دار لم تخفني منيعة
طلعت عليها بالردى أنا والفجر
وحي رددت الخيل حتى ملكته
هزيما ، وردتني البراقع والخمر
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها
فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبت لها ما حازه الجيش كله
ورحت ولم يكشف لأبياتها ستر
ولا راح يطغيني بأثوابه الغنى
ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره
إذا لم أصن عرضي فلا وفر الوفر
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى
ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ
فليس له بر يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي : الفرار أو الردى؟
فقلت : هما أمران احلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني
وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
يقولون لي بعت السلامة بالردى
فقلت : أما والله ، ما نالني خسر
وهل يتجافى الموت عني ساعة
إذا ما تجافى عني الأسر والضر ؟
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره
فلم يمت الانسان ما حيي الذكر
ولا خير في دفع الردى بمذلة
كما ردها يوما بسوءته عمرو
يمنون أن خلو ثيابي ، وإنما
علي ثياب من دمائهمو حمر
وقائم سيف فيهمو اندق نصله
وأعقاب رمح فيه قد حطم الصدر
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فإن عشت ، فالطعن الذي يعرفونه
وتلك القنا والبيض والضمر الشقر
وإن مت فالإنسان لا بد ميت
وإن طالت الأيام وانفسح العمر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به
وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ونحن اناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
أعز بني الدنيا وأعلي ذوي العلا
وأكرم من فوق التراب ولا فخر
خرج ابن أخت ملك الروم إلى نواحي منبج في ألف فارس من الروم، فصادف أبا فراس يتصيد سبعين فارسا، فقاتلهم حين لم يجد من لقائهم بدا بغير الفرار، فأصيب بسهم فأخذوه أسيرا، وطلب الروم فداء لأبي فراس إطلاق سراح أخي "بودرس" ابن أخت ملك الروم الذي كان أسيرا لدى سيف الدولة، فكتب إليه أبو فراس يحثه على الفداء:
دَعوتـُكَ للجَفــن القريـْــحِ المسهـَّــدِ
لــديّ، وللنـــوم القليــل المُشـــرَّدِ
ومـــا ذاك بُخــلا بالحيــــاةِ وإنهــا
لأولُ مبــــذولٍ لأولِ مُــجـتـــــــدِ
وما الأسر مما ضقت ذرعا بحمله
وما الخطب مما أن أقول له قـَـــدِ
وما زل عني أن شخصا معرضــا
لنبل العد ىإن لم يصب فكأنْ قـَـدِ
ولســـت أبالي إنْ ظفــرت بمطلبٍ
يكونُ رخيصًا أو بوسْــمٍ مُــــزوَّدِ
ولكنني أختــــار مـــوت بنــي أبي
على صهوات الخيل غيـــر موسدِ
وتأبى وآبـــى أن أمــــوتَ مـُـوسدًا
بأيدي النصارى موتَ أكمـــدَ أكبدِ
نضوت على الأيام ثـوب جــلادتي
ولكنني لـــم أنـض ثـــوب التجلــدِ
دعوتك والأبــواب ترتـــجُ دوننـــا
فكن خيــــرَ مدعــــوٍّ وأكرمَ منجدِ
فمثلك مــن يـُـدعى لكــلِّ عظيمــة
ومثلي منْ يفدى بكــــلِّ مُسـَـــــوَّدِ
أناديكَ لا أني أخافُ من الـــرَّدى
ولا أرتجيْ تأخيرَ يومٍ إلى غَــــــدِ
متى تـُخلفُ الأيامُ مثلي لكـُــمْ فتى
طويلَ نجادِ السيف رحبَ المقلـَّـــدِ
متى تلدُ الأيـــام مثـلي لكــــم فتى
شديدًا على البأســـاءِ غيـــرَ مُلَهَّـــدِ
يطاعنُ عن أعـراضكم بلســـانـِـهِ
ويضربُ عنكمْ بالحســـامِ المُهنــَّـدِ
فما كلُّ منْ شاء المعالي ينــالهـــا
ولا كل سيَّارٍ إلى المجد يَهتــَـــدِي
وإنك للمولى الــذي بــكَ أقتـــدي
وإنك للنجمُ الــــذي بـــه أهتــَــدي
وأنت الذي عرَّفتني طـُــرقَ العلا
وأنت الــــــذي أهويتني كلَّ مقصدِ
وأنت الـــذي بلغتني كـــل رتبــة
مشيت إليهـــــا فوق أعناق حُسَّدي
فيا مُلبسي النعمى التي جلَّ قدرها
لقد أخـْـلـَقـَتَ تلـك الثيــــابُ فجَـدِّدِ!
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.