الترك ليس بحجة في شرعنا ****لا يقتضي منعا ولا إيجابا

AlHawa

نجم المنتدى
إنضم
31 ديسمبر 2006
المشاركات
5.429
مستوى التفاعل
10.744
يستدل كثير من المتشددين على عدم جواز أمور كثيرة يقوم بها المسلمون بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها وأصحابه رضي الله عنهم، فهل ترك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأمر يدل على عدم جواز فعله ؟ إن موضوع هذا السؤال ألف فيه الشيخ العلامة السيد عبد الله بن الصديق الغماري رسالة سماها : «حسن التفهم والدرك لمسألة الترك»، وقد افتتحها بأبيات جميلة ؛حيث قال :
الترك ليس بحجة في شرعنا ****** لا يقتضي منعا ولا إيجابا

فمن ابتغى حظرًا بترك نبينا ****** ورآه حكمًا صادقًا وصوابا

قد ضل عن نهج الأدلة كلها ****** بل أخطأ الحكم الصحيح وخابا

لا حظر يمكن إلا إن نهي أتى ****** متوعدا لمخالفيه عذابا

أو ذم فعل مؤذن بعقوبة ****** أو لفظ تحريم يواكب عابا

ولقد اتفق علماء المسلمين سلفًا وخلفًا شرقًا وغربًا على أن الترك ليس مسلكًا للاستدلال بمفرده، فكان مسلكهم لإثبات حكم شرعي بالوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو الحرمة هو : 1- ورود نص من القرآن. 2- ورود نص من السنة. 3- الإجماع على الحكم. 4- القياس. واختلفوا في مسالك أخرى لإثبات الحكم الشرعي منها : 5- قول الصحابي. 6- سد الذريعة. 7- عمل أهل المدينة. 8- الحديث المرسل. 9- الاستحسان. 10- الحديث الضعيف، وغير ذلك من المسالك التي اعتبرها العلماء، والتي ليس بينها الترك.
فالترك لا يفيد حكمًا شرعيًّا بمفرده، وهذا محل اتفاق بين المسلمين، وهناك من الشواهد والآثار على أن الصحابة رضي الله عنهلم يفهموا من تركه صلى الله عليه وسلم التحريم ولا حتى الكراهة، وذلك ما فهمه الفقهاء عبر العصور. وقد رد ابن حزم على احتجاج المالكية والحنفية على كراهة صلاة الركعتين قبل المغرب بسبب أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يصلونها، حيث قال ما نصه : «وهذا لا شيء؛ أول ذلك أنه منقطع؛ لأن إبراهيم لم يدرك أحدًا ممن ذكرناه، ولا ولد إلا بعد قتل عثمان بسنين، ثم لو صح لما كانت فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما، ولا أنهم كرهوهما، ونحن لا نخالفهم في أن ترك جميع التطوع مباح»([1])، فلم يتوقف كثيرًا ابن حزم أمام ترك الصحابة لصلاة الركعتين، وقال أن تركهم تلك الصلاة لا شيء، طالما أنهم لم يصرحوا بكراهتها، ولم ينقلوا ذلك.
وهذا مسلكه مع ترك الصحابة لعبادة، وكان ذلك عين موقفه من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبادة أصلها مشروع حيث قال في الكلام على ركعتين بعد العصر : «وأما حديث علي بن أبي طالب فلا حجة فيه أصلاً؛ لأنه ليس فيه إلا إخباره رضي الله عنه بما علم؛ من أنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما، وهو الصادق في قوله، وليس في هذا نهي عنهما، ولا كراهة لهما؛ [وما] صام عليه السلام قط شهرًا كاملًا غير رمضان؛ وليس هذا بموجب كراهية صوم [شهر كامل تطوعًا]»([2])، فلقد فهم من ترك النبي صلى الله عليه وسلم صيام شهر كامل غير رمضان، ما لا يدل على حرمة ولا كراهة صيام شهر كامل غير رمضان، حتى وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الخطبة على المنبر، وخطب على الجذع، ولم يفهم الصحابة أن الخطابة على المنبر بدعة ولا حرام، فقاموا بصنع منبر، له صلى الله عليه وسلم([3])، وما كان لهم أن يقدموا على فعل حرمه النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أنهم كانوا لا يرون الترك بدعة.
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بعد رفع الرأس من الركوع : «ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا ... » إلى آخر الحديث، ولم يفهم الصحابي أن مجرد تركه صلى الله عليه وسلم للدعاء في الصلاة يوجب الحظر، وإلا كيف يقدم على شيء وهو يعتقد حرمته، ولم يعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على المسلك ،فلم يقل له مثلا: «أحسنت ولا تعد» أو نهاه عن إنشاء أدعية أخرى في الصلاة، وكما نعلم فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والحديث رواه رفاعة بن رافع الزرقي، قال : كنا يومًا نصلى وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال : « سمع الله لمن حمده ». قال رجل وراءه : ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال : «من المتكلم؟». قال : أنا. قال «رأيت بضعة وثلاثين مَلَكًا يبتدرونها، أيهم يكتبها أول »([4]). وعقب الحافظ ابن حجر هذا الحديث بقوله : «واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور»([5]). فإن كان هذا الحال في إنشاء ذكر غير مأثور في الصلاة، فالأمر خارج الصلاة أوسع من باب أولى.
ولم يفهم سيدنا بلال رضي الله عنه من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة ركعتين بعد الوضوء عدم جواز ذلك، بل قام بذلك، ولم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا : «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة» . قال : ما عملت عملاً أرجى عندي، أنى لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلى .قال أبو عبد الله : دف نعليك يعنى تحريك([6]).
فنحن نعلم أن الصلاة بعد الوضوء سارت سنة بعد إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها، ولكن نستدل بفهم الصحابة بجواز إنشاء أدعية وصلوات في أوقات تركها النبي صلى الله عليه وسلم ونستدل كذلك بعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المسلك والأسلوب، وعدم نهيهم عنه في المستقبل.
فمما سبق نعلم أن مطلق الترك من النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وحتى القرون الثلاثة الخيرية، لا يفيد شيئًا، لا تحريم ولا كراهة ولا غيرهما، وهذا ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم فهمهم، وفهمه العلماء من بعدهم، نسأل الله أن يفهمنا ديننا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والله تعالى أعلى وأعلم.

([1]) المحلى بالآثار، لابن جزم، ج2 ص22.

([2]) المصدر السابق، ج2 ص36.

([3]) روى ذلك البخاري في موضعين : ج2 ص908 ،وج3 ص1314.

([4]) أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 340، والبخاري في صحيحه، ج1 ص 275، وأبو داود في سننه، ج1 ص 204، والنسائي في سننه، ج1 ص 222، ومالك في الموطأ، ج1 ص 211، والبيهقي في الكبرى، ج2 ص 95.

([5]) فتح الباري، لابن حجر، ج2 ص 287.

([6]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج1 ص366، ومسلم في صحيحه، ج4 ص1910.
 
أعلى