تفسير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور "التحرير و التنوير" لجزء عم

EL Mister

عضو فريق العمل بالمنتدى الإسلامي
إنضم
20 سبتمبر 2007
المشاركات
1.489
مستوى التفاعل
2.348
:besmellah1:

تفسير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور "التحرير و التنوير" لجزء عمّ

Doc061.jpg


توازيا مع موضوع "هنا نحفظ جزء عمّ إن شاء الله" نضع بين أيديكم إن شاء الله تفسير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور "التحرير و التنوير" للسور التي سيتم إن شاء الله حفظها.

التعريف بالتفسير :
وتفسيره المسمى بالتحرير والتنوير اسمه الأصلي : "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد وتفسير الكتاب المجيد" .
والكتاب له طبعتان : طبعة على هيئة أجزاء متفرقة نشرتها الدار التونسية للنشر ، وطبعة في خمس مجلدات.
قدم له المؤلف بتمهيد واف ذكر فيه مراده من هذا التفسير وقال :
"فجعلت حقًا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها ، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها ، فإن الاقتصار على الحديث المعاد ، تعطيل لفيض القرآن الذي ماله من نفاد ، ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين : رجل معتكف فيما شاده الأقدمون ، وآخر آخذ بمعولة في هدم ما مضت عليه القرون وفي تلك الحالتين ضر كثير ، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير ، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده وحاشا أن ننقضه أو نبيده ، علما بأن غمص فضلهم كفران للنعمة ، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة .( )"
وقد ذكر فيها أهم التفاسير في نظره فبدأها بتفسير الكشاف ثم المحرر الوجيز ثم مفاتيح الغيب وتفسير البيضاوي والآلوسي وذكر بعض الحواشي على الكشاف والبيضاوي وتفسير أبي السعود والقرطبي وتقييد الأبي على ابن عرفة وتفسير ابن جرير ودرة التنزيل . ثم قال : ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها .
فكأنها مراجعه الأساسية .

وقد أتبع كلامه عن تفسيره بعشر مقدمات :
الأولى : في التفسير والتأويل وتعرض فيه لبيان أن التفسير ليس علمًا إلا على وجه التسامح وناقش ذلك بمقدمات منطقية ترسم أبعادًا لمنهجه العقلاني الذي يتضح من خلال مطالعة تفسيره شيئًا فشيئًا .( )
وقد أثنى في تلك المقدمة على تفسيري الكشاف وابن عطية وقال : وكلاهما عضادتا الباب ومرجع من بعدهما من أولي الألباب . ( )

المنهج العام للتفسير :( )
وتفسير التحرير والتنوير بعتير في الجملة تفسيرا بلاغيا بيانا لغويا عقلانيا لايغفل المأثور ويهتم بالقراءات . وطريقة مؤلفه فيه أن يذكر مقطعا من السورة ثم بشرع في تفسيره مبتدئا بذكر المناسبة ثم لغويات المقطع ثم التفسير الإجمالي ويتعرض فيه للقراءات والفقهيات وغيرها .
وهو يقدم عرضا تفصيليا لما في السورة ويتحدث عن ارتباط آياتها . ( )


الكتاب موجود بموقع إسلام واب لمن أراد الإطلاع عليه بأكمله

ولمزيد الفائدة يسرني أن أقدم لكم هذا الكتاب القيم في ترجمة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً:
الكتاب:
محمد الطاهر ابن عاشور حياته و آثاره
تأليف: د. بلقاسم الغالي
مطبعة: دار ابن حزم
سنة: 1996
260 صفحة
رابط مباشر
رابط آخر
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( قل أعوذ برب الفلق ( 1 ) من شر ما خلق ( 2 ) ومن شر غاسق إذا وقب ( 3 ) ومن شر النفاثات في العقد ( 4 ) ومن شر حاسد إذا حسد ( 5 ) )


مقدمة

سمى النبيء - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة ( قل أعوذ برب الفلق ) . روى النسائي عن عقبة بن عامر قال : اتبعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب ، فوضعت يدي على قدمه فقلت : أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف ، فقال : لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من ( قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ) .

وهذا ظاهر في أنه أراد سورة ( قل أعوذ برب الفلق ) ; لأنه كان جوابا على قول عقبة : أقرئني سورة هود إلخ ، ولأنه عطف على قوله : ( قل أعوذ برب الفلق ) قوله : ( قل أعوذ برب الناس ) ولم يتم سورة ( قل أعوذ برب الفلق ) .

عنونها البخاري في صحيحه ( سورة قل أعوذ برب الفلق ) بإضافة سورة إلى أول جملة منها .

وجاء في بعض كلام الصحابة تسميتها مع سورة الناس ( المعوذتين ) . روى أبو داود والترمذي وأحمد عن عقبة بن عامر قال : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات ( بكسر الواو المشددة وبصيغة الجمع بتأويل الآيات المعوذات ) أي : آيات السورتين . وفي رواية ( بالمعوذتين في دبر كل صلاة ) . ولم يذكر أحد من المفسرين أن الواحدة منهما تسمى المعوذة بالإفراد ، وقد سماها ابن عطية سورة المعوذة الأولى ، فإضافة ( سورة ) إلى ( المعوذة ) من إضافة المسمى إلى الاسم ، ووصف السورة بذلك مجاز يجعلها كالذي يدل الخائف على المكان الذي يعصمه من مخيفه أو كالذي يدخله المعاذ .

وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير ( سورة الفلق ) .

وفي الإتقان : أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين ( بتقديم الشينين [ ص: 624 ] على القافين ) من قولهم خطيب مشقشق اهـ . ( أي : مسترسل القول تشبيها له بالفحل الكريم من الإبل يهدر بشقشقة ، وهي كاللحم يبرز من فيه إذا غضب ) ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك .


وفي تفسير القرطبي والكشاف أنها وسورة الناس تسميان ( المقشقشتين ) ( بتقديم القاف على الشينين ) زاد القرطبي : أي : تبرئان من النفاق . وكذلك قال الطيبي ، فيكون اسم المقشقشة مشتركا بين أربع سور : هذه ، وسورة الناس ، وسورة براءة ، وسورة الكافرون .

واختلف فيها أمكية هي أم مدنية ؟ فقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وعكرمة : مكية ، ورواه كريب عن ابن عباس . وقال قتادة : هي مدنية ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس .

والأصح أنها مكية ; لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلم .

وقال الواحدي : قال المفسرون إنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وليس في الصحاح أنها نزلت بهذا السبب ، وبنى صاحب الإتقان عليه ترجيح أن السورة مدنية ، وسنتكلم على قصة لبيد بن الأعصم عند قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد .

وقد قيل : إن سبب نزولها والسورة بعدها أن قريشا ندبوا ، أي ندبوا من اشتهر بينهم أنه يصيب النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعينه ، فأنزل الله المعوذتين ليتعوذ منهم بهما ، ذكره الفخر عن سعيد بن المسيب ولم يسنده .

وعدت العشرين في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الفيل وقبل سورة الناس .

وعدد آياتها خمس بالاتفاق .

واشتهر عن عبد الله بن مسعود في الصحيح أنه كان ينكر أن تكون المعوذتان من القرآن ، ويقول : إنما أمر رسول الله أن يتعوذ بهما ، أي : ولم يؤمر [ ص: 625 ] بأنهما من القرآن . وقد أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القراءة بهما في الصلاة وكتبتا في مصاحفهم ، وصح أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهما في صلاته .

والغرض منها تعليم النبيء - صلى الله عليه وسلم - كلمات للتعوذ بالله من شر ما يتقى شره من المخلوقات الشريرة ، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر ، والأحوال التي يستر أحوال الشر من ورائها لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها ، فعلم الله نبيئه هذه المعوذة ليتعوذ بها ، وقد ثبت أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهذه السورة وأختها ويأمر أصحابه بالتعوذ بهما ، فكان التعوذ بهما من سنة المسلمين .


قل أعوذ برب الفلق ( 1 ) من شر ما خلق ( 2 )

الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ لأنها التي عينها الله للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ليتعوذ بها فإجاباتها مرجوة ، إذ ليس هذا المقول مشتملا على شيء يكلف به أو يعمل حتى يكون المراد : قل لهم كذا كما في قوله : ( قل هو الله أحد ) ، وإنما هو إنشاء معنى في النفس تدل عليه هذه الأقوال الخاصة .

وقد روي عن ابن مسعود في أنه سأل النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن المعوذتين فقال : ( قيل لي قل ، فقلت لكم فقولوا ) . يريد بذلك المحافظة على هذه الألفاظ للتعوذ ، وإذ قد كانت من القرآن فالمحافظة على ألفاظها متعينة والتعوذ يحصل بمعناها وبألفاظها حتى كلمة ( قل ) .

والخطاب في ( قل ) للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وإذ قد كان قرآنا كان خطاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - به يشمل الأمة حيث لا دليل على تخصيصه به ; فلذلك أمر النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه بالتعوذ بهذه السورة ، ولذلك أيضا كان يعوذ بهما الحسن والحسين كما ثبت في الصحيح ، فتكون صيغة الأمر الموجهة إلى المخاطب مستعملة في معنيي الخطاب من توجهه إلى معين وهو الأصل ، ومن إرادة كل من يصح خطابه وهو [ ص: 626 ] طريق من طرق الخطاب تدل على قصده القرائن ، فيكون من استعمال المشترك في معنييه .

واستعمال صيغة التكلم في فعل ( أعوذ ) يتبع ما يراد بصيغة الخطاب في فعل ( قل ) فهو مأمور به لكل من يريد التعوذ بها .

وأما تعويذ قارئها غيره بها كما ورد أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان يعوذ بالمعوذتين الحسن والحسين . وما روي عن عائشة قالت : ( إن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات ، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها ) ; فلذلك على نية النيابة عمن لا يحسن أن يعوذ نفسه بنفسه بتلك الكلمات لعجز أو صغر أو عدم حفظ .

والعوذ : اللجأ إلى شيء يقي من يلجأ إليه ما يخافه ، يقال : عاذ بفلان ، وعاذ بحصن ، ويقال : استعاذ ، إذا سأل غيره أن يعيذه قال تعالى : فاستعذ بالله إنه سميع عليم . وعاذ من كذا ، إذا صار إلى ما يعيذه منه . قال تعالى : فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم .

والفلق : الصبح ، وهو فعل بمعنى مفعول مثل الصمد ; لأن الليل شبه بشيء مغلق ينفلق عن الصبح ، وحقيقة الفلق : الانشقاق عن باطن شيء ، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل . وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى : وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، واستعارة السلخ له في قوله تعالى : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار .

ورب الفلق : هو الله ; لأنه الذي خلق أسباب ظهور الصبح ، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر ; لأن شرا كثيرا يحدث في الليل من لصوص ، وسباع ، وذوات سموم ، وتعذر السير ، وعسر النجدة ، وبعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى ، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر .

والمعنى : أعوذ بفالق الصبح منجاة من شرور الليل ، فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجى أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح ، فوصف الله بالصفة التي فيها تمهيد للإجابة ..


ومن شر غاسق إذا وقب ( 3 )

عطف أشياء خاصة هي مما شمله عموم من شر ما خلق ، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور :
أحدهما : وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل .
والثاني : صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير .
والثالث : صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به .

وأعيدت كلمة من شر بعد حرف العطف في هذه الجملة ، وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغن عن إعادة العامل قصدا لتأكيد الدعاء تعرضا للإجابة ، وهذا من الابتهال فيناسبه الإطناب .


والغاسق : وصف الليل إذا اشتدت ظلمته ، يقال : غسق الليل يغسق ، إذا أظلم ، قال تعالى : إلى غسق الليل . فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله تعالى : ومن آياته الجواري في البحر وتنكير غاسق للجنس ; لأن المراد *** الليل .

وتنكير ( غاسق ) في مقام الدعاء يراد به العموم ; لأن مقام الدعاء يناسب التعميم . ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة : " يا أهل ذا المعنى وقيتم ضرا " أي : وقيتم كل ضر .

وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى ( في ) كقوله تعالى : بل مكر الليل والنهار .

والليل : تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفا .

وتقييد ذلك بظرف إذا وقب أي : إذا اشتدت ظلمته ; لأن ذلك وقت يتحينه الشطار وأصحاب الدعارة والعيث ، لتحقق غلبة الغفلة والنوم على الناس فيه ، يقال : أغدر الليل ; لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدر فيه ، فعبر عن ذلك بأنه أغدر ، أي : صار ذا غدر على طريق المجاز العقلي .

ومعنى ( وقب ) دخل وتغلغل في الشيء ، ومنه الوقبة : اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء ، ووقبت الشمس غابت ، خص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعا لحصول المكروه .


ومن شر النفاثات في العقد ( 4 )

هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله : من شر ما خلق . وعطف شر النفاثات في العقد على شر الليل ; لأن الليل وقت يتحين فيه السحرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد .

والنفث : نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق ، فهو أقل من التفل ، يفعله السحرة إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعقدوا عليه عقدا ثم نفثوا عليها .

فالمراد بـ النفاثات في العقد النساء الساحرات ، وإنما جيء بصفة المؤنث ; لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحر النساء ; لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة ; فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتكهن ونحو ذلك ، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن ، وكان العرب يزعمون أن الغول ساحرة من الجن . وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة بن الوليد بن المغيرة اتهم بزوجة النجاشي ، وأن النجاشي دعا له السواحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائما على وجهه ولحق بالوحوش . والعقد : جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وتر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقدة معقودة ، ولذلك يخافون من حلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يهتدى إليه . أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة من شر السحرة ; لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة ، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور ، قال تعالى : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا .

وجملة القول هنا : أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - مأمون من أن يصيبه شر النفاثات ; لأن الله أعاذه منها .

[ ص: 629 ] وأما السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى : يعلمون الناس السحر في سورة البقرة .

وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفث ، فلم يقل : إذا نفثن في العقد ، للإشارة إلى أن نفثهن في العقد ليس بشيء يجلب ضرا بذاته ، وإنما يجلب الضر النافثات وهن متعاطيات السحر ; لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئا مما يحقق له ما يعمله لأجله إلا احتال على إيصاله إليه ، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو غير قصد ، أو قاذورات يفسد اختلاطها بالجسد بعض عناصر انتظام الجسم يختل بها نشاطه أو إرادته ، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليري لمن يسألونه السحر أن سحره لا يختلف ولا يخطئ .

وتعريف ( النفاثات ) تعريف الجنس وهو في معنى النكرة لا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله : ومن شر غاسق وقوله : ومن شر حاسد ، وإنما أوثر لفظ النفاثات بالتعريف ; لأن التعريف في مثله للإشارة إلى أنه حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم ( أرسلها العراك ) كما تقدم في قوله تعالى : الحمد لله في سورة الفاتحة .

وتعريف ( النفاثات ) باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب .


ومن شر حاسد إذا حسد ( 5 )

عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل ، لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرة ، وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته ، فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاه لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ، ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل ; لأن الليل وقت الخلوة وخطور الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد والمحسود .

والحسد : إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها . وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازا .

والغبطة : تمني المرء أن يكون له من الخير مثل ما لمن يروق حاله في نظره ، وهو محمل الحديث الصحيح : لا حسد إلا في اثنتين أي : لا غبطة ، أي : لا تحقق الغبطة إلا في تينك الخصلتين ، وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين .

فقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكها رأسا . وقد كان الحسد أول أسباب الجنايات في الدنيا ، إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قبل قربانه ولم يقبل قربان الآخر ، كما قصه الله تعالى في سورة العقود .

وتقييد الاستعاذة من شره بوقت إذا حسد لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإلحاق الضر به . والمراد من الحسد في قوله : إذا حسد حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته فلا إشكال في تقييد الحسد بـ ( حسد ) وذلك قول عمرو بن معديكرب :


وبدت لميس كأنها بدر السماء إذا تبدى



أي : تجلى واضحا منيرا .

ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة ، كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود ، وبعكسه الكناية عن سيئ الحال بالحاسد ، وعليه قول أبي الأسود :


حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا وبغضا إنه لمشوم



وقول بشار بن برد :


إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظا بما يجد



قل أعوذ برب الناس ( 1 ) ملك الناس ( 2 ) إله الناس ( 3 ) من شر الوسواس الخناس ( 4 ) الذي يوسوس في صدور الناس ( 5 ) من الجنة والناس ( 6 )



مقدمة

تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - سمى سورة الناس ( قل أعوذ برب الناس ) .

وتقدم في سورة الفلق أنها وسورة الناس تسميان ( المعوذتين ) ، و ( المشقشقتين ) بتقديم الشين على القافين ، وتقدم أيضا أن الزمخشري والقرطبي ذكرا أنهما تسميان ( المقشقشتين ) بتقديم القافين على الشينين ، وعنونها ابن عطية في المحرر الوجيز ( سورة المعوذة الثانية ) بإضافة ( سورة ) إلى ( المعوذة ) من إضافة الموصوف إلى الصفة . وعنونهما الترمذي ( المعوذتين ) ، وعنونها البخاري في صحيحه ( سورة قل أعوذ برب الناس ) .

وفي مصاحفنا القديمة والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة ( سورة الناس ) وكذلك أكثر كتب التفسير .

وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق إنها مكية ، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق إنها مدنية . والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين ، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى .

وقال في الإتقان : إن سبب نزولها قصة سحر لبيد بن الأعصم ، وأنها نزلت مع ( سورة الفلق ) وقد سبقه على ذلك القرطبي والواحدي ، وقد علمت تزييفه في سورة الفلق .

وعلى الصحيح من أنها مكية فقد عدت الحادية والعشرين من السور ، نزلت عقب سورة الفلق وقبل سورة الإخلاص .

وعدد آيها ست آيات ، وذكر في الإتقان قولا : إنها سبع آيات وليس معزوا لأهل العدد .

إرشاد النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وإفساد إرشاده ويلقي في نفوس الناس الإعراض عن دعوته . وفي هذا الأمر إيماء إلى أن الله تعالى معيذه من ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه ، ومتمم دعوته حتى تعم في الناس . ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك ، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم ، ومن قابلية التعرض إلى الوسواس ، ومن السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى .



قل أعوذ برب الناس ( 1 ) ملك الناس ( 2 ) إله الناس ( 3 )

شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس ، وسورة الناس تعوذ من شرور مخلوقات خفية وهي الشياطين .

والقول في الأمر بالقول ، وفي المقول ، وفي أن الخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم ، والمقصود شموله أمته ، كالقول في نظيره في سورة الفلق سواء .

وعرف ( رب ) بإضافته إلى الناس دون غيرهم من المربوبين ; لأن الاستعاذة من شر يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيضلون ويضلون ، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس ، فناسب أن يستحضر المستعاذ إليه بعنوان أنه رب من يلقون الشر ومن يلقى إليهم ليصرف هؤلاء ، ويدفع عن الآخرين كما يقال لمولى العبد : يا مولى فلان كف عني عبدك .

وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيبا مدرجا ، فإن الله خالقهم ، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شئونهم ، ثم زيد بيانا بوصف [ ص: 633 ] إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضا وحاكمية بعضهم في بعض .

وفي هذا الترتيب إشعار أيضا بمراتب النظر في معرفة الله تعالى ، فإن الناظر يعلن بادئ ذي بدء بأن له ربا بسبب ما يشعر به من وجود نفسه ونعمة تركيبه ، ثم يتغلغل في النظر فيشعر بأن ربه هو الملك الحق الغني عن الخلق ، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم .

و ملك الناس عطف بيان من رب الناس وكذلك إله الناس فتكرير لفظ الناس دون اكتفاء بضميره ; لأن عطف البيان يقتضي الإظهار ليكون الاسم المبين ( بكسر الياء ) مستقلا بنفسه ; لأن عطف البيان بمنزلة علم للاسم المبين ( بالفتح ) .

والناس : اسم جمع للبشر جميعهم أو طائفة منهم ولا يطلق على غيرهم على التحقيق .


من شر الوسواس الخناس ( 4 )

والوسواس : المتكلم بالوسوسة ، وهي الكلام الخفي . قال رؤبة يصف صائدا في قترته :

وسوس يدعو مخلصا رب الفلق

فالوسواس اسم فاعل ، ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازا على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه . قال عروة بن أذينة :


وإذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها

والتعريف في ( الوسواس ) تعريف الجنس ، وإطلاق ( الوسواس ) على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفس الناس الخواطر الشريرة قال تعالى : فوسوس إليه الشيطان ، ويشمل الوسواس كل من يتكلم كلاما خفيا من الناس ، وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراء بالضلال والإعراض عن الهدى ; لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سرا لئلا يطلع عليها من يريدون الإيقاع به ، وهم الذين يتربصون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدوائر ويغرون الناس بأذيته .

والخناس : الشديد الخنس والكثيره . والمراد أنه صار عادة له . والخنس والخنوس : الاختفاء . والشيطان يلقب بـ ( الخناس ) لأنه يتصل بعقل الإنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنه خنس فيه ، وأهل المكر والكيد والتختل خناسون ; لأنهم يتحينون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم .

فالتعريف في ( الخناس ) على وزن تعريف موصوفه ، ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها وتزجره النفس اللوامة ، أو يزعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها ، فكأن الشيطان يبدو له ثم يختفي ، ثم يبدو ثم يختفي حتى يتمكن من تدليته بغرور .


الذي يوسوس في صدور الناس ( 5 )

ووصف الوسواس الخناس بـ الذي يوسوس في صدور الناس لتقريب تصوير الوسوسة كي يتقيها المرء إذا اعترته لخفائها ، وذلك بأن بين أن مكان إلقاء الوسوسة هو صدور الناس وبواطنهم ، فعبر بها عن الإحساس النفسي كما قال تعالى : ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم : الإثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب فغاية الوسواس من وسوسته بثها في نفس المغرور والمشبوك في فخه ، فوسوسة الشياطين اتصالات جاذبية النفوس نحو داعية الشياطين وقد قربها النبيء - صلى الله عليه وسلم - في آثار كثيرة بأنواع من التقريب منها ( أنها كالخراطيم يمدها الشيطان إلى قلب الإنسان ) وشبهها مرة بالنفث ، ومرة بالإبساس . وفي الحديث ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما ) .

وإطلاق فعل ( يوسوس ) على هذا العمل الشيطاني مجاز ، إذ ليس للشيطان كلام في باطن الإنسان . وأما إطلاقه على تسويل الإنسان لغيره عمل السوء فهو حقيقة . وتعلق المجرور من قوله : في صدور الناس بفعل يوسوس بالنسبة لوسوسة الشيطان تعلق حقيقي ، وأما بالنسبة لوسوسة الناس فهو مجاز عقلي ; لأن وسوسة الناس سبب لوقوع أثرها في الصدور فكان في كل من فعل ( يوسوس ) ومتعلقه استعمال اللفظين في الحقيقة والمجاز .


من الجنة والناس ( 6 )

و ( من ) في قوله : من الجنة والناس بيانية بينت الذي يوسوس في صدور الناس بأنه *** ينحل باعتبار إرادة حقيقته ومجازه إلى صنفين : صنف من الجنة وهو أصله ، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول ، وجمع الله هذين الصنفين في قوله : ( وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) .

ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاء ما ينجر من وسوسة نوع الإنسان ; لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان ، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين ، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطرا ، وهم بالتعوذ منهم أجدر ، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر ، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر .

ولا يستقيم أن يكون ( من ) بيانا للناس ، إذ لا يطلق اسم الناس على ما يشمل الجن ، ومن زعم ذلك فقد أبعد .

وقدم ( الجنة ) على ( الناس ) هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا شياطين الإنس والجن ) لأن خبثاء الناس أشد مخالطة للأنبياء من الشياطين ; لأن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم . قال تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه ، فزكى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين ، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره ، قال تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله .

والجنة : اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن ، فالجني الواحد من نوع الجن ، كما يقال : إنسي للواحد من الإنس .

وتكرير كلمة ( الناس ) في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهار في مقام الإضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى وملكه وإلهيته للناس كلهم [ ص: 636 ] كقوله تعالى : يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب .

وأما تكريره المرة الثالثة بقوله : في صدور الناس فهو إظهار لأجل بعد المعاد .


وأما تكريره المرة الرابعة بقوله : من الجنة والناس فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس ، وذلك غير ماصدق كلمة ( الناس ) في المرات السابقة .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( قل هو الله أحد ( 1 ) الله الصمد ( 2 ) لم يلد ولم يولد ( 3 ) ولم يكن له كفوا أحد ( 4 ) )



مقدمة

المشهور في تسميتها في عهد النبيء - صلى الله عليه وسلم - وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها ( سورة قل هو الله أحد ) .

روى الترمذي عن أبي هريرة ، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ) وهو ظاهر في أنه أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله ( تعدل ) فإنه على تأويلها بمعنى السورة .

وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك ، فذلك هو الاسم الوارد في السنة .

ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الله الواحد الصمد ) ثلث القرآن فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به ، ومحمله على إرادة التسمية . وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبه .

وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي جامع الترمذي ( سورة الإخلاص ) واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة ; لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى ، أي : سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية .

وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد .

وفي الإتقان أنها تسمى سورة الأساس لاشتمالها على توحيد الله وهو [ ص: 610 ] أساس الإسلام . وفي الكشاف ( روي عن أبي وأنس عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أست السماوات السبع والأرضون السبع على ( قل هو الله أحد ) . يعني : ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته .

وذكر في الكشاف : أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين ، أي : المبرئتين من الشرك ومن النفاق .

وسماها البقاعي في نظم الدرر سورة الصمد ، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر . وقد عقد الفخر في التفسير الكبير فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها ، فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي : التفريد ، والتجريد ; ( لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ) ، والتوحيد ( كذلك ) ، والإخلاص ( لما ذكرناه آنفا ) ، والنجاة ( لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة ) ، والولاية ; ( لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله ) ، والنسبة ( لما روي أنها نزلت لما قال المشركون : انسب لنا ربك ، كما سيأتي ) ، والمعرفة ( لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها ) ، والجمال ( لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها ، ولما روي أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله جميل يحب الجمال فسألوه عن ذلك فقال : أحد صمد لم يلد ولم يولد ) . والمقشقشة ( يقال : قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك ، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا ) ، والمعوذة ( لقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن مظعون وهو مريض فعوذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له : تعوذ بها ) . والصمد ( لأن هذا اللفظ خص بها ) ، والأساس ( لأنها أساس العقيدة الإسلامية ) ، والمانعة ( لما روي أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار ) والمحضر ; ( لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ) ، و المنفرة ( لأن الشيطان ينفر عند قراءتها ) ، والبراءة ( لأنها تبرئ من الشرك ) ، والمذكرة ( لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة ) ، والنور ( لما روي أن نور القرآن قل هو الله أحد ) ، والأمان ( لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب .

[ ص: 611 ] وبضميمة اسمها المشهور ( قل هو الله أحد ) تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين ، وقال الفيروز آبادي في بصائر التمييز : إنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما .

وهي مكية في قول الجمهور ، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرظي : هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس .

ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها ، فروى الترمذي عن أبي بن كعب ، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود ، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن قريشا قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك . فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها ، فتكون مكية .

وروى أبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد أتيا النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال عامر : إلام تدعونا ؟ قال : إلى الله ، قال : صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة أم من حديد أم من خشب ؟ ( يحسب لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة ) فنزلت هذه السورة ، فتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة . وقال الواحدي : إن أحبار اليهود ( منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم : صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك ، فنزلت .

والصحيح أنها مكية ، فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة ، ولعل تأويل من قال : إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد ، أو حينما سأل أحبار اليهود أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليهم هذه السورة ، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ ، أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط .

قال في الإتقان : وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ، ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في أسباب النزول اهـ .

وعلى الأصح من أنها مكية عدت السورة الثانية والعشرين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم .

وآياتها عند أهل العدد بالمدينة والكوفة والبصرة أربع ، وعند أهل مكة والشام خمس باعتبار لم يلد آية ولم يولد آية .


أغراض السورة

إثبات وحدانية الله تعالى .

وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات وإبطال أن يكون له ابن .

وإبطال أن يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام .

والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن . وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح الموطأ والصحيحين .


قل هو الله أحد ( 1 )

افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى : قل يا أيها الكافرون .

ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى ، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين : انسب لنا ربك ، فكانت جوابا عن سؤالهم فلذلك قيل له ( قل ) كما قال تعالى : قل الروح من أمر ربي فكان للأمر بفعل ( قل ) فائدتان .

وضمير ( هو ) ضمير الشأن لإفادة الاهتمام بالجملة التي بعده ، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده .

ويجوز أن يكون ( هو ) أيضا عائدا إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا : انسب لنا ربك .

ومن العلماء من عد ضمير ( هو ) في هذه السورة اسما من أسماء الله الحسنى ، وهي طريقة صوفية درج عليها فخر الدين الرازي في شرح الأسماء الحسنى نقله [ ص: 613 ] ابن عرفة عنه في تفسيره ، وذكر الفخر ذلك في مفاتيح الغيب ، ولا بد من المزج بين كلاميه .

وحاصلهما قوله : قل هو الله أحد فيها ثلاثة أسماء لله تعالى تنبيها على ثلاثة مقامات .

الأول : مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأشياء من حيث هي هي ، فلا جرم ما رأوا موجودا سوى الله ; لأنه هو الذي لأجله يجب وجوده فما سوى الله عندهم معدوم ، فقوله ( هو ) إشارة مطلقة . ولما كان المشار إليه معينا انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فكان قوله ( هو ) إشارة من هؤلاء المقربين إلى الله فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز ، فكانت لفظة ( هو ) كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء . المقام الثاني مقام أصحاب اليمين المقتصدين فهم شاهدوا الحق موجودا وشاهدوا الممكنات موجودة فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة ( هو ) تامة الإفادة في حقهم فافتقروا معها إلى مميز فقيل لأجلهم هو الله .

والمقام الثالث مقام أصحاب الشمال وهم الذين يجوزون تعدد الآلهة فقرن لفظ ( أحد ) بقوله : هو الله إبطالا لمقالتهم اهـ .


فاسمه تعالى العلم ابتدئ به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلها عند التخاطب بين المسلمين وعد المحاجة بينهم وبين المشركين ، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب ، فمسماه لا نزاع في وجوده ، ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تنزه عنها .

أما ( أحد ) فاسم بمعنى ( واحد ) . وأصل همزته الواو ، فيقال : وحد كما يقال أحد ، قلبت الواو همزة على غير قياس لأنها مفتوحة ( بخلاف قلب واو وجوه ) ومعناه منفرد ، قال النابغة :



كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد​


أي : كأني وضعت الرجل على ثور وحش أحس بإنسي وهو منفرد عن قطيعه .

وهو صفة مشبهة مثل حسن ، يقال : وحد مثل كرم ، ووحد مثل فرح . [ ص: 614 ] وصيغة الصفة المشبهة تفيد تمكن الوصف في موصوفها بأنه ذاتي له ، فلذلك أوثر ( أحد ) هنا على ( واحد ) ; لأن ( واحدا ) اسم فاعل لا يفيد التمكن . فـ ( واحد ) و ( أحد ) وصفان مصوغان بالتصريف لمادة متحدة وهي مادة الوحدة يعني : التفرد .

هذا هو أصل إطلاقه وتفرعت عنه إطلاقات صارت حقائق للفظ ( أحد ) ، أشهرها أنه يستعمل اسما بمعنى إنسان في خصوص النفي نحو قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله في البقرة ، وقوله : ولا أشرك بربي أحدا في الكهف وكذلك إطلاقه على العدد في الحساب نحو : أحد عشر ، وأحد وعشرين ، ومؤنثه إحدى ، ومن العلماء من خلط بين ( واحد ) وبين ( أحد ) فوقع في ارتباك .

فوصف الله بأنه أحد معناه : أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلم وهي الإلهية المعروفة ، فإذا قيل الله أحد فالمراد أنه منفرد بالإلهية . وإذا قيل الله واحد ، فالمراد أنه واحد لا متعدد فمن دونه ليس بإله . ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته .

فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليما للناس كلهم وإبطالا لعقيدة الشرك وصف الله في هذه السورة بـ ( أحد ) ولم يوصف بـ ( واحد ) ; لأن الصفة المشبهة نهاية ما يمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين .

وقال ابن سينا في تفسير له لهذه السورة : إن ( أحدا ) دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلا ، لا كثرة معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول ، ولا كثرة حسية وهي كثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة ، والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم ، وذلك متضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل ، والمادة والصورة ، والأعراض والأبعاض ، والأعضاء والأشكال ، والألوان ، وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز وجل على أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء . وتبيينه : أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك ، والذي لا ينقسم بوجهه أصلا أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه ، والذي لا ينقسم [ ص: 615 ] انقساما عقليا أولى بالواحدية من الذي ينقسم انقساما بالحس بالقوة ثم بالفعل ، فأحد جامع للدلالة على الواحدية من جميع الوجوه وأنه لا كثرة في موصوفه اهـ .

قلت : قد فهم المسلمون هذا ، فقد روي أن بلالا كان إذا عذب على الإسلام يقول : أحد أحد . وكان شعار المسلمين يوم بدر : أحد أحد .

والذي درج عليه أكثر الباحثين في أسماء الله تعالى أن ( أحدا ) ليس ملحقا بالأسماء الحسنى ; لأنه لم يرد ذكره في حديث أبي هريرة عند الترمذي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة . وعدها ولم يذكر فيها وصف أحد ، وذكر وصف واحد ، وعلى ذلك درج إمام الحرمين في كتاب الإرشاد وكتاب اللمع والغزالي في شرح الأسماء الحسنى .

وقال الفهري في شرحه على لمع الأدلة لإمام الحرمين عند ذكر اسمه تعالى ( الواحد ) . وقد ورد في بعض الروايات الأحد فلم يجمع بين الاسمين في اسم .

ودرج ابن برجان الإشبيلي في شرح الأسماء والشيخ محمد بن محمد الكومي ( بالميم ) التونسي ، ولطف الله الأرضرومي في معارج النور ، على عد أحد في عداد الأسماء الحسنى مع اسمه الواحد فقالا : الواحد الأحد بحيث هو كالتأكيد له كما يقتضيه عدهم الأسماء تسعة وتسعين ، وهذا بناء على أن حديث أبي هريرة لم يقتض حصر الأسماء الحسنى في التسعة والتسعين ، وإنما هو لبيان فضيلة تلك الأسماء المعدودة فيه .

والمعنى أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات ، وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك ، وللتثليث الذي أحدثه النصارى الملكانية وللثانوية عند المجوس ، وللعد الذي لا يحصى عند البراهمة .

فقوله : الله أحد نظير قوله في الآية الأخرى إنما الله إله واحد وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون في هذه الآية السائلون عن نسبة الله ، أي : حقيقته ، [ ص: 616 ] فابتدئ لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء .

ثم إن الأحدية تقتضي الوجود لا محالة فبطل قول المعطلة والدهريين .

وقد اصطلح علماء الكلام من أهل السنة على استخراج الصفات السلبية الربانية من معنى الأحدية ; لأنه إذا كان منفردا بالإلهية كان مستغنيا عن المخصص بالإيجاب ; لأنه لو افتقر إلى من يوجده لكان من يوجده إلها أول منه ; فلذلك كان وجود الله قديما غير مسبوق بعدم ولا محتاج إلى مخصص بالوجود بدلا عن العدم ، وكان مستعينا على الإمداد بالوجود فكان باقيا ، وكان غنيا عن غيره ، وكان مخالفا للحوادث وإلا لاحتاج مثلها إلى المخصص فكان وصفه تعالى بـ ( أحد ) جامعا للصفات السلبية . ومثل ذلك يقال في مرادفه وهو وصف واحد .

واصطلحوا على أن أحدية الله أحدية واجبة كاملة ، فالله تعالى واحد من جميع الوجوه ، وعلى كل التقادير فليس لكنه الله كثرة أصلا لا كثرة معنوية وهي تعدد المقومات من الأجناس والفصول التي تتقوم منها المواهي ، ولا كثرة الأجزاء في الخارج التي تتقوم منها الأجسام . فأفاد وصف ( أحد ) أنه منزه عن الجنس والفصل والمادة والصورة ، والأعراض والأبعاض ، والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة كما أشار إليه ابن سينا .

قال في الكشاف : وفي قراءة النبيء - صلى الله عليه وسلم - الله أحد بغير قل هو اهـ ولعله أخذه مما روى أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : من قرأ ( الله أحد ) كان بعدل ثلث القرآن كما ذكره بأثر قراءة أبي بدون ( قل ) مما تأوله الطيبي ، إذ قال وهذا استشهاد على هذه القراءة .

وعندي إن صح ما روي من القراءة أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد بها التلاوة ، وإنما قصد الامتثال لما أمر بأن يقول ، وهذا كما كان يكثر أن يقول ( سبحان ربي العظيم وبحمده اللهم اغفر لي ) يتأول قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره .


الله الصمد ( 2 )

جملة ثانية محكية بالقول المحكي به جملة الله أحد فهي خبر ثان عن الضمير . والخبر المتعدد يجوز عطفه وفصله ، وإنما فصلت عن التي قبلها ; لأن هذه الجمل مسوقة لتلقين السامعين فكانت جديرة بأن تكون كل جملة مستقلة بذاتها غير ملحقة بالتي قبلها بالعطف ، على طريقة إلقاء المسائل على المتعلم نحو أن يقول : الحوز شرط صحة الحبس ، الحوز لا يتم إلا بالمعاينة ، ونحو قولك : عنترة من فحول الشعراء ، عنترة من أبطال الفرسان .

ولهذا الاعتبار وقع إظهار اسم الجلالة في قوله : الله الصمد وكان مقتضى الظاهر أن يقال : هو الصمد .

والصمد : السيد الذي لا يستغنى عنه في المهمات ، وهو سيد القوم المطاع فيهم .

قال في الكشاف : وهو فعل بمعنى مفعول من : صمد إليه ، إذا قصده ، فالصمد المصمود في الحوائج . قلت : ونظيره السند الذي تسند إليه الأمور المهمة ، والفلق اسم الصباح لأنه يتفلق عنه الليل .

والصمد : من صفات الله ، والله هو الصمد الحق الكامل الصمدية على وجه العموم .

فالصمد من الأسماء التسعة والتسعين في حديث أبي هريرة عند الترمذي . ومعناه : المفتقر إليه كل ما عداه ، فالمعدوم مفتقر وجوده إليه والموجود مفتقر في شئونه إليه .

وقد كثرت عبارات المفسرين من السلف في معنى الصمد ، وكلها مندرجة تحت هذا المعنى الجامع ، وقد أنهاها فخر الدين إلى ثمانية عشر قولا ، ويشمل هذا الاسم صفات الله المعنوية الإضافية وهي كونه تعالى حيا ، عالما ، مريدا ، قادرا ، متكلما ، سميعا ، بصيرا ; لأنه لو انتفى عنه أحد هذه الصفات لم يكن مصمودا إليه .

وصيغة الله الصمد صيغة قصر بسبب تعريف المسند ، فتفيد قصر صفة الصمدية على الله تعالى ، وهو قصر قلب لإبطال ما تعوده أهل الشرك في الجاهلية من دعائهم أصنامهم في حوائجهم والفزع إليها في نوائبهم حتى نسوا الله . قال أبو سفيان ليلة فتح مكة وهو بين يدي النبيء - صلى الله عليه وسلم - وقال له النبيء - صلى الله عليه وسلم : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله ؟ لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا .


لم يلد ولم يولد ( 3 )

جملة لم يلد خبر ثان عن اسم الجلالة من قوله : الله الصمد أو حال من المبتدأ أو بدل اشتمال من جملة الله الصمد لأن من يصمد إليه لا يكون من حاله أن يلد ; لأن طلب الولد لقصد الاستعانة به في إقامة شئون الوالد وتدارك عجزه ، ولذلك استدل على إبطال قولهم اتخذ الله ولدا بإثبات أنه الغني في قوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض فبعد أن أبطلت الآية الأولى من هذه السورة تعدد الإله بالأصالة والاستقلال ، أبطلت هذه الآية تعدد الإله بطريق تولد إله عن إله ; لأن المتولد مساو لما تولد عنه .

والتعدد بالتولد مساو في الاستحالة لتعدد الإله بالأصالة لتساوي ما يلزم على التعدد في كليهما من فساد الأكوان المشار إليه بقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( وهو برهان التمانع ) ، ولأنه لو تولد عن الله موجود آخر للزم انفصال جزء عن الله تعالى وذلك مناف للأحدية كما علمت آنفا ، وبطل اعتقاد المشركين من العرب أن الملائكة بنات الله تعالى فعبدوا الملائكة لذلك ; لأن النبوة للإله تقتضي إلهية الابن قال تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون .

وجملة ولم يولد عطف على جملة لم يلد أي : ولم يلده غيره ، وهي بمنزلة الاحتراس سدا لتجويز أن يكون له والد ، فأردف نفي الولد بنفي الوالد ، وإنما قدم نفي الولد لأنه أهم ، إذ قد نسب أهل الضلالة الولد إلى الله تعالى ولم ينسبوا [ ص: 619 ] إلى الله والدا . وفيه الإيماء إلى أن من يكون مولودا مثل عيسى لا يكون إلها ; لأنه لو كان الإله مولودا لكان وجوده مسبوقا بعدم لا محالة وذلك محال ; لأنه لو كان مسبوقا بعدم لكان مفتقرا إلى من يخصصه بالوجود بعد العدم ، فحصل من مجموع جملة لم يلد ولم يولد إبطال أن يكون الله والدا لمولود ، أو مولودا من والد بالصراحة . وبطلت إلهية كل مولود بطريق الكناية فبطلت العقائد المبنية على تولد الإله مثل عقيدة ( زرادشت ) الثانوية القائلة بوجود إلهين : إله الخير وهو الأصل ، وإله الشر وهو متولد عن إله الخير . لأن إله الخير وهو المسمى عندهم ( يزدان ) فكر فكرة سوء ، فتولد منه إله الشر المسمى عندهم ( أهرمن ) وقد أشار إلى مذهبهم أبو العلاء بقوله :


قال أناس باطل زعمهم فراقبوا الله ولا تزعمن فكر ( يزدان ) على غرة
فصيغ من تفكيره ( أهرمن )


وبطلت عقيدة النصارى بإلهية عيسى - عليه السلام - بتوهمهم أنه ابن الله وأن ابن الله لا يكون إلا إلها بأن الإله يستحيل أن يكون له ولد ، فليس عيسى بابن الله ، وبأن الإله يستحيل أن يكون مولودا بعد عدم ، فالمولود المتفق على أنه مولود يستحيل أن يكون إلها ، فبطل أن يكون عيسى إلها .

فلما أبطلت الجملة الاسمية الأولى إلهية إله غير الله بالأصالة ، وأبطلت الجملة الثانية إلهية غير الله بالاستحقاق ، أبطلت هذه الجملة إلهية غير الله بالفرعية والتولد بطريق الكناية .

وإنما نفي أن يكون الله والدا وأن يكون مولودا في الزمن الماضي ; لأن عقيدة التولد ادعت وقوع ذلك في زمن مضى ، ولم يدع أحد أن الله سيتخذ ولدا في المستقبل .



ولم يكن له كفوا أحد ( 4 )

في معنى التذليل للجمل التي قبلها لأنها أعم من مضمونها ; لأن تلك الصفات المتقدمة صريحها وكنايتها وضمنيها لا يشبهه فيها غيره ، مع إفادة هذه انتفاء [ ص: 620 ] شبيه له فيما عداها مثل صفات الأفعال كما قال تعالى : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له .

والواو في قوله : ولم يكن له كفؤا أحد اعتراضية ، وهي واو الحال ، كالواو في قوله تعالى : ( وهل يجازى إلا الكفور ) فإنها تذليل لجملة ذلك جزيناهم بما كفروا ويجوز كون الواو عاطفة إن جعلت الواو الأولى عاطفة ، فيكون المقصود من الجملة إثبات وصف مخالفته تعالى للحوادث وتكون استفادة معنى التذليل تبعا للمعنى والنكت ولا تتزاحم .

والكفؤ : بضم الكاف وضم الفاء وهمزة في آخره . وبه قرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ، إلا أن الثلاثة الأولين حققوا الهمزة وأبو جعفر سهلها ، ويقال ( كفء ) بضم الكاف وسكون الفاء وبالهمز ، وبه قرأ حمزة ويعقوب ، ويقال ( كفؤا ) بالواو عوض الهمز ، وبه قرأ حفص عن عاصم وهي لغات ثلاث فصيحة .

ومعناه : المساوي والمماثل في الصفات .

و ( أحد ) هنا بمعنى إنسان أو موجود ، وهو من الأسماء النكرات الملازمة للوقوع في حيز النفي .

وحصل بهذا جناس تام مع قوله : قل هو الله أحد .

وتقديم خبر ( كان ) على اسمها للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بذكر الكفؤ عقب الفعل المنفي ليكون أسبق إلى السمع .

وتقديم المجرور بقوله ( له ) على متعلقه وهو ( كفؤا ) للاهتمام باستحقاق الله نفي كفاءة أحد له ، فكان هذا الاهتمام مرجحا تقديم المجرور على متعلقه وإن كان الأصل تأخير المتعلق ، إذا كان ظرفا لغويا . وتأخيره عند سيبويه أحسن ما لم يقتض التقديم مقتض كما أشار إليه في الكشاف .

وقد وردت في فضل هذه السورة أخبار صحيحة وحسنة استوفاها المفسرون . وثبت في الحديث الصحيح في الموطأ والصحيحين من طرق عدة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ) .

واختلفت التأويلات التي تأول بها أصحاب معاني الآثار بهذا الحديث ويجمعها أربع تأويلات .

الأول : أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب القراءة ، أي : تعدل ثلث القرآن إذا قرئ بدونها حتى لو كررها القارئ ثلاث مرات كان له ثواب من قرأ القرآن كله .

الثاني : أنها تعدل ثلث القرآن إذا قرأها من لا يحسن غيرها من سور القرآن .

الثالث : أنها تعدل ثلث معاني القرآن باعتبار أجناس المعاني ; لأن معاني القرآن أحكام وأخبار وتوحيد ، وقد انفردت هذه السورة بجمعها أصول العقيدة الإسلامية ما لم يجمعه غيرها .

وأقول : إن ذلك كان قبل نزول آيات مثلها مثل آية الكرسي ، أو لأنه لا توجد سورة واحدة جامعة لما في سورة الإخلاص .


التأويل الرابع : أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب مثل التأويل الأول ، ولكن لا يكون تكريرها ثلاث مرات بمنزلة قراءة ختمة كاملة .

قال ابن رشد في البيان والتحصيل : أجمع العلماء على أن من قرأ ( قل هو الله أحد ) ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيا بالقرآن كله اهـ . فيكون هذا التأويل قيدا للتأويل الأول ، ولكن في حكايته الإجماع على أن ذلك هو المراد - نظرا ، فإن في بعض الأحاديث ما هو صريح في أن تكريرها ثلاث مرات يعدل قراءة ختمة كاملة .

قال ابن رشد : واختلافهم في تأويل الحديث لا يرتفع بشيء منه عن الحديث الإشكال ولا يتخلص عن أن يكون فيه اعتراض .

وقال أبو عمر بن عبد البر : السكوت على هذه المسألة أفضل من الكلام فيها .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( تبت يدا أبي لهب وتب ( 1 ) ما أغنى عنه ماله وما كسب ( 2 ) سيصلى نارا ذات لهب ( 3 ) وامرأته حمالة الحطب ( 4 ) في جيدها حبل من مسد ( 5 ) )



مقدمة

سميت هذه السورة في أكثر المصاحف ( سورة تبت ) وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وفي أكثر كتب التفسير ، تسمية لها بأول كلمة فيها .

وسميت في بعض المصاحف وفي بعض التفاسير ( سورة المسد ) . واقتصر في الإتقان على هذين .

وسماها جمع من المفسرين ( سورة أبي لهب ) على تقدير : سورة ذكر أبي لهب . وعنونها أبو حيان في تفسيره ( سورة اللهب ) ولم أره لغيره .

وعنونها ابن العربي في أحكام القرآن سورة ما كان من أبي لهب وهو عنوان وليس باسم .

وهي مكية بالاتفاق .

وعدت السادسة من السور نزولا ، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة التكوير .

وعدد آيها خمس .

روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة . وسبب نزولها على ما في الصحيحين عن ابن عباس قال : صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم على الصفا فنادى ( يا صباحاه ) - ( كلمة ينادى بها للإنذار من عدو يصبح القوم ) فاجتمعت إليه قريش ، فقال : إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، أرأيتم لو أني أخبرتكم أن العدو ممسيكم أو مصبحكم أكنتم تصدقوني ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت تبت يدا [ ص: 600 ] أبي لهب . ووقع في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا إلى آخر الحديث المتقدم .

ومعلوم أن آية وأنذر عشيرتك الأقربين من سورة الشعراء وهي متأخرة النزول عن سورة تبت ، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب لما رواه أبو أسامة يبلغ ابن عباس لما نزلت ( وأنذر عشيرتك الأقربين وقومك منهم المخلصين ) ( ولم يقل من سورة الشعراء ) خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا . فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب .


أغراض السورة

زجر أبي لهب على قوله ( تبا لك ألهذا جمعتنا ؟ ) ووعيده على ذلك ، ووعيد امرأته على انتصارها لزوجها ، وبغضها النبيء - صلى الله عليه وسلم .


تبت يدا أبي لهب وتب ( 1 )

افتتاح السورة بالتبات مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد ، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ، ومنه قوله تعالى : ويل للمطففين ، إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ الويل ومن هذا القبيل قول عبد الرحمن بن الحكم من شعراء الحماسة :


لحا الله قيسا قيس عيلان إنها أضاعت ثغور المسلمين وولت


وقول أبي تمام في طالعة هجاء :


النار والعار والمكروه والعطب


ومنه أخذ أبو بكر بن الخازن قوله في طالع قصيدة هناء بمولد :


مجشري فقد أنجز الإقبال ما وعد


والتب : الخسران والهلاك ، والكلام دعاء وتقريع لأبي لهب دافع الله به عن نبيئه بمثال اللفظ الذي شتم به أبو لهب محمدا - صلى الله عليه وسلم - جزاء وفاقا .

وإسناد التب إلى اليدين لما روي من أن أبا لهب لما قال للنبيء : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ أخذ بيده حجرا ليرميه به . وروي عن طارق المحاربي قال : بينا أنا بسوق ذي المجاز ، إذا أنا برجل حديث السن يقول : أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ، يقول : يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه . فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا محمد يزعم أنه نبيء ، وهذا عمه أبو لهب ، فوقع الدعاء على يديه لأنهما سبب أذى النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما يقال للذي يتكلم بمكروه : ( بفيك الحجارة أو بفيك الكثكث ) ، وقول النابغة :


قعودا لدى أبياتهم يثمدونها رمى الله في تلك الأكف الكوانع​


ويقال بضد ذلك للذي يقول كلاما حسنا : لا فض فوك ، وقال أعرابي من بني أسد :


دعوت لما نابني مسورا فلبى فلبي يدي مسور​


لأنه دعاه لما نابه من العدو للنصر ، والنصر يكون بعمل اليد بالضرب أو الطعن .

وأبو لهب : هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عم النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وكنيته أبو عتبة تكنية باسم ابنه ، وأما كنيته بأبي لهب في الآية ، فقيل كان يكنى بذلك في الجاهلية ( لحسنه وإشراق وجهه ) وأنه اشتهر بتلك الكنية كما اقتضاه حديث طارق المحاربي ، ومثله حديث عن ربيعة بن عباد الديلي في مسند أحمد ، فسماه القرآن بكنيته دون اسمه ; لأن في اسمه عبادة العزى ، وذلك لا يقره القرآن ، أو لأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه العلم ، أو لأن في كنيته ما يتأتى به التوجيه بكونه صائرا إلى النار ، وذلك كناية عن كونه جهنميا ; لأن اللهب ألسنة النار إذا اشتعلت وزال عنها الدخان . والأب : يطلق على ملازم ما أضيف إليه ، كقولهم ( أبوها وكيالها ) ، وكما كني إبراهيم - عليه السلام - أبا الضيفان ، وكنى النبيء - صلى الله عليه وسلم - عبد [ ص: 602 ] الرحمن بن صخر الدوسي أبا هريرة ; لأنه حمل هرة في كم قميصه ، وكني شهر رمضان : أبا البركات ، وكني الذئب : أبا جعدة ، والجعدة سخلة المعز ; لأنه يلازم طلبها لافتراسها ، فكانت كنية أبي لهب صالحة موافقة لحاله من استحقاقه لهب جهنم ، فصار هذا التوجيه كناية عن كونه جهنميا لينتقل من جعل أبي لهب بمعنى ملازم اللهب إلى لازم تلك الملازمة في العرف ، وهو من أهل جهنم وهو لزوم ادعائي مبني على التفاؤل بالأسماء ونحوها كما أشار إليه التفتزاني في مبحث العلمية من شرح المفتاح ، وأنشد قول الشاعر :


قصدت أبا المحاسن كي أراه لشوق كان يجذبني إليه
فلما أن رأيت رأيت فردا ولم أر من بنيه ابنا لديه


وقد يكون أبو لهب كنيته الحطب كما أنبأ عنه ما روي عن أبي هريرة ( أن ابنة أبي لهب قالت للنبيء - صلى الله عليه وسلم : إن الناس يصيحون بي ويقولون : إني ابنة حطب النار ) . الحديث .

وقرأ الجمهور لفظ ( لهب ) بفتح الهاء ، وقرأه ابن كثير بسكون الهاء ، وهو لغة لأنهم كثيرا ما يسكنون عين الكلمة المتحركة مع الفاء ، وقد يكون ذلك ; لأن ( لهب ) صار جزء علم ، والعرب قد يغيرون بعض حركات الاسم إذا نقلوه إلى العلمية كما قالوا : شمس بضم الشين . ولشمس بن مالك الشاعر الذي ذكره تأبط شرا في قوله :


إني لمهد من ثنائي فقاصد به لابن عم الصدق شمس بن مالك


قال أبو الفتح بن جني في كتاب إعراب الحماسة : يجوز أن يكون ضم الشين على وجه تغيير الأعلام نحو معد يكرب ، وتهلك وموهب وغير ذلك مما غير على حال نظائره لأجل العلمية الحادثة فيه اهـ .

وكما قالوا : أبو سلمى بضم السين كنية والد زهير بن أبي سلمى ; لأنهم نقلوا اسم سلمى بفتح السين من أسماء النساء إلى جعله اسم رجل يكنى به ; لأنهم لا يكنون بأسماء النساء غالبا .

ولذلك لم يسكن ابن كثير الهاء من قوله تعالى : ذات لهب وقراءة ابن كثير قراءة أهل مكة فلعل أهل مكة اشتهرت بينهم كنية أبي لهب بسكون الهاء تحقيقا لكثرة دورانها على الألسنة في زمانه .

وجملة ( وتب ) إما معطوفة على جملة تبت يدا أبي لهب عطف الدعاء على الدعاء إذا كان إسناد التبات إلى اليدين لأنهما آلة الأذى بالرمي بالحجارة كما في خبر طارق المحاربي ، فأعيد الدعاء على جميعه إغلاظا له في الشتم والتفريع ، وتفيد بذلك تأكيدا لجملة تبت يدا أبي لهب لأنها بمعناها ، وإنما اختلفتا في الكلية والجزئية ، وذلك الاختلاف هو مقتضي عطفها ، وإلا لكان التوكيد غير معطوف ; لأن التوكيد اللفظي لا يعطف بالواو كما تقدم في سورة الكافرون .

وإما أن تكون في موضع الحال ، والواو واو الحال ولا تكون دعاء إنما هي تحقيق لحصول ما دعي عليه به ، كقول النابغة :


جزى ربه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات


وقد فعل فيكون الكلام قبله مستعملا في الذم والشماتة به أو لطلب الإزدياد ، ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله بن مسعود وقد تب فيتمحض الكلام قبله لمعنى الذم والتحقير دون معنى طلب حصول التبات له ، وذلك كقول عبد الله بن رواحة حين خروجه إلى غزوة مؤتة التي استشهد فيها :


حتى يقولوا إذا مروا على جدثي أرشدك الله من غاز وقد رشدا


يعني : ويقولوا : وقد رشدا ، فيصير قوله : أرشدك الله من غاز ، لمجرد الثناء والغبطة بما حصله من الشهادة .


ما أغنى عنه ماله وما كسب ( 2 )

استئناف ابتدائي للانتقال من إنشاء الشتم والتوبيخ إلى الإعلام بأنه آيس من النجاة من هذا التبات ، ولا يغنيه ماله ، ولا كسبه ، أي : لا يغني عنه ذلك في دفع شيء عنه في الآخرة .

[ ص: 604 ] والتعبير بالماضي في قوله : ما أغنى لتحقيق وقوع عدم الإغناء .

و ( ما ) نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والإنكار .

والمال : الممتلكات المتمولة ، وغلب على العرب إطلاقه على الإبل ، ومن كلام عمر ( لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ) إلخ . في اتقاء دعوة المظلوم ، من الموطأ ، وقال زهير :


صحيحات مال طالعات بمخرم


وأهل المدينة وخيبر والبحرين يغلب عندهم على النخيل ، وقد تقدم عند قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل في سورة البقرة وفي مواضع .

وما كسب موصول وصلته والعائد محذوف جوازا ; لأنه ضمير نصب ، والتقدير : وما كسبه ، أي : ما جمعه . والمراد به : ما يملكه من غير النعم من نقود وسلاح وربع وعروض وطعام ، ويجوز أن يراد بماله : جميع ماله ، ويكون عطف وما كسب من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به ، أي : ما أغنى عنه ماله التالد وهو ما ورثه عن أبيه عبد المطلب وما كسبه هو بنفسه وهو طريفه .

وروي عن ابن مسعود أن أبا لهب قال : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي نفسي يوم القيامة بمالي وولدي ، فأنزل الله ما أغنى عنه ماله وما كسب وقال ابن عباس ما كسب هو ولده فإن الولد من كسب أخيه .


سيصلى نارا ذات لهب ( 3 )

بيان لجملة ما أغنى عنه ماله وما كسب أي : لا يغني عنه شيء من عذاب جهنم . ونزل هذا القرآن في حياة أبي لهب وقد مات بعد ذلك كافرا ، فكانت هذه الآية إعلاما بأنه لا يسلم ، وكانت من دلائل النبوة .

والسين للتحقيق مثل قوله تعالى : قال سوف أستغفر لكم ربي .

و يصلى نارا يشوى بها ويحس بإحراقها . وأصل الفعل : صلاه بالنار ، إذا [ ص: 605 ] شواه ثم جاء منه صلي كأفعال الإحساس مثل فرح ومرض . ونصب ( نارا ) على نزع الخافض .

ووصف النار بـ ذات لهب لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وبين كفره ، إذ هو أبو لهب والنار ذات لهب .

وهو ما تقدم الإيماء إليه بذكر كنيته كما قدمناه آنفا ، وفي وصف النار بذلك زيادة كشف بحقيقة النار وهو مثل التأكيد .

وبين لفظي ( لهب ) الأول ( ولهب ) الثاني الجناس التام .


وامرأته حمالة الحطب ( 4 ) في جيدها حبل من مسد ( 5 )

أعقب ذم أبي لهب ووعيده بمثل ذلك لامرأته لأنها كانت تشاركه في أذى النبيء - صلى الله عليه وسلم - وتعينه عليه .

وامرأته : أي : زوجه . قال تعالى في قصة إبراهيم وامرأته قائمة وفي قصة لوط إلا امرأته كانت من الغابرين وفي قصة يوسف امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه .

وامرأة أبي لهب هي أم جميل ، واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان بن حرب ، وقيل : اسمها العوراء ، فقيل : هو وصف وأنها كانت عوراء ، وقيل : اسمها ، وذكر بعضهم : أن اسمها العواء بهمزة بعد الواو .

وكانت أم جميل هذه تحمل حطب العضاه والشوك فتضعه في الليل في طريق النبيء - صلى الله عليه وسلم - الذي يسلك منه إلى بيته ليعقر قدميه .

فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته جعل لامرأته وعيد مقتبس لفظه من فعلها وهو حمل الحطب في الدنيا ، فأنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم ليوقد به على زوجها ، وذلك خزي لها ولزوجها ، إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه ، وجعلها سببا لعذاب أعز الناس عليها .

[ ص: 606 ] فقوله ( وامرأته ) عطف على الضمير المستتر في ( سيصلى ) أي : وتصلى امرأته نارا .

وقوله : حمالة الحطب قرأه الجمهور برفع ( حمالة ) على أنه صفة لامرأته فيحتمل أنها صفتها في جهنم ، ويحتمل أنها صفتها التي كانت تعمل في الدنيا بجلب حطب العضاه لتضعه في طريق النبيء - صلى الله عليه وسلم - على طريقة التوجيه والإيماء إلى تعليل تعذيبها بذلك .

وقرأه عاصم بنصب ( حمالة ) على الحال من امرأته . وفيه من التوجيه والإيماء ما في قراءة الرفع .

وجملة في جيدها حبل من مسد صفة ثانية أو حال ثانية وذلك إخبار بما تعامل به في الآخرة ، أي : يجعل لها حبل في عنقها تحمل فيه الحطب في جهنم لإسعار النار على زوجها جزاء مماثلا لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها .

والجيد : العنق ، وغلب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه ، فقل أن يذكر العنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عنقا موصوفا بالحسن ، وقد جمعهما امرؤ القيس في قوله :


وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل


قال السهيلي في الروض : " والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الحلي أو الحسن ، فإنما حسن هنا ذكر الجيد في حكم البلاغة ; لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادهن ، وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحبل المجعول في عنقها ، فلما أقيم لها ذلك مقام الحلي ذكر الجيد معه ، ألا ترى إلى قول الأعشى :


يوم تبدي لنا قتيلة عن جيـ د أسيل تزينه الأطواق


ولم يقل عن عنق ، وقول الآخر :


وأحسن من عقد المليحة جيدها​


ولم يقل عنقها ولو قال لكان غثا من الكلام " . اهـ .

[ ص: 607 ] قلت : وأما قول المعري :


الحجل للرجل والتاج المنيف لما فوق الحجاج وعقد الدر للعنق​


فإنما حسنه ما بين العقد والعنق من الجناس إتماما للمجانسة التي بين الحجل والرجل ، والتاج والحجاج ، وهو مقصود الشاعر .

والحبل : ما يربط به الأشياء التي يراد اتصال بعضها ببعض وتقيد به الدابة والمسجون كي لا يبرح من المكان ، وهو ضفير من الليف أو من سيور جلد في طول متفاوت على حسب قوة ما يشد به أو يربط في وتد أو حلقة أو شجرة بحيث يمنع المربوط به من مغادرة موضعه إلى غيره إلى بعد يراد ، وتربط به قلوع السفن في الأرض في الشواطئ ، وتقدم في قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ، وقوله : إلا بحبل من الله وحبل من الناس كلاها في سورة آل عمران ، ويقال : حبله إذا ربطه .

والمسد : ليف من ليف اليمن شديد ، والحبال التي تفتل منه تكون قوية وصلبة .

وقدم الخبر من قوله : في جيدها للاهتمام بوصف تلك الحالة الفظيعة التي عوضت فيها بحبل في جيدها عن العقد الذي كانت تحلي به جيدها في الدنيا فتربط به إذا كانت هي وزوجها من أهل الثراء وسادة أهل البطحاء ، وقد ماتت أم جميل على الشرك .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( إذا جاء نصر الله والفتح ( 1 ) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ( 2 ) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ( 3 ) )



مقدمة

سميت هذه السورة في كلام السلف ( سورة إذا جاء نصر الله والفتح ) . روى البخاري ( أن عائشة قالت : لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح ) الحديث .

وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير ( سورة النصر ) لذكر نصر الله فيها ، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا .

وهي معنونة في جامع الترمذي ( سورة الفتح ) لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين إنا فتحنا لك فتحا مبينا .

وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في الإتقان ; لما فيها من الإيماء إلى وداعه - صلى الله عليه وسلم - اهـ . يعني : من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة .

وهي مدنية بالاتفاق .

واختلف في وقت نزولها فقيل نزلت منصرف النبيء - صلى الله عليه وسلم - من خيبر أي : في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الله أكبر جاء نصر الله والفتح ، وجاء نصر أهل اليمن . فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن ؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية اهـ ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر .

ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة ، وعليه فالفتح [ ص: 588 ] مستقبل ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال ( إذا ) ويحمل قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ( جاء نصر الله والفتح ) على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع لتحقق وقوعه ، أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة .

وعن قتادة : نزلت قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين .

وقال الواحدي عن ابن عباس ( نزلت منصرفه من حنين ) ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا ، وهو في سنة الوفود سنة تسع ، وعليه تكون ( إذا ) مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين .

وروى البزاز والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها أنزلت أواسط أيام التشريق ( أي : عام حجة الوداع ) . وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف . وقال أحمد بن حنبل : لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا .

وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون ( إذا ) مستعملة للزمن الماضي ; لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا .

وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها ، إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا ، فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف .

وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له قال : إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره .

وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثلما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه : ( لما نزلت إذا جاء نصر الله والفتح دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وقال : إنه قد نعيت إلي نفسي فبكت ) إلخ ، فإن قوله : " لما نزلت " مدرج من الراوي ، وإنما هو [ ص: 589 ] إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين ، فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن .

وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور وقال : نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور . وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر .

وعن ابن عباس ، أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى .

وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات ، وأقصر من سورة العصر . وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات . وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث طعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن ( إنا أعطيناك الكوثر ) و ( إذا جاء نصر الله والفتح ) .


أغراض السورة

والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة ، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبيء - صلى الله عليه وسلم - من خيبر كما قال ابن عباس في أحد قوليه .

والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآخرة .

ووعده بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحد الذي لا يفي بما تطلبه همته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله : يسبحون الليل والنهار لا يفترون .


إذا جاء نصر الله والفتح ( 1 ) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ( 2 ) فسبح بحمد ربك واستغفره

( إذا ) اسم زمان مبهم يتعين مقداره بمضمون جملة يضاف إليها هو . فـ ( إذا ) اسم زمان مطلق ، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالبا . ولذلك يضمن معنى الشرط غالبا ، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالبا لإفادة التحقق ، وقد يكون مضارعا كقوله تعالى : وهو على جمعهم إذا يشاء قدير .

ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي ، ولا تضمن ( إذا ) معنى الشرط حينئذ ، وإنما هي لمجرد الإخبار دون قصد تعليق نحو وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها .

و ( إذا ) هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء بقوله : فسبح بحمد ربك وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت .

والنصر : الإعانة على العدو . ونصر الله يعقبه التغلب على العدو . والفتح : امتلاك بلد العدو وأرضه ; لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأرضين التي لها شعاب وثغور ، قال لبيد :


وأجن عورات الثغور ظلامها


وقد فتح المسلمون خيبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد ، وهو المعهود في قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا .

فإضافة ( نصر ) إلى ( الله ) تشعر بتعظيم هذا النصر ، وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها . و ( جاء ) مستعمل في معنى : حصل وتحقق مجازا .

[ ص: 591 ] والتعريف في ( الفتح ) للعهد وقد وعد الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - به غير مرة من ذلك قوله تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وقوله : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . وهذه الآية نزلت عام الحديبية ، وذلك قبل نزول سورة إذا جاء نصر الله على جميع الأقوال .

وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور ، يعني : الحصون . وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم ، فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد ، وأهل مكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويتلومون بدخولهم في الإسلام فتح مكة يقولون : إن ظهر محمد على قومه فهو نبي . وتكرر أن صد بعضهم بعضا ممن يريد اتباع الإسلام ، عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإسلام أو غلب الشرك .

أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال : " لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة ، فيقولون : دعوه وقومه ، فإن ظهر عليهم فهو نبيء " .

وعن الحسن : لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم ، فليس لنا به يدان ، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا . فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة ، يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها .

ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإسلام ، وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإسلام سنة الوفود .

وعلى ما روي عن ابن عمر ( أنها نزلت في حجة الوداع ) يكون تعليق جملة ( فسبح بحمد ربك ) على الشرط الماضي مرادا به التذكير بأنه حصل ، أي : إذا [ ص: 592 ] تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإسلام بلاد العرب فسبح بحمد ربك ، وهو مراد من قال من المفسرين ( إذا ) بمعنى ( قد ) ، فهو تفسير حاصل المعنى ، وليست ( إذا ) مما يأتي بمعنى ( قد ) .

والرؤية في قوله : ورأيت الناس يجوز أن تكون علمية ، أي : وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجا وذلك بالأخبار الواردة من آفاق بلاد العرب ومواطن قبائلهم وبمن يحضر من وفودهم . فيكون جملة ( يدخلون ) في محل المفعول الثاني لـ ( رأيت ) .

ويجوز أن تكون رؤية بصرية بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة يدخلون في الإسلام وذلك سنة تسع ، وقد رأى النبيء - صلى الله عليه وسلم - ببصره ما علم منه دخولهم كلهم في الإسلام بمن حضر معه الموقف في حجة الوداع ، فقد كانوا مائة ألف من مختلف قبائل العرب فتكون جملة ( يدخلون ) في موضع الحال من الناس .

و دين الله هو الإسلام لقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام وقوله : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها .

والدخول في الدين : مستعار للنطق بكلمة الشهادة والتزام أحكام الدين الناشئة عن تلك الشهادة . فشبه الدين ببيت أو حظيرة على طريقة المكنية ورمز إليه بما هو من لوازم المشبه به وهو الدخول على تشبيه التلبس بالدين بتلبس المظروف بالظرف ، ففيه استعارة أخرى تصريحية .

والناس : اسم جمع يدل على جماعة من الآدميين ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله في سورة البقرة ، وإذا عرف اسم ناس باللام احتملت العهد نحو الذين قال لهم الناس ، واحتملت الجنس نحو إن الناس قد جمعوا لكم واحتملت الاستغراق نحو ومن الناس من يقول ونحو قل أعوذ برب الناس .

والتعريف في هذه الآية للاستغراق العرفي ، أي : جميع الناس الذين يخطرون بالبال لعدم إرادة معهودين معينين ولاستحالة دخول كل إنسان في دين الله بدليل [ ص: 593 ] المشاهدة ، فالمعنى : ورأيت ناسا كثيرين أو رأيت العرب .

قال ابن عطية : قال أبو عمر بن عبد البر النمري - رحمه الله - في كتاب الاستيعاب في باب خراش الهذلي : " لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي العرب رجل كافر ، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف ، منهم من قدم ومنهم من قدم وافده " اهـ . وإنما يراد عرب الحجاز ونجد واليمن ; لأن من عرب الشام والعراق من لم يدخلوا في الإسلام ، وهم تغلب وغسان في مشارف الشام ، وكذلك لخم وكلب من العراق ، فهؤلاء كانوا نصارى ولم يسلم من أسلم منهم إلا بعد فتح الشام والعراق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلون في دين الله رؤية بصرية .

ويجوز أن يكون الله أعلمه بذلك إن جعلنا الرؤية علمية .

والأفواج : جمع فوج وهو الجماعة الكثيرة ، وتقدم عند قوله تعالى : هذا فوج مقتحم معكم في سورة ص ، أي : يدخلون في الإسلام ، وانتصب ( أفواجا ) على الحال من ضمير ( يدخلون ) .

وجملة فسبح بحمد ربك جواب ( إذا ) باعتبار ما تضمنته من معنى الشرط ، وفعل ( فسبح ) هو العامل في ( إذا ) النصب على الظرفية ، والفاء رابطة للجواب ; لأنه فعل إنشاء .

وقرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحق للحمد ; لأن باء المصاحبة بمعنى ( مع ) فهي مثل ( مع ) في أنها تدخل على المتبوع ، فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام شيئا مفروغا منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه ; لأن شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قد فعله ، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره .

ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيح ابتهاج وتعجب من تيسير الله تعالى له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك ، فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى :

[ ص: 594 ]

قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر


وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب في تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة كما قال ابن أبي الصلت :


إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه عن تعرضه الثناء


فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخلو عن تسبيح الله ، فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإسلام .

وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حيز جواب ( إذا ) ، وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في فسبح بحمد ربك ، فيدل على أنه استغفار خاص ; لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقد قال : ( إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماء إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم ينو من قبل ، وهو التهيؤ للقاء الله ، وأن حياته الدنيوية أوشكت على الانتهاء ، وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبيء - صلى الله عليه وسلم - في رفع درجاته عند ربه ، فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة ، أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه ، مثل فداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة ، فعوتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى الآية ، أو من ضرورات الإنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فكان هذا إيذانا باقتراب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية .

والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإكثار من قول ذلك ، وقد دل ذوق الكلام بعض ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى وغاصت عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله وابن مسعود ، فعن مقاتل : ( لما نزلت قرأها [ ص: 595 ] النبيء - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس ، فقال له النبيء - صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عم ؟ قال : نعيت إليك نفسك . فقال : إنه لكما تقول . ) وفي رواية : نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما ، فقالا : فيه نعي رسول الله ، فقال النبيء - صلى الله عليه وسلم : صدقتما نعيت إلي نفسي .

وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس : كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم ، فوجد بعضهم من ذلك ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة إذا جاء نصر الله والفتح فقالوا : أمر الله نبيئه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال : ما تقول يا ابن عباس ؟ قلت : ليس كذلك ، ولكن أخبر الله نبيئه حضور أجله فقال : إذا جاء نصر الله والفتح فذلك علامة موتك ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول . فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه .

وقال في الكشاف : روي أنه لما نزلت خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل . فعلم أبو بكر فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا اهـ .

قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف : " الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة " اهـ . ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية الكشاف والثانية عند خطبة النبيء - صلى الله عليه وسلم - في مرضه .

وعن ابن مسعود أن هذه السورة تسمى سورة التوديع أي : لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .

وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار ; لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب ، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى ، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه ، وهو أداء العبد ما يجب عليه لشكر المنعم ، فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده ، فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد ، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده ; لأنه طلبه الله أن يعفو عما يؤاخذه عليه .

[ ص: 596 ] ومقتضى الظاهر أن يقول : فسبح بحمده ، لتقدم اسم الجلالة في قوله : إذا جاء نصر الله فعدل على الضمير إلى الاسم الظاهر وهو ربك لما في صفة ( رب ) وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام نعمة أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته ، فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب ; لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإبلاغ إلى الكمال .

وقد انتهى الكلام عند قوله ( واستغفره ) وقد روي ( أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان في قراءته يقف عند ( واستغفره ) ثم يكمل السورة ) .


إنه كان توابا ( 3 )

تذييل للكلام السابق كله وتعليل لما يقتضي التعليل فيه من الأمر باستغفار ربه باعتبار الصريح من الكلام السابق كما سيتبين لك .

وتواب : مثال مبالغة من تاب عليه . وفعل تاب المتعدي بحرف ( على ) يطلق بمعنى وفق للتوبة ، أثبته في اللسان والقاموس ، وهذا الإطلاق خاص بما أسند إلى الله .

وقد اشتملت الجملة على أربع مؤكدات هي : إن ، وكان ، وصيغة المبالغة في التواب ، وتنوين التعظيم فيه .

وحيث كان التوكيد بـ ( إن ) هنا غير مقصود به رد إنكار ولا إزالة تردد ، إذ لا يفرضان في جانب المخاطب - صلى الله عليه وسلم - فقد تمحض ( إن ) لإفادة الاهتمام بالخبر بتأكيده . وقد تقرر أن من شأن ( إن ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غناء فاء الترتيب والتسبب وتفيد التعليل وربط الكلام بما قبله كما تفيده الفاء ، وقد تقدم غير مرة ، منها عند قوله تعالى : إنك أنت العليم الحكيم في سورة البقرة ، فالمعنى : هو شديد القبول لتوبة عباده كثير قبوله إياها .

وإذ قد كان الكلام تذييلا وتعليلا للكلام السابق تعين أن حذف متعلق ( توابا ) يقدر بنحو : على التائبين . وهذا المقدر مراد به العموم ، وهو عموم [ ص: 597 ] مخصوص بالمشيئة تخصصه أدلة وصف الربوبية ، ولما ذكر دليل العموم عقب أمره بالاستغفار أفاد أنه إذا استغفره غفر له ، دلالة تقتضيها مستتبعات التراكيب ، فأفادت هذه الجملة تعليل الأمر بالاستغفار ; لأن الاستغفار طلب الغفر ، فالطالب يترقب إجابة طلبه ، وأما ما في الجملة من الأمر بالتسبيح والحمد فلا يحتاج إلى تعليل ; لأنهما إنشاء تنزيه وثناء على الله .

ومن وراء ذلك أفادت الجملة إشارة إلى وعد بحسن القبول عند الله تعالى حينما يقدم على العالم القدسي ، وهذا معنى كنائي ; لأن من عرف بكثرة قبول توبة التائبين شأنه أن يكرم وفادة الوافدين الذين سعوا جهودهم في مرضاته بمنتهى الاستطاعة ، أو هو مجاز بعلاقة اللزوم العرفي ; لأن منتهى ما يخافه الأحبة عند اللقاء مرارة العتاب ، فالإخبار بأنه تواب اقتضى أنه لا يخاف عتابا .

فهذه الجملة بمدلولها الصريح ومدلولها الكنائي أو المجازي ومستتبعاتها تعليل لما تضمنته الجملة التي قبلها من معنى صريح أو كنائي يناسبه التعليل بالتسبيح والحمد باعتبارهما تمهيدا للأمر بالاستغفار كما تقدم آنفا لا يحتاجان إلى التعليل ، أو يغني تعليل الممهد له بهما عن تعليلهما ، ولكنهما باعتبار كونهما رمزا إلى مداناة وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون ما في قوله : إنه كان توابا من الوعد بحسن القبول تعليلا لمدلولهما الكنائي ، وأما الأمر بالاستغفار فمناسبة التعليل له بقوله : إنه كان توابا ناهضة باعتبار كلتا دلالتيه الصريحة والكنائية ، أي أنه متقبل استغفارك ومتقبلك بأحسن قبول ، شأن من عهد من الصفح والتكرم .

وفعل كان هنا مستعمل في لازم معنى الاتصاف بالوصف في الزمن الماضي ، وهو أن هذا الوصف ذاتي له لا يتخلف معموله عن عباده فقد دل استقراء القرآن على إخبار الله عن نفسه بذلك من مبدأ الخليقة قال تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم .

ومقتضى الظاهر أن يقال : إنه كان غفارا ، كما في آية فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا فيجري الوصف على ما يناسب قوله ( واستغفره ) ، فعدل عن ذلك تلطفا مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن أمره بالاستغفار ليس مقتضيا إثبات ذنب له لما علمت آنفا من أن وصف ( توابا ) جاء من تاب عليه الذي يستعمل بمعنى وفقه [ ص: 598 ] للتوبة إيماء إلى أن أمره بالاستغفار إرشاد إلى مقام التأدب مع الله تعالى ، فإنه لا يسأل عما يفعل بعباده ، لولا تفضله بما بين لهم من مراده ، ولأن وصف ( توابا ) أشد ملائمة لإقامة الفاصلة مع فاصلة ( أفواجا ) ; لأن حرف الجيم وحرف الباء كليهما حرف من الحروف الموصوفة بالشدة ، بخلاف حرف الراء فهو من الحروف التي صفتها بين الشدة والرخوة .

وروي في الصحيح عن عائشة قالت : ( ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول : سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن ) أي : يتأول الأمر في قوله : فسبح بحمد ربك واستغفره على ظاهره كما تأوله في مقام آخر على معنى اقتراب أجله - صلى الله عليه وسلم .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( قل يا أيها الكافرون ( 1 ) لا أعبد ما تعبدون ( 2 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 3 ) ولا أنا عابد ما عبدتم ( 4 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 5 ) لكم دينكم ولي دين ( 6 ) )



مقدمة

عنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها وفي معظم التفاسير ( سورة الكافرون ) بإضافة ( سورة ) إلى ( الكافرون ) وثبوت واو الرفع في ( الكافرون ) على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها .

ووقع في الكشاف وتفسير ابن عطية وحرز الأماني ( سورة الكافرين ) بياء الخفض في لفظ ( الكافرين ) بإضافة ( سورة ) إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين ، أو نداء الكافرين ، وعنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه سورة ( قل يا أيها الكافرون ) .

قال في الكشاف والإتقان : وتسمى هي وسورة ( قل هو الله أحد ) بالمقشقشتين ; لأنهما تقشقشان من الشرك ، أي : تبرئان منه . يقال : قشقش ، إذا أزال المرض .

وتسمى أيضا سورة الإخلاص فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة ( قل هو الله أحد ) .

وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة لأنها تقشقش ، أي : تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركا بين السور الثلاث فيحتاج إلى التمييز .

وقال سعد الله المعروف بسعدي عن جمال القراء : إنها تسمى سورة العبادة . وفي بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي : تسمى ( سورة الدين ) .

وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير ، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية .

[ ص: 580 ] وقد عدت الثامنة عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الماعون وقبل سورة الفيل .

وعدد آياتها ست .


أغراض السورة

وسبب نزولها فيما حكاه الواحدي في أسباب النزول وابن إسحاق في السيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف في الكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل . وكانوا ذوي أسنان في قومهم ، فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد سنة ، وتعبد ما نعبد سنة ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظه منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه ، فقال : معاذ الله أن أشرك به غيره ، فأنزل الله فيهم قل يا أيها الكافرون السورة كلها ، فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم ، فيئسوا منه عند ذلك ، وإنما عرضوا عليه ذلك لأنهم رأوا حرصه على أن يؤمنوا ، فطمعوا أن يستزلوه إلى الاعتراف بإلهية أصنامهم .

وعن ابن عباس : فيئسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه .

وبهذا يعلم الغرض الذي اشتملت عليه ، وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال ، وأن دين الإسلام لا يخالط شيئا من دين الشرك .


قل يا أيها الكافرون ( 1 ) لا أعبد ما تعبدون ( 2 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 3 )

افتتاحها بـ ( قل ) للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه على أنه مرسل بقول يبلغه ، وإلا فإن القرآن كله مأمور بإبلاغه ، ولهذه الآية نظائر في القرآن مفتتحة بالأمر بالقول في غير جواب عن [ ص: 581 ] سؤال منها قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله في سورة الجمعة . والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور : قل أوحي ، وسورة الكافرون ، وسورة الإخلاص ، والمعوذتان ، فالثلاث الأول لقول يبلغه ، والمعوذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه .

والنداء موجه للأربعة الذين قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم : فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله : ولا أنتم عابدون ما أعبد كما سيأتي .

وابتدئ خطابهم بالنداء لإبلاغهم ; لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقى عليهم .

ونودوا بوصف الكافرين تحقيرا لهم وتأييدا لوجه التبرؤ منهم ، وإيذانا بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يكرهون مما يثير غضبهم ; لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم . قال القرطبي : قال أبو بكر بن الأنباري : إن المعنى : قل للذين كفروا يا أيها الكافرون . أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم : يا أيها الكافرون . وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر .

فقوله : لا أعبد ما تعبدون إخبار عن نفسه بما حصل منها .

والمعنى : لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقا ; لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال ، فإذا دخل عليه ( لا ) النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في الكشاف ، وهو قول جمهور أهل العربية . ومن أجل ذلك كان حرف ( لن ) مفيدا تأكيد النفي في المستقبل زيادة على منطلق النفي ، ولذلك قال الخليل : أصل ( لن ) : لا أن ، فلما أفادت ( لا ) وحدها نفي المستقبل كان تقدير ( أن ) بعد ( لا ) مفيدا تأكيد ذلك النفي في المستقبل ، فمن أجل ذلك قالوا : إن ( لن ) تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن ( لا ) كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل . وخالفهم ابن مالك كما في مغني اللبيب ، وأبو حيان كما قال في هذه السورة ، والسهيلي عند كلامه على نزول هذه السورة في الروض الأنف .

[ ص: 582 ] ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب ، ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة .

ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله : ولا أنتم عابدون ، أي : ما أنتم بمغيرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه أن يبتدئوا هم فيعبدوا الرب الذي يعبده النبيء - صلى الله عليه وسلم - سنة ، وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ .

وهذا إخباره إياهم بأنه يعلم أنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيئه - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فكان قوله هذا من دلائل نبوءته نظير قوله تعالى : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فإن أولئك النفر الأربعة لم يسلم منهم أحد فماتوا على شركهم .

وماصدق ما أعبد هو الله تعالى وعبر بـ ( ما ) الموصولة ; لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار ، وإنما تختص ( من ) بالعاقل ، فلا مانع من إطلاق ( ما ) على العاقل إذا كان اللبس مأمونا . وقال السهيلي في الروض الأنف : أن ( ما ) الموصولة يؤتى بها لقصد الإبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب : سبحان ما سبح الرعد بحمده ، وقوله تعالى : والسماء وما بناها كما تقدم في سورة الشمس .


ولا أنا عابد ما عبدتم ( 4 )

عطف على ولا أنتم عابدون ما أعبد عطف الجملة على الجملة لمناسبة نفي أن يعبدوا الله ، فأردف بنفي أن يعبد هو آلهتهم ، وعطفه بالواو صارف عن أن يكون المقصود به تأكيد لا أعبد ما تعبدون فجاء به على طريقة ولا أنتم عابدون ما أعبد بالجملة الاسمية . للدلالة على الثبات ، ويكون الخبر اسم فاعل دالا على زمان الحال ، فلما نفى عن نفسه أن يعبد في المستقبل ما يعبدونه بقوله : لا أعبد ما تعبدون كما تقدم آنفا ، صرح هنا بما تقتضيه دلالة الفحوى على نفي أن يعبد آلهتهم في الحال ، بما هو صريح الدلالة على ذلك ; لأن المقام يقتضي مزيد البيان ، فاقتضى الاعتماد على دلالة المنطوق إطنابا في الكلام ، لتأييسهم مما راودوه عليه ولمقابلة كلامهم المردود بمثله في إفادة الثبات . وحصل من ذلك تقرير [ ص: 583 ] المعنى السابق وتأكيده ، تبعا لمدلول الجملة لا لموقعها ; لأن موقعها أنها عطف على جملة ولا أنتم عابدون ما أعبد وليس توكيدا لجملة لا أعبد ما تعبدون بمرادفها ; لأن التوكيد للفظ بالمرادف لا يعرف إلا في المفردات ولأن وجود الواو يعين أنها معطوفة ، إذ ليس في جملة لا أعبد ما تعبدون واو حتى يكون الواو في هذه الجملة مؤكدا لها .

ولا يجوز الفصل بين الجملتين بالواو ; لأن الواو لا يفصل بها بين الجملتين في التوكيد اللفظي . والأجود الفصل بـ ( ثم ) كما في التسهيل مقتصرا على ( ثم ) . وزاد الرضي الفاء ولم يأت له بشاهد ولكنه قال وقد تكون ( ثم ) والفاء لمجرد التدرج في الارتقاء ، وإن لم يكن المعطوف مترتبا في الذكر على المعطوف عليه وذلك إذا تكرر الأول بلفظه نحو : بالله ، فالله ، ونحو والله ، ثم والله .

وجيء بالفعل الماضي في قوله : ما عبدتم للدلالة على رسوخهم في عبادة الأصنام من أزمان مضت ، وفيه رمز إلى تنزهه - صلى الله عليه وسلم - من عبادة الأصنام من سالف الزمان وإلا لقال : ولا أنا عابد ما كنا نعبد .


ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 5 )

عطف على جملة ولا أنا عابد ما عبدتم لبيان تمام الاختلاف بين حالهم وحاله وإخبار بأنهم لا يعبدون الله إخبارا ثانيا تنبيها على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدون الله ، وتقوية لدلالة هذين الإخبار عن نبوءته - صلى الله عليه وسلم - فقد أخبر عنهم بذلك ، فمات أولئك كلهم على الكفر وكانت هذه السورة من دلائل النبوءة .

وقد حصل من ذكر هذه الجملة بمثل نظيرتها السابقة توكيد للجملة السابقة توكيدا للمعنى الأصلي منها ، وليس موقعها موقع التوكيد لوجود واو العطف كما علمت آنفا في قوله : ولا أنا عابد ما عبدتم .

ولذلك فالواو في قوله هنا ولا أنتم عابدون ما أعبد عاطفة جملة على جملة لأجل ما اقتضته جملة ولا أنا عابد ما عبدتم من المناسبة .

ويجوز أن تكون جملة ولا أنتم عابدون ما أعبد تأكيدا لفظيا لنظيرتها [ ص: 584 ] السابقة بتمامها بما فيها من واو العطف في نظيرتها السابقة وتكون جملة ولا أنا عابد ما عبدتم معترضة بين التأكيد والمؤكد .

والمقصود من التأكيد تحقيق تكذيبهم في عرضهم أنهم يعبدون رب محمد صلى الله عليه وسلم .


لكم دينكم ولي دين ( 6 )

تذييل وفذلكة للكلام السابق بما فيه من التأكيدات ، وقد أرسل هذا الكلام إرسال المثل ، وهو أجمع وأوجز من قول قيس بن الخطيم :


نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف


ووقع في تفسير الفخر هنا ( جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز ; لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به ، بل ليتدبر فيه ثم يعمل بموجبه ) اهـ .

وهذا كلام غير محرر ; لأن التمثل به لا ينافي العمل بموجبه ، وما التمثل به إلا من تمام بلاغته واستعداد للعمل به . وهذا المقدار من التفسير تركه الفخر في المسودة .

وقدم في كلتا الجملتين المسند على المسند إليه ليفيد قصر المسند إليه على المسند ، أي : دينكم مقصور على الكون بأنه لكم لا يتجاوزكم إلى الكون لي ، وديني مقصور على الكون بأنه لا يتجاوزني إلى كونه لكم ، أي : لأنهم محقق عدم إسلامهم . فالقصر قصر إفراد ، واللام في الموضعين لشبه الملك وهو الاختصاص أو الاستحقاق .

والدين : العقيدة والملة ، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها ، فلذلك سمي دينا ; لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء .

وقرأ الجمهور ( دين ) بدون ياء بعد النون على أن ياء المتكلم محذوفة للتخفيف مع بقاء الكسرة على النون . وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف . وقد كتبت هذه الكلمة في المصحف بدون ياء اعتمادا على حفظ الحفاظ ; لأن الذي يثبت الياء مثل يعقوب يشبع الكسرة ، إذ ليست الياء إلا مدة للكسرة فعدم رسمها في الخط لا يقتضي إسقاطها في اللفظ .

[ ص: 585 ] وقرأ نافع والبزي عن ابن كثير وهشام عن أبي عامر وحفص عن عاصم بفتح الياء في قوله ( ولي ) . وقرأه قنبل عن ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف بسكون الياء .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( إنا أعطيناك الكوثر ( 1 ) فصل لربك وانحر ( 2 ) إن شانئك هو الأبتر ( 3 ) )



مقدمة

سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا ( سورة الكوثر ) وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه . وعنونها البخاري في صحيحه سورة ( إنا أعطيناك الكوثر ) ولم يعدها في الإتقان مع السور التي ليس لها أكثر من اسم .

ونقل سعد الله الشهير بسعدي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن البقاعي أنها تسمى ( سورة النحر ) وهل هي مكية أو مدنية ؟ تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا ، فهي مكية عند الجمهور واقتصر عليه أكثر المفسرين ، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال : أجمع من نعرفه على أنها مكية . قال الخفاجي : وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها .

وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا ، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ثم قال : أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة الحديث . وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ ( آنفا ) في كلام النبيء - صلى الله عليه وسلم - مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب ، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا .

ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى : إن شانئك هو الأبتر أن تكون السورة مكية ، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى : ( وانحر ) من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى - تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى : إن شانئك هو الأبتر [ ص: 572 ] ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك .

والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها .

وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر ، وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل : إنها نزلت في الحديبية .

وعدد آيها ثلاث بالاتفاق .

وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف ، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ، ولكن كلماتها أكثر .


أغراض السورة

اشتملت على بشارة النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة .

وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة .

وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى ; لأنهم أبغضوا رسوله ، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله .

وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا ; لأن ذلك لا أثر له في كمال الإنسان .


إنا أعطيناك الكوثر ( 1 ) فصل لربك وانحر ( 2 )

افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر ، والإشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإشعار بتنويه شأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في إنا أنزلناه في ليلة القدر والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق .

وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم .

والكوثر : اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زنة فوعل ، وهي من صيغ [ ص: 573 ] الأسماء الجامدة غالبا نحو الكوكب ، والجورب ، والحوشب والدوسر ، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها ، ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى ، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة ، وهو أحسن ما فسر به وأضبطه ، ونظيره : جوهر ، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوه ، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء ; لأن الصومعة دقيقة ; لأن طولها أفرط من غلظها .

ويوصف الرجل صاحب الخير الكثير بكوثر من باب الوصف بالمصدر ، كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي :


وصاحب ملحوب فجعنا بفقده وعند الرداع بيت آخر كوثر


( ملحوب والرداع ) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة ، فوصف البيت بالكوثر ، ولاحظ الكميث هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان :


وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقايل كوثرا​


وسمي نهر الجنة كوثرا كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفا .

وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير ، وروي عن ابن عباس قال سعيد بن جبير : فقلت لابن عباس : إن ناسا يقولون هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير . وعن عكرمة : الكوثر هنا : النبوءة والكتاب ، وعن الحسن : هو القرآن ، وعن المغيرة : أنه الإسلام ، وعن أبي بكر بن عياش : هو كثرة الأمة ، وحكى الماوردي : أنه رفعة الذكر ، وأنه نور القلب ، وأنه الشفاعة . وكلام النبيء - صلى الله عليه وسلم - المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره .

وأريد من هذا الخبر بشارة النبيء - صلى الله عليه وسلم - وإزالة ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه : هو أبتر ، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر ، إبطالا لقولهم .

وقوله : فصل لربك اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه [ ص: 574 ] عليها ، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته .

وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء : إنه أبتر ، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى : أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى لأنهم إنما نهوه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم ، وكذلك النحر لله .

والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله : فصل لربك دون : فصل لنا ، لما في لفظ الرب من الإيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلا عن فرط إنعامه .

وإضافة ( رب ) إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبيء - صلى الله عليه وسلم - وتقريبه ، وفيه تعريض بأنه يربه ويرأف به .

ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر - خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له ، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين في سورة الحجر .

ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صد المشركين إياه عن البيت في الحديبية ، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيرا كثيرا ، أي : قدره له في المستقبل وعبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب : أفتح هذا ؟ قال : نعم .

وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير : أن قوله : فصل لربك وانحر أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرف من الحديبية .

وأفادت اللام من قوله ( لربك ) أنه يخص الله في صلاته فلا يصلي لغيره . ففيه تعريض للمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها .

وعطف ( وانحر ) على فصل لربك يقتضي تقدير متعلقه مماثلا لمتعلق [ ص: 575 ] فصل لربك لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر أي : وأبصر بهم ، فالتقدير : وانحر له . وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانا للأصنام ، فإن كانت السورة مكية ، فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبل البعثة وبعدها وقد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته ، وهو يود أن يطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرج من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم ، فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين ، أي : لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناويا بما تنحره أنه لله .

وإن كانت السورة مدنية وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مرادا به الضحايا يوم عيد النحر ، ولذلك قال كثير من الفقهاء : إن قوله : فصل لربك مراد به صلاة العيد . وروي ذلك عن مالك في تفسير الآية وقال : لم يبلغني فيه شيء .

وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالة على أن الضحية تكون بعد الصلاة ، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر ، وأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يضح إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يوم النحر ، وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفا . ويرشح إيثار النحر رعي فاصلة الراء في السورة . وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير ( انحر ) تجعله لفظا غريبا .


إن شانئك هو الأبتر ( 3 )

استئناف يجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا ، ويجوز أن تكون الجملة تعليلا لحرف ( إن ) إذا لم يكن لرد الإنكار ، يكثر أن يفيد التعليل كما تقدم عند قوله تعالى : قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم في سورة البقرة .

واشتمال الكلام على صيغة قصر وعلى ضمير غائب وعلى لفظ الأبتر مؤذن بأن [ ص: 576 ] المقصود به رد كلام صادر من معين ، وحكاية لفظ مراد بالرد ، قال الواحدي : قال ابن عباس : إن العاصي بن وائل السهمي رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الحرام عند باب بني سهم فتحدث معه ، وأناس من صناديد قريش في المسجد ، فلما دخل العاصي عليهم قالوا له : من الذي كنت تتحدث معه ؟ فقال : ذلك الأبتر . وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن مات ابنه القاسم قبل عبد الله ، فانقطع بموت عبد الله الذكور من ولده - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ، وكانوا يصفون من ليس له ابن بأبتر ، فأنزل الله هذه السورة ، فحصل القصر في قوله : إن شانئك هو الأبتر لأن ضمير الفصل يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف ، وهو شانئ النبيء - صلى الله عليه وسلم - قصر المسند على المسند إليه وهو قصر قلب ، أي : هو الأبتر لا أنت .

والأبتر : حقيقته المقطوع بعضه وغلب على المقطوع ذنبه من الدواب ، ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيها بالدابة المقطوع ذنبها تشبيه معقول بمحسوس كما في الحديث ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر ) ، يقال : بتر شيئا ، إذا قطع بعضه ، وبتر بالكسر كفرح فهو أبتر ، ويقال للذي لا عقب له ذكورا : هو أبتر ، على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس ، شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها ; لأنه قطع أثره في تخيل أهل العرف .

ومعنى الأبتر في الآية : الذي لا خير فيه . وهو رد لقول العاصي بن وائل أو غيره في حق النبيء - صلى الله عليه وسلم ، فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر دون المعنى الذي عناه هو ، حيث لمز النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأنه أبتر ، أي لا عقب له ; لأن العاصي بن وائل له عقب فابنه عمرو الصحابي الجليل ، وابن ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل ، ولعبد الله عقب كثير . قال ابن حزم في الجمهرة : عقبه بمكة وبالرهط .

فقوله تعالى : هو الأبتر اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانئ النبيء - صلى الله عليه وسلم - ونفيها عن النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه .

[ ص: 577 ] ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل محمد أبتر إبطالا لقوله ذلك ، وكان عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لاعقب له تعين أن يكون هذا الإبطال ضربا من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أن الأحق غير ما عناه من كلامه ، كقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج . وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظ الخير ، أي : ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له ; لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله . وهب أنه لم يولد له البتة ، وإنما اصطلح الناس على اعتباره نقصا لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية ، فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر ، وذلك أمر قد يعرض وقد لا يعرض ، أو لمحبة ذكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي ، والنبيء - صلى الله عليه وسلم - قد أغناه الله بالقناعة وأعزه بالتأييد ، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه ، فتمحض أن كماله الذاتي بما علمه الله فيه ، إذ جعل فيه رسالته ، وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته ، إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم .

وفي الآية محسن الاستخدام التقديري ; لأن سوق الإبطال بطريق القصر بقوله : هو الأبتر نفي وصف الأبتر عن النبيء - صلى الله عليه وسلم ، ولكن بمعنى غير المعنى الذي عناه شانئه فهو استخدام ينشأ من صيغة القصر بناء على أن ليس الاستخدام منحصرا في استعمال الضمير في غير معنى معاده ، على ما حققه أستاذنا العلامة سالم أبو حاجب وجعله وجها في واو العطف من قوله تعالى : وجاء ربك والملك ; لأن العطف بمعنى إعادة العامل ، فكأنه قال : وجاء الملك ، وهو مجيء مغاير لمعنى مجيء الله تعالى ، قال : وقد سبقنا الخفاجي إلى ذلك ، إذ أجراه في حرف الاستثناء في طراز المجالس في قول محمد الصالحي من شعراء الشام :


وحديث حبي ليس بال منسوخ إلا في الدفاتر


والشانئ : المبغض ، وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ، ويقال فيه : الشنآن ، وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبيء - صلى الله عليه وسلم ، فأما من أسلموا منهم فقد انقلب بعضهم محبة له واعتزازا به .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( أرأيت الذي يكذب بالدين ( 1 ) فذلك الذي يدع اليتيم ( 2 ) ولا يحض على طعام المسكين ( 3 ) فويل للمصلين ( 4 ) الذين هم عن صلاتهم ساهون ( 5 ) الذين هم يراءون ( 6 ) ويمنعون الماعون ( 7 ) )



مقدمة

سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير ( سورة الماعون ) لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها .

وسميت في بعض التفاسير ( سورة أرأيت ) وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس ، وكذلك عنونها في صحيح البخاري .

وعنونها ابن عطية بـ ( سورة أرأيت الذي ) . وقال الكواشي في التلخيص ( سورة الماعون ، والدين ، وأرأيت ) ، وفي الإتقان : وتسمى ( سورة الدين ) وفي حاشيتي الخفاجي وسعدي تسمى ( سورة التكذيب ) وقال البقاعي في نظم الدرر تسمى ( سورة اليتيم ) . وهذه ستة أسماء .

وهي مكية في قول الأكثر . وروي عن ابن عباس ، وقال القرطبي عن قتادة : هي مدنية . وروي عن ابن عباس أيضا . وفي الإتقان : قيل نزل ثلاث أولها بمكة أي : إلى قوله : المسكين وبقيتها نزلت بالمدينة ، أي : بناء على أن قوله : فويل للمصلين إلى آخر السورة أريد بها المنافقون وهو مروي عن ابن عباس وقاله هبة الله الضرير وهو الأظهر .

وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور بناء على أنها مكية ، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون .

وعدت آياتها ستا عند معظم العادين : وحكى الآلوسي أن الذين عدوا آياتها ستا أهل العراق ( أي البصرة والكوفة ) ، وقال الشيخ علي النوري الصفاقسي [ ص: 564 ] في غيث النفع : وآيها سبع حمصي ( أي : شامي ) وست في الباقي . وهذا يخالف ما قاله الآلوسي .


أغراض السورة

من مقاصد التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين ، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة ; لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه .


أرأيت الذي يكذب بالدين ( 1 ) فذلك الذي يدع اليتيم ( 2 ) ولا يحض على طعام المسكين ( 3 )

الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء ، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع ، فالتعجب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوق ; لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام ، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثارا للتعجب فيترقب السامع ماذا يرد بعده وهو قوله : فذلك الذي يدع اليتيم .

وفي إقحام اسم الإشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كمال تمكن .

وأصل ظاهر الكلام أن يقال : أرأيت الذي يكذب بالدين فيدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين .

والإشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته ، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه .

والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في [ ص: 565 ] الحكم المقصود من الكلام ، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحدا مثل قوله تعالى : والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا .

فمعنى الآية عطف صفتي : دع اليتيم ، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين .

وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنافيا لما تقتضيه الحكمة من التكليف ، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء .

وجيء في ( يكذب ، يدع ، ويحض ) بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه .

وهذا إيذان بأن الإيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة التي يصير ذلك لها خلقا إذا شبت عليه ، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى أمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وأمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النكراء .

والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد ، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة ، فنزلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصر المشاهد .

وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من ( أرأيت ) ألفا . وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفا وهو الذي قرأنا به في تونس ، وهكذا في فعل ( رأى ) كلما وقع بعد الهمزة استفهام وذلك فرار من تحقيق الهمزتين ، قرأ الجمهور بتحقيقها .

وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل .

واسم الموصول وصلته مراد بهما *** من اتصف بذلك . وأكثر المفسرين درجوا على ذلك .

وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وقيل : في الوليد بن المغيرة [ ص: 566 ] المخزومي ، وقيل : في عمرو بن عائذ المخزومي ، وقيل : في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان ينحر كل أسبوع جزورا فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا . وقيل : في أبي جهل : كان وصيا على يتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا .

والذين جعلوا السورة مدنية قالوا : نزلت في منافق لم يسموه ، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ، ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصصا حكمها بما نزلت بسببه .

ومعنى ( يدع ) يدفع بعنف وقهر ، قال تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا .

والحض : الحث ، وهو أن تطلب غيرك فعلا بتأكيد .

والطعام : اسم الإطعام ، وهو اسم مصدر مضاف إلى مفعوله إضافة لفظية . ويجوز أن يكون الطعام مرادا به ما يطعم كما في قوله تعالى : فانظر إلى طعامك وشرابك فتكون إضافة طعام إلى المسكين معنوية على معنى اللام ، أي : الطعام الذي هو حقه على الأغنياء ويكون فيه تقدير مضاف مجرور بـ ( على ) تقديره : على إعطاء طعام المسكين .

وكني بنفي الحض عن نفي الإطعام ; لأن الذي يشح بالحض على الإطعام هو بالإطعام أشح كما تقدم في قوله : ولا تحاضون على طعام المسكين في سورة الفجر ، وقوله : ولا يحض على طعام المسكين في سورة الحاقة .

والمسكين : الفقير ، ويطلق على الشديد الفقر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين في سورة التوبة .


فويل للمصلين ( 4 ) الذين هم عن صلاتهم ساهون ( 5 ) الذين هم يراءون ( 6 ) ويمنعون الماعون ( 7 )

موقع الفاء صريح في اتصال ما بعدها بما قبلها من الكلام على معنى التفريع والترتيب والتسبب .

[ ص: 567 ] فيجيء على القول أن السورة مكية بأجمعها أن يكون المراد بالمصلين عين المراد بالذي يكذب بالدين ، ويدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ، فقوله ( للمصلين ) إظهار في مقام الإضمار ، كأنه قيل : فويل له على سهوه عن الصلاة ، وعلى الرياء ، وعلى منع الماعون ، دعا إليه زيادة تعداد صفاته الذميمة بأسلوب سليم عن تتابع ست صفات ; لأن ذلك التتابع لا يخلو من كثرة تكرار النظائر فيشبه تتابع الإضافات الذي قيل إنه مناكد للفصاحة ، مع الإشارة بتوسيط ويل له إلى أن الويل ناشئ عن جميع تلك الصفات التي هو أهلها ، وهذا المعنى أشار إليه كلام الكشاف بغموض .

فوصفهم بـ ( المصلين ) إذن تهكم ، والمراد عدمه ، أي : الذين لا يصلون ، أي : ليسوا بمسلمين كقوله تعالى : قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وقرينة التهكم وصفهم بـ الذين هم عن صلاتهم ساهون .

وعلى القول بأنها مدنية أو أن هذه الآية وما بعدها منها مدنية يكون المراد بـ المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون المنافقين . وروى هذا ابن وهب وأشهب عن مالك فتكون الفاء في قوله : فويل للمصلين من هذه الجملة لربطها بما قبلها ; لأن الله أراد ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض .

وجيء في هذه الصفة بصيغة الجمع ; لأن المراد بـ الذي يكذب بالدين : *** المكذبين على أظهر الأقوال . فإن كان المراد به معينا على بعض تلك الأقوال المتقدمة كانت صيغة الجمع تذليلا يشمله وغيره ، فإنه واحد من المتصفين بصفة ترك الصلاة وصفة الرياء ، وصفة منع الماعون .

وقوله : الذين هم عن صلاتهم ساهون صفة للمصلين مقيدة لحكم الموصوف ، فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق .

فيكون قوله : الذين هم عن صلاتهم ساهون ترشيحا للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم .

وعدي ( ساهون ) بحرف ( عن ) لإفادة أنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم وتركوها ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة .

[ ص: 568 ] وقوله : الذين هم عن صلاتهم ساهون يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلا رياء فإذا خلوا تركوا الصلاة .

ويجوز أن يكون معناه : الذين يصلون دون نية وإخلاص فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل ، فيكون إطلاق ( ساهون ) تهكما كما قال تعالى : يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا في المنافقين في سورة النساء .

ويراءون يقصدون أن يرى الناس أنهم على حال حسن وهم بخلافه ليتحدث الناس لهم بمحاسن ، ما هم بموصوفين بها ، ولذلك كثر أن تعطف السمعة على الرياء فيقال : رياء وسمعة . وهذا الفعل وارد في الكلام على صيغة المفاعلة ولم يسمع منه فعل مجرد ; لأنه يلازمه تكرير الإراءة .

والماعون : يطلق على الإعانة بالمال ، فالمعنى : يمنعون فضلهم أو يمنعون الصدقة على الفقراء . فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة .

وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب : الماعون المال بلسان قريش .

وروى أشهب عن مالك : الماعون الزكاة ، ويشهد له قول الراعي :


قوم على الإسلام لما يمنعوا ماعونهم ويضيعوا التهليلا​


لأنه أراد بالتهليل الصلاة ، فجمع بينها وبين الزكاة .

ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية وآلات طبخ وشد وحفر ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطائه ، وعن عائشة : الماعون الماء والنار والملح . وهذا ذم لهم بمنتهى البخل . وهو الشح بما لا يرزؤهم .

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : هم يراءون لتقوية الحكم ، أي : تأكيده .

فأما على القول بأن السورة مدنية أو بأن هذه الآيات الثلاث مدنية يكون المراد بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ، والصلات بعدها : المنافقين ، [ ص: 569 ] فإطلاق المصلين عليهم بمعنى المتظاهرين بأنهم يصلون وهو من إطلاق الفعل على صورته ، كقوله تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة أي : يظهرون أنهم يحذرون تنزيل سورة .

ويمنعون الماعون أي : الصدقة أو الزكاة ، قال تعالى في المنافقين ويقبضون أيديهم فلما عرفوا بهذه الخلال كان مفاد فاء التفريع أن أولئك المتظاهرين بالصلاة وهم تاركوها في خاصتهم هم من جملة المكذبين بيوم الدين ويدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين .

وحكى هبة الله بن سلامة في كتاب الناسخ والمنسوخ : أن هذه الآيات الثلاث نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ، أي : فإطلاق صيغة الجمع عليه مراد بها واحد على حد قوله تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين أي : الرسول إليهم .

والسهو حقيقته : الذهول عن أمر سبق علمه ، وهو هنا مستعار للإعراض والترك عن عمد استعارة تهكمية ، مثل قوله تعالى : وتنسون ما تشركون أي : تعرضون عنهم ، ومثله استعارة الغفلة للإعراض في قوله تعالى : بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين في سورة الأعراف وقوله تعالى : والذين هم عن آياتنا غافلون في سورة يونس ، وليس المقصود الوعيد على السهو الحقيقي عن الصلاة ; لأن حكم النسيان مرفوع على هذه الأمة ، وذلك ينادي على أن وصفهم بالمصلين تهكم بهم بأنهم لا يصلون .

واعلم أنه إذا أراد الله إنزال شيء من القرآن ملحقا بشيء قبله جعل نظم الملحق مناسبا لما هو متصل به ، فتكون الفاء للتفريع . وهذه نكتة لم يسبق لنا إظهارها فعليك ملاحظتها في كل ما ثبت أنه نزل من القرآن ملحقا بشيء نزل قبله منه .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( لإيلاف قريش ( 1 ) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ( 2 ) فليعبدوا رب هذا البيت ( 3 ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( 4 ) )



مقدمة


سميت هذه السورة في عهد السلف ( سورة لإيلاف قريش ) قال عمرو بن ميمون الأودي صلى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية ( ألم تر كيف ) و ( لإيلاف قريش ) وهذا ظاهر في إرادة التسمية ولم يعدها في الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم .

وسميت في المصاحف وكتب التفسير ( سورة قريش ) لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها ، وبذلك عنونها البخاري في صحيحه .

والسورة مكية عند جماهير العلماء . وقال ابن عطية : بلا خلاف . وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية ، ولم يذكرها في الإتقان مع السور المختلف فيها .

وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة .

وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين على أنها سورة خاصة .

وجعلها أبي بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور ، وهو ظاهر خبر عمرو بن ميمون عن قراءة عمر بن الخطاب . والإجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك .

وعدد آياتها أربع عند جمهور العادين . وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات .

ورأيت في مصحف عتيق من المصاحف المكتوبة في القيروان عددها أربع آيات مع أن قراءة أهل القيروان قراءة أهل المدينة .


أغراض السورة

أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيرا لهم بنعمة أن الله مكن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديا يعدو عليهم .

وبأنه أمنهم من المجاعات وأمنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم ; لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة .

وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة .

ورد القبائل فلا يغير على بلدهم أحد . قال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم .


لإيلاف قريش ( 1 ) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ( 2 ) فليعبدوا رب هذا البيت ( 3 ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( 4 )

افتتاح مبدع ، إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثره بالقرب ما يصلح للتعليق به ، ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور . وزاده الطول تشويقا ، إذ فصل بينه وبين متعلقه ( بالفتح ) بخمس كلمات ، فيتعلق ( لإيلاف ) بقوله ( فليعبدوا ) .

وتقديم هذا المجرور للاهتمام به ، إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام ، والمجرور متعلق بفعل ( ليعبدوا ) .

وأصل نظم الكلام : لتعبد قريش رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فلما اقتضى قصد الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله ، تولد من تقديمه معنى جعله شرطا لعامله ، فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط ، فالفاء الداخلة في قوله ( فليعبدوا ) مؤذنة بأن ما قبلها من قوة الشرط ، أي : مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام [ ص: 555 ] خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه ، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه ، وهذا أسلوب من الإيجاز بديع .

قال في الكشاف ( دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط ; لأن المعنى إما لا فليعبدوه لإيلافهم ، أي أن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة اهـ .

وقال الزجاج في قوله تعالى : وربك فكبر دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره اهـ . وهو معنى ما في الكشاف . وسكتا عن منشأ حصول معنى الشرط ، وذلك أن مثل هذا جار عند تقديم الجار والمجرور ونحوه من متعلقات الفعل وانظر قوله تعالى : وإياي فارهبون في سورة البقرة ، ومنه قوله تعالى : فبذلك فليفرحوا في سورة يونس ، وقوله : فلذلك فادع واستقم في سورة الشورى . وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله عن الجهاد ، فقال له ألك أبوان ؟ فقال : نعم . قال : ففيهما فجاهد .

ويجوز أن تجعل اللام متعلقة بفعل ( اعجبوا ) محذوفا ينبئ عنه اللام لكثرة وقوع مجرور بها بعد مادة التعجب ، يقال : عجبا لك ، وعجبا لتلك القضية ، ومنه قول امرئ القيس "

فيا لك من ليل
" ; لأن حرف النداء مراد به التعجب فتكون الفاء في قوله ( فليعبدوا ) تفريعا على التعجب .

وجوز الفراء وابن إسحاق في السيرة أن يكون لإيلاف قريش متعلقا بما في سورة الفيل من قوله : فجعلهم كعصف مأكول قال القرطبي . وهو معنى قول مجاهد ورواية ابن جبير عن ابن عباس . قال الزمخشري : وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به اهـ . يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورة مستقلة فهي ملحقة بسورة الفيل ، فكما تلحق الآية بآية نزلت قبلها ، تلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها .

والإيلاف : مصدر أألف بهمزتين بمعنى ألف وهما لغتان ، والأصل هو ألف ، وصيغة الإفعال فيه للمبالغة ; لأن أصلها أن تدل على حصول الفعل من الجانبين ، فصارت تستعمل في إفادة قول الفعل مجازا ثم شاع ذلك في بعض الأفعال حتى ساوى الحقيقة مثل سافر ، وعافاه الله ، وقاتلهم الله .

[ ص: 556 ] وقرأه الجمهور في الموضعين ( لإيلاف ) بياء بعد الهمزة وهي تخفيف للهمزة الثانية . وقرأه ابن عامر ( لإلاف ) الأول بحذف الياء التي أصلها همزة ثانية ، وقرأه ( إيلافهم ) بإثبات الياء مثل الجمهور . وقرأ أبو جعفر ( ليلاف قريش ) بحذف الهمزة الأولى . وقرأ ( إلافهم ) بهمزة مكسورة من غير ياء .

وذكر ابن عطية والقرطبي أن أبا بكر عن عاصم قرأ بتحقيق الهمزتين في ( لإألاف ) وفي ( إألافهم ) ، وذكر ابن عطية عن أبي علي الفارسي أن تحقيق الهمزتين لا وجه له . قلت : لا يوجد في كتب القراءات التي عرفناها نسبة هذه القراءة إلى أبي بكر عن عاصم . والمعروف أن عاصما موافق للجمهور في جعل ثانية الهمزتين ياء ، فهذه رواية ضعيفة عن أبي بكر عن عاصم .

وقد كتب في المصحف ( إلافهم ) بدون ياء بعد الهمزة ، وأما الألف المدة التي بعد اللام التي هي عين الكلمة فلم تكتب في الكلمتين في المصحف على عادة أكثر المدات مثلها ، والقراءات روايات وليس خط المصحف إلا كالتذكرة للقارئ ، ورسم المصحف سنة متبعة سنها الصحابة الذين عينوا لنسخ المصاحف . وإضافة ( إيلاف ) إلى قريش على معنى إضافة المصدر إلى فاعله وحذف مفعوله ; لأنه هنا أطلق بالمعنى الاسمي لتلك العادة فهي إضافة معنوية بتقدير اللام .

وقريش : لقب الجد الذي يجمع بطونا كثيرة ، وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة . هذا قول جمهور النسابين وما فوق فهر فهم من كنانة ، ولقب فهر بلقب قريش بصيغة التصغير ، وهو على الصحيح تصغير قرش بفتح القاف وسكون الراء وشين معجمة اسم نوع من الحوت قوي يعدو على الحيتان وعلى السفن .

وقال بعض النسابين : إن قريشا لقب النضر بن كنانة . وروي عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن قريش فقال : من ولد النضر ، وفي رواية أنه قال : إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا . فجميع أهل مكة هم قريش ، وفيهم كانت مناصب أهل مكة في الجاهلية موزعة بينهم ، وكانت بنو كنانة بخيف منى ، ولهم مناصب في أعمال الحج خاصة ، منها النسيء .

وقوله ( إيلافهم ) عطف بيان من إيلاف قريش وهو من أسلوب [ ص: 557 ] الإجمال ، فالتفصيل للعناية بالخبر ليتمكن في ذهن السامع ، ومنه قوله تعالى : لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات حكاية لكلام فرعون ، وقول امرئ القيس :


ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة


والرحلة بكسر الراء : اسم للارتحال ، وهو المسير من مكان إلى آخر بعيد ، ولذلك سمي البعير الذي يسافر عليه راحلة .

وإضافة رحلة إلى الشتاء من إضافة الفعل إلى زمانه الذي يقع فيه ، فقد يكون الفعل مستغرقا لزمانه مثل قولك : سهر الليل ، وقد يكون وقتا لابتدائه مثل صلاة الظهر ، وظاهر الإضافة أن رحلة الشتاء والصيف معروفة معهودة ، وهما رحلتان . فعطف ( والصيف ) على تقدير مضاف ، أي : ورحلة الصيف ، لظهور أنه لا تكون رحلة واحدة تبتدأ في زمانين فتعين أنهما رحلتان في زمنين .

وجوز الزمخشري : أن يكون لفظ ( رحلة ) المفرد مضافا إلى شيئين لظهور المراد وأمن اللبس ، وقال أبو حيان : هذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة .

والشتاء : اسم لفصل من السنة الشمسية المقسمة إلى أربعة فصول . وفصل الشتاء تسعة وثمانون يوما وبضع دقائق مبدؤها حلول الشمس في برج الجدي . ونهايتها خروج الشمس من برج الحوت ، وبروجه ثلاثة : الجدي ، والدلو ، والحوت ، وفصل الشتاء مدة البرد .

والصيف : اسم لفصل من السنة الشمسية ، وهو زمن الحر ، ومدته ثلاثة وتسعون يوما وبضع ساعات ، مبدؤها حلول الشمس في برج السرطان ونهايته خروج الشمس من برج السنبلة ، وبروجه ثلاثة ، السرطان ، والأسد ، والسنبلة .

قال ابن العربي : قال مالك : الشتاء نصف السنة والصيف نصفها ، ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن معه لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا ، ( يعني طلوع الثريا عند الفجر ، وذلك أول فصل الصيف ) وهو يوم التاسع عشر من ( بشنس ) وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس اهـ . وشهر بشنس هو التاسع من أشهر السنة القبطية المجزأة إلى اثني عشر شهرا .

[ ص: 558 ] وشهر بشنس يبتدأ في اليوم السادس والعشرين من شهر نيسان ( أبريل ) وهو ثلاثون يوما ينتهي يوم 25 من شهر ( إيار - مايه ) .

وطلوع الثريا عند الفجر ، وهو يوم تسعة عشر من شهر بشنس من أشهر القبط . قال أيمة اللغة : فالصيف عند العامة نصف السنة وهو ستة أشهر ، والشتاء نصف السنة وهو ستة أشهر .

والسنة بالتحقيق أربعة فصول : الصيف : ثلاثة أشهر ، وهو الذي يسميه أهل العراق وخراسان الربيع ، ويليه القيظ ثلاثة أشهر ، وهو شدة الحر ، ويليه الخريف ثلاثة أشهر ، ويليه الشتاء ثلاثة أشهر . وهذه الآية صالحة للاصطلاحين . واصطلاح علماء الميقات تقسيم السنة إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء ، ومبدأ السنة الربيع هو دخول الشمس في برج الحمل . وهاتان الرحلتان هما رحلة تجارة وميرة كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين من السنة إحداهما في الشتاء إلى بلاد الحبشة ، ثم اليمن يبلغون بها بلاد حمير ، والأخرى في الصيف إلى الشام يبلغون بها مدينة بصرى من بلاد الشام .

وكان الذين سن لهم هاتين الرحلتين هاشم بن عبد مناف ، وسبب ذلك أنهم كانوا يعتريهم خصاصة ، فإذا لم يجد أهل بيت طعاما لقوتهم حمل رب البيت عياله إلى موضع معروف فضرب عليهم خباء وبقوا فيه حتى يموتوا جوعا ، ويسمى ذلك الاعتفار ( بالعين المهملة وبالراء ، وقيل : بالدال عوض الراء وبفاء ) فحدث أن أهل بيت من بني مخزوم أصابتهم فاقة شديدة فهموا بالاعتفار فبلغ خبرهم هاشما ; لأن أحد أبنائهم كان تربا لأسد بن هاشم ، فقام هاشم خطيبا في قريش وقال : إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعز العرب وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تبع ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم ، ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم ، وفيه يقول مطرود الخزاعي :


يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها والراحلون لرحلة الإيلاف
والخالطون غنيهم بفقيرهم حتى يصير فقيرهم كالكافي


[ ص: 559 ] ولم تزل الرحلتان من إيلاف قريش حتى جاء الإسلام وهم على ذلك .

والمعروف المشهور أن الذي سن الإيلاف هو هاشم ، وهو المروي عن ابن عباس وذكر ابن العربي عن الهروي : أن أصحاب الإيلاف هاشم وإخوته الثلاثة الآخرون : عبد شمس ، والمطلب ، ونوفل . وأن واحدا منهم أخذ حبلا - أي عهدا - من أحد الملوك الذين يمرون في تجارتهم على بلادهم وهم ملك الشام ، وملك الحبشة ، وملك اليمن ، وملك فارس ، فأخذ هاشم هذا من ملك الشام وهو ملك الروم ، وأخذ عبد شمس من نجاشي الحبشة وأخذ المطلب من ملك اليمن ، وأخذ نوفل من كسرى ملك فارس ، فكانوا يجعلون جعلا لرؤساء القبائل وسادات العشائر يسمى الإيلاف أيضا ، يعطونهم شيئا من الربح ويحملون إليهم متاعا ويسوقون إليهم إبلا مع إبلهم ليكفوهم مئونة الأسفار وهم يكفون قريشا دفع الأعداء ، فاجتمع لهم بذلك أمن الطريق كله إلى اليمن وإلى الشام ، وكانوا يسمون المجيرين .

وقد توهم النقاش من هذا أن لكل واحد من هؤلاء الأربعة رحلة ، فزعم أن الرحل كانت أربعا ، قال ابن عطية : وهذا قول مردود . وصدق ابن عطية ، فإن كون أصحاب العهد الذي كان به الإيلاف أربعة لا يقتضي أن تكون الرحلات أربعا ، فإن ذلك لم يقله أحد . ولعل هؤلاء الإخوة كانوا يتداولون السفر مع الرحلات على التناوب ؛ لأنهم المعروفون عند القبائل التي تمر عليهم العير ، أو لأنهم توارثوا ذلك بعد موت هاشم فكانت تضاف العير إلى أحدهم كما أضافوا العير التي تعرض المسلمون لها يوم بدر عير أبي سفيان ، إذ هو يومئذ سيد أهل الوادي بمكة .

ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم ، إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين ، وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وأن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها .

وعند القبائل التي تحرم الأشهر الحرم والقبائل التي لا تحرمها مثل طيء وقضاعة وخثعم ، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها ، ولاذ [ ص: 560 ] بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم ، وأصحاب التجارات يحملونهم سلعهم ، وصارت مكة وسطا تجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد ، فاستغنى أهل مكة بالتجارة ، إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع ، إذ كانوا بواد غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بر وشعير وذرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية ، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية ، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم ، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت .

فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإيلاف مع أن لله عليهم نعما كثيرة ; لأن هذا الإيلاف كان سببا جامعا لأهم النعم التي بها قوام بقائهم .

وقد تقدم آنفا الكلام على معنى الفاء من قوله : فليعبدوا رب هذا البيت على الوجوه كلها .

والعبادة التي أمروا بها عبادة الله وحده دون إشراك الشركاء معه في العبادة ; لأن إشراك من لا يستحق العبادة مع الله الذي هو الحقيق بها ليس بعبادة أو لأنهم شغلوا بعبادة الأصنام عن عبادة الله فلا يذكرون الله إلا في أيام الحج في التلبية على أنهم قد زاد بعضهم فيها بعد قولهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .

وتعريف ( رب ) بالإضافة إلى هذا البيت دون أن يقال : فليعبدوا الله ، لما يومئ إليه لفظ ( رب ) من استحقاقه الإفراد بالعبادة دون شريك .

وأوثر إضافة ( رب ) إلى هذا البيت دون أن يقال : ربهم للإيماء إلى أن البيت هو أصل نعمة الإيلاف بأن أمر إبراهيم ببناء البيت الحرام ، فكان سببا لرفعة شأنهم بين العرب . قال تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس وذلك إدماج للتنويه بشأن البيت الحرام وفضله .

والبيت معهود عند المخاطبين .

[ ص: 561 ] والإشارة إليه ; لأنه بذلك العهد كان كالحاضر في مقام الكلام على أن البيت بهذا التعريف باللام صار علما بالغلبة على الكعبة ورب البيت هو الله ، والعرب يعترفون بذلك .

وأجري وصف الرب بطريقة الموصول الذي أطعمهم من جوع لما يؤذن به من التعليل للأمر بعبادة رب البيت الحرام بعلة أخرى زيادة على نعمة تيسير التجارة لهم ، وذلك مما جعلهم أهل ثراء ، وهما نعمة إطعامهم وأمنهم . وهذه إشارة إلى ما يسر لهم من ورود سفن الحبشة في البحر إلى جدة تحمل الطعام ليبيعوه هناك ، فكانت قريش يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين ، وكان أهل تبالة وجرش من بلاد اليمن المخصبة يحملون الطعام في مكة ، فكانوا في سعة من العيش بوفر الطعام في بلادهم كذلك يسر لهم إقامة الأسواق حول مكة في أشهر الحج وهي سوق مجنة ، وسوق ذي المجاز ، وسوق عكاظ ، فتأتيهم فيها الأرزاق ويتسع العيش ، وإشارة إلى ما ألقي في نفوس العرب من حرمة مكة وأهلها فلا يريدهم أحد بتخويف ، وتلك دعوة إبراهيم - عليه السلام - إذ قال : رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات فلم يتخلف ذلك عنهم إلا حين دعا عليهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - بدعوته : اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف فأصابتهم مجاعة وقحط سبع سنين وذلك أول الهجرة .

و ( من ) الداخلة على ( جوع ) وعلى ( خوف ) معناها البدلية ، أي : أطعمهم بدلا من الجوع وآمنهم بدلا من الخوف . ومعنى البدلية هو أن حالة بلادهم تقتضي أن يكون أهلها في جوع . فإطعامهم بدل من الجوع الذي تقتضيه البلاد ، وأن حالتهم في قلة العدد وكونهم أهل حضر وليسوا أهل بأس ولا فروسية ولا شكة سلاح تقتضي أن يكونوا معرضين لغارات القبائل ، فجعل الله لهم الأمن في الحرم عوضا عن الخوف الذي تقتضيه قلتهم قال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم .

وتنكير ( جوع ) و ( خوف ) للنوعية لا للتعظيم ، إذ لم يحل بهم جوع وخوف من قبل ، قال مساور بن هند في هجاء بني أسد :

[ ص: 562 ]

زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف
أولئك أومنوا جوعا وخوفا وقد جاعت بنو أسد وخافوا
 
بسم الله الرحمن الرحيم

( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( 1 ) ألم يجعل كيدهم في تضليل ( 2 ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل ( 3 ) ترميهم بحجارة من سجيل ( 4 ) فجعلهم كعصف مأكول ( 5 ) )



مقدمة

وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة ( ألم تر ) . روى القرطبي في تفسير ( سورة قريش ) عن عمرو بن ميمون قال : صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية ( ألم تر ) و ( لإيلاف قريش ) . وكذلك عنونها البخاري . وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير ( سورة الفيل ) .

وهي مكية بالاتفاق .

وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور . نزلت بعد سورة ( قل يا أيها الكافرون ) وقبل ( سورة الفلق ) . وقيل : قبل ( سورة قريش ) لقول الأخفش إن قوله تعالى : لإيلاف قريش متعلق بقوله : فجعلهم كعصف مأكول ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ، ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا : روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش ، أي : ولم يكن الصحابة يقرءون في الركعة من صلاة الفرض سورتين ; لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة ، فدل أنهما عنده سورة واحدة . ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل ، فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون .

وآيها خمس .


أغراض السورة

وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله ، وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو [ ص: 544 ] أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم ، وذلك ما سماه الله كيدا ، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله .

وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبيء - صلى الله عليه وسلم - عند الله ، إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته .

ومن وراء ذلك تثبيت النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يدفع عنه كيد المشركين ، فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه ويشعر بهذا قوله : ألم نجعل كيدهم في تضليل .

ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره ، وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبيء - صلى الله عليه وسلم - تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا .

ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين : أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله ، وثانيهما أن لا يتخذ منه المشركون غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر الآية ، وقوله : وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون.


ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( 1 )

استفهام تقريري ، وقد بينا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثير ما يكون على نفي المقرر بإثباته للثقة ، فإن المقرر لا يسعه إلا إثبات المنفي ، وانظر عند قوله تعالى : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم في سورة البقرة ، والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم ، وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته ، وعليه فالتقرير مستعمل مجازا في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - فيكون من باب قوله : لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد [ ص: 545 ] وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم ، إذ لم يزالوا يعبدون غيره .

والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - كما يقتضيه قوله ( ربك ) . فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى الآيات ، وقوله : لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد على أحد الوجوه المتقدمة .

فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه . وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة سودا مخططة بحمرة . وقال عتاب بن أسيد : أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس . وقالت عائشة : لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس ، وفعل الرؤية معلق بالاستفهام .

ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسب لمن تجاوز سنه نيفا وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاما أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف .

و ( كيف ) للاستفهام سد مسد مفعولين أو مفعول ( تر ) ، أي : ألم تر جواب هذا الاستفهام كما تقول : علمت هل زيد قائم ؟ وهو نصب على الحال من فاعل ( تر ) . ويجوز أن يكون ( كيف ) مجردا عن معنى الاستفهام مرادا منه مجرد الكيفية ، فيكون نصبا على المفعول به .

وإيثار ( كيف ) دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل : ألم تر ما فعل ربك ، أو الذي فعل ربك ، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة .

وأوثر لفظ فعل ربك دون غيره ; لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالا كثيرة لا يدل عليها غيره .

وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف ( رب ) مضافا إلى ضمير النبيء - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 546 ] إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبيء - صلى الله عليه وسلم - إرهاصا لنبوته ، إذ كان ذلك عام مولده .

وأصحاب الفيل : الحبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمرين هدم الكعبة انتقاما من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج . وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عذب فيها الملك ذو نواس النصارى ، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلا يقال له أبرهة ، وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القليس ( بفتح القاف وكسر اللام بعدها تحتية ساكنة ، وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية ، وفي القاموس بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء ، وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القلس للارتفاع ، ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ ، فإما أن يكون اسم *** للكنيسة ، ولعل لفظ كنيسة في العربية معرب منه ، وإما أن يكون علما وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة ) وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة ، فروي أن رجلا من بني فقيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى : إنما النسيء زيادة في الكفر في سورة براءة ، قصد الكناني صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيرا لها ليتسامع العرب بذلك ، فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة ، وسار حتى نزل خارج مكة ليلا بمكان يقال له المغمس ( كمعظم ) موضع قرب مكة في طريق الطائف ) أو ذو الغميس لم أر ضبطه وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام ، وأمر عبد المطلب آله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا مكة ، فلما أصبح هيأ جيشه لدخول مكة وكان أبرهة راكبا فيلا وجيشه معه ، فبينا هو يتهيأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجدري الفتاك يتساقط منه الأنامل ، ورأوا قبل ذلك طيرا ترميهم بحجارة لا تصيب أحدا إلا هلك وهي طير من جند الله ، فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ، ومرض أبرهة فقفل راجعا إلى صنعاء مريضا ، فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوهم . وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط ( فبراير ) [ ص: 547 ] سنة 570 بعد ميلاد عيسى - عليه السلام - وبعد هذا الحادث بخمسين يوما ولد النبيء - صلى الله عليه وسلم - على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير .

والتعريف في ( الفيل ) للعهد ، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة ، مع أن في الجيش جمالا أخرى . وقد قيل : إن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد ، هو فيل أبرهة وكان اسمه محمودا . وقيل : كان فيه فيلة أخرى ، قيل ثمانية ، وقيل : اثنا عشر . وقال بعض : ألف فيل ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب :


أنت منعت الحبش والأفيالا


فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفادا من الإضافة .

والفيل : حيوان عظيم من ذوات الأربع ذوات الخف ، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان ، ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوبا ، وهو ذكي قابل للتأنس والتربية ، ضخم الجثة أضخم من البعير ، وأعلى منه بقليل وأكثر لحما وأكبر بطنا . وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جدا له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ، ويدفع به عن نفسه ، يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه . وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان ، وذنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة ، ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخذ الناس منها العاج ، وجلده أجرد مثل جلد البقر ، أصهب اللون قاتم كلون الفار ، ويكون منه الأبيض الجلد . وهو مركوب وحامل أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود . ولم يكن الفيل معروفا عند العرب ، فلذلك قل أن يذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة .

وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة ، ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيما قويا ، قال لبيد :


ومقام ضيق فرجته ببيان ولسان وجدل
[ ص: 548 ] لو يقوم الفيل أو فياله زل عن مثل مقامي ورحل

وقال كعب بن زهير في قصيدته :


لقد أقوم مقاما لو يقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له من الرسول بإذن الله تنويل​


وكنت رأيت أن . . . قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ، ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة .

وعن عائشة وعتاب بن أسيد : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .

والمعنى : ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل ، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده .


ألم يجعل كيدهم في تضليل ( 2 ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل ( 3 ) ترميهم بحجارة من سجيل ( 4 ) فجعلهم كعصف مأكول ( 5 )

هذه الجمل بيان لما في جملة ألم تر كيف فعل ربك من الإجمال ، وسمى حربهم كيدا ; لأنه عمل ظاهره الغضب من فعل الكناني الذي قعد في القليس ، وإنما هو تعلة تعللوا بها لإيجاد سبب لحرب أهل مكة وهدم الكعبة لينصرف العرب إلى حج القليس في صنعاء فيتنصروا .

أو أريد بكيدهم بناؤهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء .

والكيد : الاحتيال على إلحاق ضر بالغير ومعالجة إيقاعه .

والتضليل : جعل الغير ضالا ، أي : لا يهتدي لمراده ، وهو هنا مجاز في الإبطال وعدم نوال المقصود ; لأن ضلال الطريق عدم وصول السائر .

وظرفية الكيد في التضليل مجازية ، استعير حرف الظرفية لمعنى المصاحبة [ ص: 549 ] الشديدة ، أي : أبطل كيدهم بتضليل ، أي : مصاحبا للتضليل لا يفارقه ، والمعنى : أنه أبطله إبطالا شديدا ، إذ لم ينتفعوا بقوتهم مع ضعف أهل مكة وقلة عددهم . وهذا كقوله تعالى : وما كيد فرعون إلا في تباب أي : ضياع وتلف ، وقد شمل تضليل كيدهم جميع ما حل بهم من أسباب الخيبة وسوء المنقلب .

وجملة وأرسل عليهم طيرا أبابيل يجوز أن تجعل معطوفة على جملة فعل ربك بأصحاب الفيل ، أي : وكيف أرسل عليهم طيرا من صفتها كيت وكيت ، فبعد أن وقع التقرير على ما فعل الله بهم من تضليل كيدهم عطف عليه تقرير بعلم ما سلط عليهم من العقاب على كيدهم تذكيرا بما حل بهم من نقمة الله تعالى ، لقصدهم تخريب الكعبة ، فذلك من عناية الله ببيته لإظهار توطئته لبعثة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بدينه في ذلك البلد ، إجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام - فكما كان إرسال الطير عليهم من أسباب تضليل كيدهم ، كان فيه جزاء لهم ، ليعلموا أن الله مانع بيته ، وتكون جملة ألم يجعل كيدهم في تضليل معترضة بين الجملتين المتعاطفتين .

ويجوز أن تجعل وأرسل عليهم عطفا على جملة ألم يجعل كيدهم في تضليل فيكون داخلا في حيز التقرير الثاني بأن الله جعل كيدهم في تضليل ، وخص ذلك بالذكر لجمعه بين كونه مبطلا لكيدهم وكونه عقوبة لهم ، ومجيئه بلفظ الماضي باعتبار أن المضارع في قوله : ألم يجعل كيدهم في تضليل قلب زمانه إلى المضي لدخول حرف ( لم ) كما تقدم في قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى في سورة الضحى ، فكأنه قيل : أليس جعل كيدهم في تضليل .

والطير : اسم ، جمع طائر ، وهو الحيوان الذي يرتفع بالجو بعمل جناحيه . وتنكيره للنوعية ; لأنه نوع لم يكن معروفا عند العرب . وقد اختلف القصاصون في صفته اختلافا خياليا . والصحيح ما روي عن عائشة : أنها أشبه شيء بالخطاطيف ، وعن غيرها أنها تشبه الوطواط .

وأبابيل : جماعات . قال الفراء وأبو عبيدة : أبابيل اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل عباديد وشماطيط وتبعهما الجوهري ، وقال الرؤاسي والزمخشري : واحد [ ص: 550 ] أبابيل إبالة مشددة الموحدة مكسورة الهمزة . ومنه قولهم في المثل : ضغث على إبالة ، وهي الحزمة الكبيرة من الحطب ، وعليه فوصف الطير بأبابيل على وجه التشبيه البليغ .

وجملة ( ترميهم ) حال من ( طيرا ) وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة في زمن الحال ومنه قوله تعالى : ( والله الذي أرسل الريح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ) الآية .

وحجارة : اسم جمع حجر .

وعن ابن عباس قال : طين في حجارة ، وعنه أن سجيل معرب ( سنك كل ) من الفارسية ، أي : عن كلمة ( سنك ) وضبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف ، اسم الحجر ، وكلمة ( كل ) بكسر الكاف اسم الطين وجموع الكلمتين يراد به الآجر .

وكلتا الكلمتين بالكاف الفارسية المعمدة وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف ، ولذلك تكون ( من ) بيانية ، أي : حجارة هي سجيل ، وقد عد السبكي كلمة سجيل في منظومته في المعرب الواقع في القرآن .

وقد أشار إلى أصل معناه قوله تعالى : لنرسل عليهم حجارة من طين مع قوله في آيات أخر حجارة من سجيل فعلم أنه حجر أصله طين .

وجاء نظيره في قصة قوم لوط في سورة هود وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود وفي سورة الحجر فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل فتعين أن تكون الحجارة التي أرسلت على أصحاب الفيل من *** الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ، أي : ليست حجرا صخريا ولكنها طين متحجر دلالة على أنها مخلوقة لعذابهم .

قال ابن عباس : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده ، فكان ذلك أول الجدري . وقال عكرمة : إذا أصاب أحدهم منها خرج به الجدري .

[ ص: 551 ] وقد قيل : إن الجدري لم يكن معروفا في مكة قبل ذلك .

وروي أن الحجر كان قدر الحمص ، روى أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي قال : رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص حمرا بحتمة ( أي سوداء ) كأنها جزع ظفار . وعن ابن عباس : أنه رأى من هذه الحجارة عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة بالجزع الظفاري .

والعصف : ورق الزرع وهو جمع عصفة . والعصف إذا دخلته البهائم فأكلته داسته بأرجلها وأكلت أطرافه وطرحته على الأرض بعد أن كان أخضر يانعا . وهذا تمثيل لحال أصحاب الفيل بعد تلك النضرة والقوة كيف صاروا متساقطين على الأرض هالكين .​
 
أعلى