"وقصة اختراق الحجاب ليلة الإسراء والمعراج جاءت في كتاب منسوب إلى الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما ويسمى "الإسراء والمعراج للإمام ابن عباس رضي الله عنهما".
قلت: وهو مليء بالكذب والأباطيل، وابن عباس بريء من هذا الكتاب الذي اشتهر وانتشر لصغر حجمه، حيث يحتوي على ست وأربعين صفحة ورخص ثمنه واحتوائه على عجائب منكرة يستميل بها القصاص والوعاظ قلوب العوام.
ففي (ص26): جاءت قصة اختراق الحجاب، حيث نُسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثم تقدمت أمامي فلم أر أخي جبريل معي، فقلت: يا أخي يا جبريل، أفي مثل هذا المكان يفارق الخليل خليله والأخ أخاه، فَلِمَ تركتني وتخلفت عني؟ فنادى: يَعِزُّ عليَّ أن أتخلف عنك، والذي بعثك بالحق نبيًا ما منا إلا له مقام معلوم، ولو أن أحدًا منا تجاوز مقامه لاحترق بالنور، قال صلى الله عليه وسلم : فلما قال لي هذا المقال وضعت يدي على وجهي وأخذتني الرَّعدة والخوف، فضمني جبريل إلى صدره بجناحه، وقال لي: لا تخف ولا تحزن إنما عرج بك ربك ليحييك ويكرمك ويصطفيك ويعطيك، فلما قال لي هذا المقال خفَّ عني كل ما أجده، وإذ بالنداء من قبل الله تعالى: زُجوا حبيبي محمدًا في النور، فأتتني الملائكة برفرف أخضر كمثل المقعد يحمله أربعة من الملائكة فوضعوه بين يدي وقالوا لي: ارق يا محمد، فاستويت على الرفرف فسار بي كالسهم يخرج من القوس، وبينما أنا أتفكر وقد أخذتني الهيبة مما رأيت من الجلال والكمال والبهاء والعظمة وهيبة الله، نوديت: يا أحمد، أمامك أمامك، أدن مني، فخطوت خطوة مسيرة خمسمائة عام، فقيل لي: يا أحمد لا تخف ولا تحزن، فسكن قلبي مما كنت أجده، وأخذ ذلك الرفرف يعلو بي حتى قربني من حضرة سيدي ومولاي، فأبصرت أمرًا عظيمًا لا تناله الأوهام ولا تبلغه الخواطر، سبحانه وتعالى مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فدنوت من ربي حتى صرت منه كقاب قوسين أو أدنى فوضع سبحانه يده بين كتفي ولم تكن يدًا محسوسة كيد المخلوقين، بل يد قدرة وإرادة، فوجدت بردها على كبدي، فذهب عني كل ما كنت أجده وأورثني علم الأولين والآخرين وملئت فرحًا وسرورًا فأخذني عند ذلك الثبات والسكون، فظننت أن من في السماوات والأرض قد ماتوا إلا أنا لا أسمع هناك لا حسًا ولا حركة، ثم رجع إليَّ عقلي وتفكرت فيما أنا فيه من الشرف العظيم، فنوديت: يا أحمد، ادن مني، فقلت: إلهي وسيدي ومولاي، أنت السلام ومنك السلام، فناداني ثانيًا: ادن مني، فدنوت منه، فقال: وعليك السلام...".
- وقصة الرفرف الأخضر، واختراق الحجاب وتأخر جبريل: ليلة الإسراء أوردها الإمام ابن عراق في "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (1-155: 169) في حديث ابن عباس الطويل، حيث بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة سطر، وفيه بعض الزيادات التي نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:
أ- فلما أسرى بي إلى العرش وحاذيت به ودلي لي رفرف أخضر لا أطيق وصفه لكم، فأهوى بي جبريل فأقعدني عليه ثم قصر دوني ورد يديه على عينيه مخافة على بصره أن يلتمع من تلألؤ نور العرش، وأنشأ يبكي بصوت رفيع ويسبح الله تعالى ويحمده ويثني عليه، فرفعني ذلك الرفرف بإذن الله ورحمته إياي وتمام نعمته عليَّ إلى قرب سيد العرش، إلى أمر عظيم لا تناله الألسن ولا تبلغه الأوهام.
ب- فنظرت إليه فإذا هو حين كشف عنه حجبه مستو على عرشه في وقاره وعزه ومجده وعلوه.
ج- فمال إليَّ من وقاره بعض الميل فأدناني منه، فذلك قوله في كتابه يخبركم فعاله بي وإكرامه إياي: ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى، حيث مال إليَّ فقربني منه قدر ما بين طرفي القوسين.
د- فلما مال إليَّ من وقاره سبحانه وتعالى وضع إحدى يديه بين كتفي، فلقد وجدت برد أنامله على فؤادي حينًا، ووجدت عند ذلك حلاوته وأطيب ريحه وبرد لذاذته وكرامة رؤيته، وظننت أن من في الأرض والسماوات ماتوا كلهم.
التخريج والتحقيق للقصة
الحديث الذي جاءت به هذه القصة: أخرجه ابن مردويه في "التفسير" من حديث ابن عباس من طريق ميسرة ابن عبد ربه، كذا في "تنزيه الشريعة" (1-169)، وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" (3-11) قال: أخبرنا محمد بَدْوست النسوي: قال: حدثنا حميد بن زِنْجوَيه قال: حدثنا محمد بن أبي خِداش الموصلي قال: حدثنا علي بن قتيبة عن ميسرة بن عبد ربه قال: حدثنا عمر بن سليمان الدمشقي عن الضّحاك بن مزاحم عن ابن عباس مرفوعًا.
1- قال ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1-169): أخرج ابن حبان قطعة منه.
قلت: وهذا إجمال ما قد فصلنا حيث بيَّنا أنه أخرجه في كتابه "المجروحين" لا في "صحيحه" هذا بالنسبة لمصنفات ابن حبان.
أما قول ابن عراق: "أخرج ابن حبان قطعة منه"، فهو إجمال بالنسبة للمتن، فابن حبان يعرف متن الحديث بطوله، فبعد أن ذكر هذه القطعة من حديث ابن عباس من طريق ميسرة بن عبد ربه عن عمر بن سليمان قال: "فذكره بطوله أكره ذكره لشهرته عند من كتب الحديث وطلبه". اه.
قلت: ثم بيّن الإمام ابن حبان في "المجروحين" (3-11) علة الحديث فقال: "ميسرة بن عبد ربه الفارسي من أهل دَوْرق كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات ويضع المعضلات عن الثقات في الحث على الخير والزجر عن الشر، لا يحل كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار.
قلت: ثم أخرج ابن حبان هذا الحديث دليلاً على أن ميسرة بن عبد ربه يروي الموضوعات، وذكر قطعة منه، ثم قال: "فذكر- أي ميسرة بن عبد ربه- حديثًا طويلاً في قصة المعراج شبيهًا بعشرين ورقة". وعلل ابن حبان عدم ذكره للحديث بطوله حيث قال: "أكره ذكره لشهرته عند من كتب الحديث وطلبه". اه.
2- أورده الإمام البخاري في كتابه "الضعفاء الصغير" ترجمة (355)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه: يُرْمى بالكذب".
3- أورده الإمام النسائي في كتابه "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (580)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه: متروك الحديث".
فائدة
قلت: هذا المصطلح عند النسائي له معناه، حيث قال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" (ص69): "مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه".
4- أورده الدارقطني في كتابه "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (510)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه، بغدادي عن زيد بن أسلم كتاب "العقل" لداود بن المُحبَّر تصنيفه". اه.
فائدة
يتوهم من لا دراية له بهذا الفن أن عبارة الدارقطني هذه لا تدل على الجرح، ولا يدري أن مجرد ذكر اسم الراوي فقط يدل على أنه متروك، يدل على ذلك قول الإمام البرقاني: "طالت محاورتي مع ابن خمكان لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني عفا الله عني وعنهما في المتروكين من أصحاب الحديث، فتقرر بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات".
5- أقر الإمام الذهبي هذه الأقوال في "الميزان" (4-230-8958).
6- ثم ذكر الإمام الذهبي في "الميزان" (3-202-6129) علة أخرى لحديث القصة، فقال: "عمر بن سليمان عن الضحاك، فذكر حديث الإسراء بلفظ موضوع".
وأقره الحافظ ابن حجر في "اللسان" (4-356) (1731-6082)، وبهذا التحقيق حكم الحافظان الذهبي وابن حجر على حديث القصة في ليلة الإسراء بأنه موضوع.
فائدةالموضوع: "هو الكذب المختلق المصنوع وهو شر الضعيف وأقبحه وتحرم روايته مع العلم بوضعه في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب وغيرها إلا مبينًا أي مقرونًا ببيان وضعه". قاله السيوطي في "التدريب" 01-274).